ثقافة و فنون صبا توفيق وصفي تكتب عن: اليومان صارا خمسة أشهر by admin 16 مارس، 2024 written by admin 16 مارس، 2024 177 أنا مثقلة هذا الصباح بسبب الروتين القاتل الذي يتكرر منذ 155 يوماً، وبسبب هروبي المتكرر من سؤال مجد أو لور عن طعام لا أستطيع توفيره، أو بشأن عودة أقول إنها ستكون غداً، وغداً طال انتظاره. مؤسسة الدراسات الفلسطينية / صبا توفيق وصفي: كاتبة من غزة. في محاولة للمحافظة على توازني النفسي لهذا اليوم، أجلس الآن على الكرسي الخشبي المستند إلى جذع شجرة الزيتون الكبيرة التي تتوسط الباحة الأمامية للبيت (بيت النزوح) الذي نحن فيه، أنا وعائلتي. وأحاول جاهدة الكتابة، لكن صوت الزنانة يكاد يخترق جمجمتي، ليس فقط أذنَي، ويزعجني ألم كتفَيّ ويدَيّ اللتين تتورمان بعد كل حفلة غسيل؛ من غسل، وشطف، وعصر، ونشر لأكوام الغسيل التي تتراكم مدة ثلاثة أيام بسبب انقطاع المياه المتكرر. وأعاني جرّاء التورم في الصباح، والجفاف في الليل ويصحبه حكة مزعجة. كما أستذكر نصيحة أبي في أول أيام الحرب، عندما كانت تسنح الفرصة لأحدنا بمهاتفة الآخر، بألاّ أفكر فيما سيحدث غداً، وأن أحاول أن أعيش كل يوم بيومه، ولا أترك نفسي فريسة للأفكار والتحليلات، وأحاول فعل ذلك بجهد بالغ. أصبحت حياتي كالتالي: أستيقظ صباحاً، وأسأل عن الأخبار، أو تترامى هي إلى مسامعي وأحاول الانشغال. وفي رأسي عدة أمور؛ كالأولاد، وأصوات قصف، والغسيل، والأخبار التي تفيد بارتفاع نسبة الشهداء، ومسألة الخبز والفرن، وتقدُم الدبابات، وأخبار الإخلاء في مناطق جديدة، ووجبة الغداء، والتجهيز لنوم الأطفال. مسألة الخبز والفرن! كانت هذه الفقرة منذ اليوم ثقيلة أكثر من غيرها. حزنت ابنتي لور هذا الصباح – وهي التي ستبلغ السابعة من عمرها في نيسان/أبريل القادم – فهي لم تستوعب اليوم أني لا أملك زعتراً لأصنع لها به منقوشة أخبزها في فرن الطينة، فبكت، وغضبت، وعلا صوتها، وعاتبتني قائلة بحرقة: “فهمنا إنو الجبنة خلصت، طب كمان الزعتر؟ زعتر يا ماما! لا زيت ولا زعتر! بس زعترعم بطلب للمنقوشة!” ما الذي في يدي أن أفعله؟! اليوم عجنّا كي نخبز، ونحن نعجن كل يومَين تقريباً، فرافقتني لور كعادتها بعد أن أقنعتُها بعدم تفويت أول رغيف من الخبز الساخن المنفوخ الشهي، في محاولة يائسة مني لأنسيها منقوشة الزعتر، فقابلنا عند الفرن فتاة صغيرة، تبين لي من حديث أمها مع السيدات اللواتي ينتظرن دورهن أنها نازحة مع أهلها من غزة، وحالها كحالنا وحال معظم الموجودين في المكان. وقد تعمدتُ الحديث إلى لين التي لم تتجاوز الخامسة من عمرها لأشتت انتباهها عن صوت القصف الذي أخافها لتنهي أمها آخر عشرة أرغفة كانت تخبزها، فسألتُها: “طيب! قليلي يا لين شو بتحبي تصيري بس تكبري؟” فأجابت بسرعة: “فراولة.” فأعدتُ الإجابة باندهاش: “فراولة؟! هيك قلتي؟ صح سمعت؟” فأكدت إجابتها بثقة عالية: “آه. فراولة.” وعقدت حاجبَيها، ونظرت إلى أمها بسرعة بعد أن وضعت يدها اليمين على خصرها، وقالت: “ليش ما جبتيلي فراولة؟ مش قلتلك بدي فراولة؟!” جاء صوت أمها خافتاً: “حاضر، إن شاء الله.” لم تستدر أمها أو تنظر إليها، وأكملت وضع أرغفة الخبز الأخيرة في الفرن بيد، والكرتون القليل، الذي شَكَت خلال حديثها صعوبة الحصول عليه، باليد الأُخرى، والنار تشتعل، وأكملت عملها. وبعد ذلك، قامت وحملت صينية الخبز فوق رأسها، وأمسكت يد ابنتها قائلة: “يلا عالبيت.” ماذا يجب على أم لين إجابة ابنتها؟ كيف تشرح لها أنه لا يوجد ما هو أهم من رغيف الخبز؟ كيف تخبرها أن هذا آخر كيس طحين، وأن عليها أن تتقاسم رغيفها مع أحد إخوتها لتوفر أكبر كمية من الخبز للأيام القادمة؟ هل ستتفهم إذا قالت لها إن موسم الفراولة جاء، ومزارع الفراولة جُرفت؟ وماذا يتوجب عليّ أن أقول لابنتي لور عندما تطلب منقوشة في المرة القادمة؟ هل أقول لها “لا زعتر في بلد الزعتر يا عزيزتي”؟! وإن عاد الزعتر، فهل ستذكر لور طعمه الحقيقي بعدما انتشر في كل السوق زعتر بلا طعم أو رائحة؟ لا طعم لشيء هنا، وكل الأشياء باهتة. والأيام بطيئة جداً بعد المئة، وكلها تشبه بعضها. ولا تزال الزنانة تحتل السماء فوق رأسي. وها أنا أبحث عن هواء نقي أُشبع به صدري ليطول نفسي وصبري على كل هذا، لكن عبثاً، فالسماء رمادية من غبار القصف والدمار، والهواء ملوث من حرق أكياس النايلون وزجاجات البلاستيك لإشعال النار والأفران بعد انقطاع الحطب. أحتاج إلى نفس طويل كي أستطيع مدّ ابني مجد – الذي بلغ الثانية عشرة من عمره في كانون الثاني/يناير الماضي – بالقوة والصبر، وهو يردد منذ يومَين: “ماما، أنا مستعد لأن أبقى أسبوعاً كاملاً بلا طعام، لكنني أريد العودة إلى البيت.” فحين نزحنا، كان مجد ولور متحمسَين كثيراً لرحلة خارج البيت تمتد إلى يومَين أو أسبوع كحد أقصى، وفي الليلة نفسها، جاءنا خبر تضرُر بيتنا في إثر قصف البيت المجاور له والبيت الذي وراءه تماماً. قضى مجد أياماً وهو يبكي، ولا نستطيع أو يستطيع ذكر أي شيء يتعلق بالبيت إلاّ وتنهمر دموعه بصورة تحرق القلب. أمس، كررت لور جملتها اليومية التي ترددها قبل النوم مضيفة إليها جملة جديدة: “بدي أروح عالبيت. رمضان قرب يا ماما.” تريد لور فانوس رمضان السنوي، وحبل الزينة المضيء بالنجوم والأقمار الذي تحبه، وتريد أن تأكل سمبوسك!! لكنها لم تقل أو تطلب شيئاً، إنما تكتفي بتقليب الصور على جهازي المحمول ليلاً قبل الذهاب إلى النوم، ثم تطفئه، وتضعه جانباً، وتغمض عينَيها وتنام. بعد 17 يوماً، يُتِمُّ نهاوند – أصغر أولادي – السنة، وقد مرت خمسة أشهر بلا فواكه أو طعام متنوع مغذٍ وضروري لنموه، ومع خمسة أنواع من الحفاضات ومختلف أنواع التحسس الجلدي، وكذلك بعيداً عن سريره، ووسادته، وألعابه، وعربته التي كان يحبها، فضلاً عن خمسة أنواع من الحليب انتهت باستخدامي حليباً لعمر السنة، والذي اضطررتُ إلى استخدامه مبكراً لانقطاع الحليب المناسب لعمره. أنا مثقلة هذا الصباح بسبب الروتين القاتل الذي يتكرر منذ 155 يوماً، وبسبب هروبي المتكرر من سؤال مجد أو لور عن طعام لا أستطيع توفيره، أو بشأن عودة أقول إنها ستكون غداً، وغداً طال انتظاره. كذلك مثقلة جرّاء أملي اليومي بأن أفتح عينيَّ صباحاً وأجد نفسي في البيت الذي، رغماً عني، أفكر في جدرانه، ونوافذه، وأبوابه التي ذهبت، وفي الأيام التي تمضي من عمرنا ونحن لا نفعل شيئاً سوى انتظار توقُف الحرب، وفي السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وكيف أفقدنا كثيراً من أنفسنا. اليومان صارا خمسة أشهر. أريد العودة إلى بيتي. أريد العودة إلى ما تبقى من بيتي. 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post رضوان السيد يكتب عن: الأقليات الأربع والتصدع المستمر next post سيناريوهات الحرب الشاملة بين “حزب الله” وإسرائيل You may also like محمود الزيباوي يكتب عن: فيروز… من فتاةٍ خجولة... 19 نوفمبر، 2024 محمود الزيباوي يكتب عن: أسود منمنمة من موقع... 19 نوفمبر، 2024 براعة باخ في كونشرتوات براندنبورغ وأثرها الدائم 19 نوفمبر، 2024 في روايته الجديدة… أوبير حداد يصوّر الحرب بعيني... 19 نوفمبر، 2024 16 فيلم رعب تسببت بصدمة نفسية لممثليها 19 نوفمبر، 2024 العداوة والعدو كما فهمهما الفلاسفة على مر العصور 19 نوفمبر، 2024 قصة واحدة من أكبر الأكاذيب في تاريخ حكايات... 19 نوفمبر، 2024 أول ترشيحات “القلم الذهبي” تحتفي بالرعب والفانتازيا 17 نوفمبر، 2024 شعراء فلسطينيون في الشتات… تفكيك المنفى والغضب والألم 17 نوفمبر، 2024 “بيدرو بارامو” رواية خوان رولفو السحرية تتجلى سينمائيا 16 نوفمبر، 2024