ثقافة و فنونعربي جان كلود كاريير المسرحي و”قاص” السينما غرق في نوم مخيلته by admin 14 فبراير، 2021 written by admin 14 فبراير، 2021 39 الكاتب والفنان المتعدد وضع سيناريوهات أفلام مهمة واقتبس “المهابهاراتا” لبيتر بروك اندبندنت عربية / هوفيك حبشيان كاتب، مخرج، مثقف، ممثل، قاص، سيناريست، مسرحي، مدير مدرسة سينما… يحار الإنسان من أين يبدأ في تناول السيرة الاستثنائية لجان كلود كاريير الذي توفي قبل أيام خلال نومه، في التسعين من عمره. فالرجل عمل في السينما والمسرح والأدب والتلفزيون، ولا يمكن مقالاً واحداً، مهما يكن حجمه، أن يلخص تجربة حياة متشعبة إلى هذا الحد، عاشها صاحبها بطولها وعرضها وعلى أوسع نطاق ثقافي وإنساني. صحيح أنه كان يحلو لكاريير أن يعرف نفسه بصفته “قاصاً”، لكن ربما يجدر بنا حصره، غداة رحيله، ولسبب عملي محض، في المعترك الذي لمع فيه “الكتابة السيناريستية” التي نال عنها في عام 2014 جائزة “أوسكار” شرفية كتكريم له عن مجمل ما قدمه للشاشة طوال حياته. هناك إجماع أن برحيل هذا “الناقل للمعرفة” الذي كرس وقته للآخرين أكثر مما كرسه لنفسه، خسر عالم الثقافة “مكتبة متنقلة” ومثقفاً موسوعياً من النادر أن يتكرر. القاص الواسع المخيلة كان كاريير يعتبر نفسه قاصاً، ويقول إن أهم ما يميز القاص أنه يحكي من دون أن يضع نفسه في صميم الحكاية. فهو أمضى حياته يتنقل من الخيال إلى الحقيقة، ذهاباً وإياباً. في أحد مشاهد “سحر البورجوازية” الذي كتبه، تدرك الشخصيات أنها تتناول العشاء بينما جثة صاحب المطعم على الأرض. مشهد مماثل عاشه كاريير في الحياة بعد سنوات من كتابته للشاشة. الأمر الذي دفعه إلى القول، إن “الحقيقة هي الخصم الأكبر للكاتب”. كاريير مع السينمائي لويس بونويل (صفحة كاريير على فيسبوك) جان كلود كاريير تكثيف لثقافة وفكر وحرفة. ألف رجل في رجل. إنسان شغوف ينبذ الأفكار الجاهزة والمسبقة لأنه تغذى من بعض أنبل القيم التي قام عليها القرن العشرين. لم يبحث عن المجد، ولكنه جاءه من تلقاء ذاته، كما يقول المسرحي بيتر بروك في معرض الحديث عنه “كان فلاحاً مدهوشاً بكل ما يراه”، بحسب بونويل. لا يتردد في أن يطلب من أصدقائه أن يصفعوه إذا ما اشتكى ذات يوم من أمر ما، ذلك أنه كان يعتبر أن الحياة التي عاشها أعظم من أي شيء حلم به في طفولته. فضل الكتابة بخط اليد على الكمبيوتر لأن الأخير يلغي المسودة التي كان يعدها إحدى مراحل الكتابة المهمة. هذا الذي ولد بين كروم فرنسا داخل عائلة من المزارعين و”في منزل لا وجود فيه للكتب” حيث ينظر للكتاب كشيء دخيل، وصلت به الحال في آخر حياته إلى أن يمتلك 20 ألف كتاب موزعة على طابق كامل من شقته الباريسية. ذهب باكراً إلى نقيض بيئة النشأة، فدرس الأدب والتاريخ، لكن سرعان ما تخلى عنهما للانشغال بالكتابة والرسم. روايته الأولى، “وزغة”، التي أبصرت النور نتيجة لقاءاته المتكررة مع الناشر روبير لافون، تعود إلى عام 1957، وهي الفترة التي التقى فيها المخرج جاك تاتي. يقال إن الأخير جعله يشاهد فيلمه “عطلة السيد أولو” قائلاً له “هذه هي السينما”، هو الذي لم يكن يعرف من الأفلام إلا “الديكتاتور العظيم” لشابلن، و”متروبوليس” لفريتس لانغ الذي أدهشه وأخافه عندما شاهده وهو في الحادية عشرة. إلا أن تعرفه على الكوميدي بيار إتيكس هو الذي جعله يضع قدمه داخل السينما، إذ اشتغل معه على أفلامه كسيناريست، منها “عيد ميلاد سعيد” الذي فاز بـ”أوسكار” أفضل فيلم قصير في عام 1962. يمكن الجزم أن بداياته الحقيقية ككاتب سيناريو حدثت في كنف إتيكس. بعد عمله معه، أنجز فيلماً قصيراً، “مقص الأظفار”، بصفته مخرجاً، وفاز عنه بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان “كان” (1969)، لكن تجربة الإخراج ظلت يتيمة ولم تتكرر مع أن الانطلاقة كانت واعدة. 80 سيناريو على الرغم من توقيعه عدداً كبيراً من سيناريوهات أفلام أصبحت من كلاسيكيات السينما يتجاوز عددها 80، فهو، بلا أي شك، مدين بجزء من شهرته وصيته لتعاونه مع المخرج الإسباني المعلم لويس بونويل (1900 – 1983). تطور تحت إشرافه وكان له بمثابة الأب الروحي. بدأ التعاون بينهما في عام 1963، وتحول على مدار 20 سنة (حتى تاريخ وفاة المخرج) إلى إحدى أجمل العلاقات في تاريخ السينما. أول فيلم جمعهما هو “يوميات خادمة”، أفلمة لرواية أوكتاف ميربو، بطولة جان مورو. إنه الفيلم الذي أعاد بونويل إلى العمل في فرنسا بعد فيلمه القصير “العصر الذهبي”. الممثلة كاترين دونوف في فيلم “جميلة النهار” (موقع الفيلم) بعد “يوميات خادمة”، أنجز الثنائي خمسة أفلام، من بينها “جميلة النهار” المقتبس عن رواية جوزف كيسيل، الذي حقق نجاجاً تجارياً ونقدياً مهماً، و”سحر البورجوازية الخفي”، وفيه صب بونويل وكاريير كل “حقدهما” على الطبقة البورجوازية، في نص ساخر يبلغ مرتبة الهجاء، فترشحا عنه لجائزة “أوسكار” أفضل سيناريو أصلي، فيما الفيلم نفسه فاز بجائزة أفضل فيلم أجنبي. تجربة سينمائية أخرى لا بد من أن نتذكرها في رثاء كاريير وهي تعامله مع المخرج التشيكي ميلوش فورمان في ثلاثة أفلام. ففي عام 1971، كتبا معاً سيناريو “تايكينغ أوف”، كوميديا بديعة عن صراع الأجيال، وأول فيلم لفورمان في أميركا بعد هروبه من براغ. فيلمان آخران سيكتبهما كاريير لفورمان وهما “فالمون” (أفلمة لرواية “علاقات خطرة”) و”أشباح غويا” عن سيرة الرسام الإسباني الكبير خلال محاكم التفتيش الإسبانية. يعود له الفضل أيضاً في تحقيق فيلمين فرنسيين مهمين هما “حوض السباحة” (1969) لجاك ديراي مع رومي شنايدر وألان دولون، و”بورسالينو” (للمخرج نفسه) الذي اشتهر بأمرين هما موسيقاه التي ألفها كلود بولينغ، والثنائي، الأنيق دولون وبلمودنو. رواية ميلان كونديرا وكيف يمكن أن ننسى أحد أهم ما فعله، وهو نقل رواية غونتر غراس، “طبل الصفيح”، إلى الشاشة تحت إدارة المخرج الألماني فولكر شلوندورف في عام 1979 (نال “السعفة الذهبية” في كان). أو تجرؤه على تحويل رواية ميلان كونديرا الصعبة، “خفة الكائن التي لا تحتمل”، إلى فيلم سينمائي بتوقيع المخرج الأميركي فيليب كوفمان. نتذكر له أيضاً “سيرانو” (1990) من إخراج جان بول رابونو. تحويل 2600 بيت مقفى إلى قصيدة بصرية كان عملاً شاقاً، لكن ما كان يميز رابونو وكاريير هو أن كليهما كان شاهد مسرحية أدمون روستان في عمر التاسعة على خشبة المسرح. جيرار دوبارديو لعب دور سيرانو دو برجوراك، هو الذي كان لعب أيضاً في فيلم آخر من كتابة كاريير: “عودة مارتان غير” (1983) لدانيال فين الذي نال عنه جائزة “سيزار” أفضل سيناريو. فيلم آخر يعد محطة في سجله هو “المهابهاراتا” لبيتر بروك (1989). عمل كاريير وبروك وماري إيلين إيستيان عشر سنوات لنقل هذه الملحمة المكتوبة باللغة السنسكريتية إلى الشاشة (318 دقيقة)، ولم يتردد في زيارة الهند للبحث والتوثيق. الفيلم هو في الأصل مسرحية “تسع ساعات”، من كتابة كاريير وإخراج بروك، عرضت لأول مرة عام 1985 في مهرجان أفينيون. العلاقة بين كاريير وبروك لا تقتصر فقط على هذا، بل امتدت لأكثر من ربع قرن ونتجت منها عشرات المسرحيات منذ عام 1974. من مسرحية “مهابهاراتا” كما اقتبسها كاريير واخرجها بيتر بروك (صفحة كاريير على فيس بوك) من أعماله اللافتة أيضاً “ميلو في أيار” للوي مال، و”ماكس حبيبي” لناغيثا أوشيما، وعملان لجان لوك غودار هما “الحياة” و”شغف”. إلا أنه، وعلى الرغم من الكتب الـ60 التي ألفها في مجالات مختلفة، وعشرات الأفلام التي وقع نصوصها، فإن تجربة تعاونه مع بونويل تبقى مثالاً يحتذى به. إنه درس للأجيال القادمة، في كيفية تبادل الأفكار والآراء للوصول إلى عمل فني يعطي السيناريو حقه. معاً، أنجزا أفلاماً جميلة كـ”يوميات خادمة” و”جميلة النهار” و”درب التبانة” و”سحر البورجوازية الخفي” و”أشباح الحرية”، وأخيراً، “هذا الشيء الغامض المرغوب”. روى كاريير للصحافي بونوا غوتييه أنه التقى بونويل للمرة الأولى في فندق مونفلوري في كان في عام 1963. كان شاباً لم يكن في رصيده أي شيء مهم، وجد نفسه فجأة في مواجهة غول سينمائي. السؤال الأول الذي طرحه بونويل عليه: “هل تشرب النبيذ؟” كانت هذه مسألة ضرورية في نظره، متأتية من اعتقاده أنه إذا كان كاريير عديم الموهبة، فهناك على الأقل قضية يتحدثان فيها وهي النبيذ. روى كاريير لغوتييه حادثة سفره من باريس إلى مدريد عبر جبال البيرينه لملاقاة بونويل، ووصوله إلى العاصمة الإسبانية بسيارة محطمة. في البداية، كان خاضعاً ودائماً يضطلع بدور “السيد نعم” أمام بونويل، وكان يوافق على كل أطروحاته، ولكن في خلال عشاء مدبر مع المنتج سيرج سيلبرمان، نصحه الأخير بأن يعترض على قرارات بونويل وخياراته. في الواقع كان بونويل هو الذي طلب من سيلبرمان إسداء هذه النصيحة إلى كاريير، فالرجل كان في أمس الحاجة إلى أن يقول أحدهم “لا” في وجهه. “جميلة النهار” عندما كتبا “جميلة النهار”، أمضيا أياماً طويلة في مواخير إسبانية للتشبع بتلك البيئة. جاك لاكان كان يعرض الفيلم على تلاميذه. أما بالنسبة إلى “درب التبانة”، فبدأت عملية الكتابة في خريف 1967، في قرية إسبانية نائية بعيدة عشرة كيلومترات عن أي حياة بشرية. على مدار شهرين كاملين، لم يفعل الثنائي إلا مناقشة بنية الفيلم. بونويل لم يكن يباشر التصوير إلا عندما يكون السيناريو بلغ مرتبة عالية من الدقة، ولكن كان يمنح نفسه حرية التحكم في الهامش التقني، وكان يقرر طبيعة حركات الكاميرا خلال التصوير. كان لبونويل جانب بوذي، يتأمل كثيراً ويحتاج إلى فترات صمت طويلة، وكان التعاون بينهما يتم على أساس اللقاء والانفصال. حتى صَمَم بونويل، لم يشكل عائقاً أمام هذا التعاون الفريد، وكان يردد أنه يعمل مع كاريير لأن الأخير “يمتلك صوتاً أستطيع أن أسمعه حتى عندما يتفوه بحماقات”. أما كاريير فيشهد أن بونويل من الأشخاص “الذين يمكن استشارتهم (في أمور الحياة) حتى بعد موتهم”. عرف كاريير بعشقه للأديان على الرغم من كونه لا يؤمن بحياة بعد الموت. عمل مع دالاي لاما وتقرب من البوذية. كما انغمس في الحضارة الفارسية وتزوج من إيرانية في آخر حياته. الفضول والإنسانوية كانا من أكثر الكلمات تكراراً عند الحديث عن رحيل كاريير الذي يروي كثر أن بيته في الدائرة الرابعة لباريس (ماخور سابق حوله تولوز لوتريك إلى مشغل) كان أضحى محجاً للسينمائيين الذين يرغبون في نصائح. إلا أن أجمل ما قيل فيه خلال اليومين الماضيين جاء على لسان الممثل والمخرج لوي غاريل الذي عمل معه “جان كلود كان كشجرة ضخمة عليها كثير من الأوراق التي لا تضع أحداً في الظل”. المزيد عن: جان كلود كاريير/مسرحي/كاتب سيناريو/قاص/سينمائي/مؤلف فرنسي/لويس بونويل/بيتر بروك 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post حكايات جورج البهجوري وسيرته في رسوم على الورق next post هكذا سقط علماء إيران النوويون بعمليات “غامضة” و”نوعية” You may also like عندما يصبح دونالد ترمب عنوانا لعملية تجسس 24 نوفمبر، 2024 الجزائري بوعلام صنصال يقبع في السجن وكتاب جديد... 24 نوفمبر، 2024 متى تترجل الفلسفة من برجها العاجي؟ 24 نوفمبر، 2024 أليخاندرا بيثارنيك… محو الحدود بين الحياة والقصيدة 24 نوفمبر، 2024 مهى سلطان تكتب عن: الرسام اللبناني رضوان الشهال... 24 نوفمبر، 2024 فيلمان فرنسيان يخوضان الحياة الفتية بين الضاحية والريف 24 نوفمبر، 2024 مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 Leave a Comment Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment.