ثقافة و فنونعربي توماس مان روائي أحوال النفس الإنسانية المريضة by admin 25 مارس، 2023 written by admin 25 مارس، 2023 14 واجه الفساد النازي في ألمانيا فنفي واحرقت كتبه في الساحات العامة اندبندنت عربية \ مشير باسيل عون مفكر لبناني نشأ الكاتب الروائي توماس مان (1875-1955) في أسرة ألمانية بورجوازية مارست مهنة التجارة في مدينة لبك (Lübeck) الشمالية المشهورة بتراثها المعماري والفني. استهل سيرته الأدبية عام 1901 برواية جريئة “بودنبروكس أو سقوط أسرة” (Buddenbrooks)، وتبعتها روايات أُخر أشهرها “موت في البندقية” (Der Tod in Venedig). غير أن رائعته التي ذاع صيتها وأسهمت في نيله جائزة نوبل الأدبية عام 1928، كانت “الجبل السحري” (Der Zauberberg). من مفارقات آرائه السياسية أنه أثناء الحرب العالمية الأولى ناصر ألمانيا في صراعها المرير ومحنتها المصيرية، وأفصح عن تصوره في بحث وجيز عنوانه “استبصارات رجل لا سياسي” (Betrachtungen eines Unpolitischen)، ولكنه ما لبث أن ناهض النازية مناهضة شرسة أفضت به إلى المنفى من بعد أن عمد الحزب النازي إلى حرق كتبه في الساحات العامة وتجريده من جنسيته الألمانية. أقام فترة في فرنسا، ومن ثم في سويسرا. وما لبث أن يمم شطر الولايات المتحدة الأميركية ليقيم فيها زمناً طويلاً حتى عودته إلى ألمانيا عام 1952. إبان منفاه الأميركي هذا حبَّر رباعيته الشهيرة “يوسف وإخوته” (Joseph und seine Brüder)، وأنشأ رواية “الدكتور فاوستوس” (Doktor Faustus). قبل عودته إلى وطنه، نشر في عام 1951 رواية “المصطفى” (Der Erwählte). الطور الأول اللاعقلاني توماس مان، شاعر التأمل في انحطاط المجتمع الإنساني وتلاشي القيم وموت الروح، كان يبحث عن عوارض اللاعقلانية التي تفتك بالإنسان المعاصر، بيد أن تفاقم الانحطاط لا يملك إلا أن يحرر القيم الروحية الضرورية من أجل استنقاذ الذات الإنسانية المعذبة. ومن ثم لا يمكننا أن نفهم عمق المقاصد التي انطوت عليها أعماله من دون التبصر في الاتجاهات اللاعقلانية التي سارت فيها بعض المذاهب الفكرية والأدبية الألمانية، وقد تجلت في تصورات شوبنهاور (1788-1860) وڤاغنر (1813-1883) ونيتشه (1844-1900)، لذلك اتسم إنشاؤه الأول باللاعقلانية الجامحة هذه، وكذلك تأثرت بها آراؤه السياسية في مستهل نشاطه. لا يخفى على أحد أن المجتمع الألماني في مطلع القرن العشرين كان حاقداً حقداً شديداً على السياسة يحتقر ميدانها، ويسفه طرائقها، ويرذل رجالاتها. توماس مان في منزله (مؤسسة توماس مان) كان توماس مان شغوفاً بقوميته الألمانية، من غير أن يناصر الحزب النازي على الإطلاق، لذلك حرص على تأييد السياسة التوسعية الألمانية قبل صعود النازية. دافع عن ألمانيا بسبب تعلقه بقوميته الجرمانية وانتمائه إلى المجتمع الأرستوقراطي. فخاصم أخاه الاشتراكي هاينريش مان (1871-1950) الذي كان يعشق إميل زولا ويستطيب الإقامة في البيئة الفرنسية ويدعم مصالح فرنسا. اقتناع مان الراسخ أملى عليه أن ألمانيا كانت في زمانه كياناً لاعقلانياً يسلك مسلكاً غريباً لا يلائم مقاصد الديمقراطية الحديثة. يمكننا القول إن مساره السياسي انقلب انقلاباً جذرياً حين ظهرت الدعوة النازية. فإذا به يكف عن امتداح اللاعقلانية التي احتضنت أعظم إبداعات الأمة الألمانية وسوغت أقبح أفعالها، ويكب على نشر قيم الديمقراطية والحريات، مستنداً إلى خبرة جمهورية ڤايمار التي طفق يسوق لها التأييد العلني يغترفه من أعمال نوڤاليس (1772-1801) ومن الرومانسية الألمانية. في رأيه أن هذه اللاعقلانية كانت مقترنة بصورة الشيطان في الوعي المسيحي، وبتصورات المذهب اللوتري، وبالرومانسية المنعقدة على تفلت الإحساس الحر وهيجان الانفعال العفوي وتطاير المخيال الإبداعي. ومن ثم، أخذ يتقرب من الحركة العمالية الاجتماعية – الاشتراكية ويستحثها على مقاومة الانحراف النازي، بيد أن الأوساط الاشتراكية لم تفهم معنى هذا الانقلاب، فأخذت تعيب عليه تحوله المفاجئ وتنتقد سرعة التغيير في مواقفه الأساسية، على غرار الهجاء الذي قذفه به برتولت برشت (1898-1956)، مع أن هذا الأخير كان يعشق “الجبل السحري”، على رغم نفوره الحاد من شخصية توماس مان. خلفية المخاصمة أن برشت لم يكن يرضى بالتماهي الذي أنشأه خصمه بين ألمانيا والنازية، وكان يعذر الجنود الألمان الذين اضطروا إلى خوض الحروب خوفاً من الإعدام العسكري، في حين أن صاحب “الجبل السحري “كان يعتقد أن ألمانيا لن تستعيد دعوتها الحضارية إلا إذا أفنى الحلفاء آلافاً من الجنود الألمان المؤدلجين. الجبل السحري بالترجمة العربية (دار الجمل) في المحاضرات التي ألقاها في عشرينيات القرن الماضي حرص على تمييز ضربين من اللاعقلانية الألمانية: اللاعقلانية الصالحة التي يجسدها في كتاباته، لا سيما “الجبل السحري”، واللاعقلانية الفاسدة التي روجت لها النازية على أبشع ما يكون الترويج في روح الجنون الهستيري. من أبلغ ما قاله في تقبيح هذه النازية أن هتلر ظاهرة مستحيلة خارج الثقافة اللاعقلانية الألمانية هذه. في أحد نصوص المنفى السويسري لم يستنكف من التصريح بأن هتلر أخ لنا، نحن معشر الألمان، في هيئة توأم ما برح يستثير فينا الاشمئزاز والقرف والغثيان والتقيؤ. الطور الثاني العقلاني في المنفى الأميركي يبدو أن هذا كله دفعه في عام 1933 إلى مهاجرة الأراضي الألمانية والخروج من بيئته التي ما عادت تستوعب مقاصده الأصلية. على رغم تعلقه بالثقافة الألمانية التي يجسدها نيتشه وشوبنهاور وڤاغنر وأصحاب التيار الرومانسي، إلا أنه آثر الابتعاد حتى لا يقع في حبائل المساومات الزائفة، ذلك بأن إقامته أولاً في سويسرا ساعدته في إدراك خطر الاستيلاء النازي على الإرث الفكري الألماني العظيم هذا. لم يكن منفاه السويسري نافعاً له، إذ إن وطن الحياد المزيف هذا كان في نظره يحابي الوجوه ولا يستقبل إلا المهاجرين الأغنياء، ويساير النظام النازي ويعيد إليه سرياً بعضاً من اللاجئين السياسيين الهاربين من بطشه، لذلك لم تتضح معالم المنفى في وعي توماس مان إلا في الولايات المتحدة الأميركية التي يمم شطرها، وفي يقينه أنه ينشد الجوهر الديمقراطي الأنصع في الزمان التاريخي الممكن. من الطبيعي، والحال هذه، أن يحظى باستقبال حار ومعاملة طيبة، إذ أحس الأميركيون أن الرجل صاحب نظرة أصيلة في الحياة تستحق التقدير والإعجاب. خلافاً لوضعية أخيه البائس المنفي في كاليفورنيا تصحبه امرأة تصيبها نوبات مرعبة من الجنون، انصرف إلى إلقاء المحاضرات والتنقل الهني بين الولايات والمشاركة الزاهية في لقاءات الاحتفاء بأدبه. وكان قبل ذلك قد أسهم صحبة أخيه هاينريش في كتابة المقالات الأدبية في المجلة الهجائية التهكمية (Simplicissimus). لم تكن كاليفورنيا أربعينيات القرن العشرين غريبة عن الأدب المهجري الألماني، إذ تكوكبت في أرجائها الشخصيات الأدبية الألمانية النازحة في حلقات أدبية رفيعة المستوى، كتلك التي كان يشرف عليها ويحيي نشاطها برتولت برشت، وهرمان بروخ (1886-1951)، وفريتس فون أونرو (1885-1970)، وڤيكي باوم (1888-1960)، وفرانتس ڤرفل (1890-1945)، وليون فويختڤانغر (1884-1958). رواية “سقوط اسرة” (أمازون) في سياق مقارنة الحضارتين الأوروبية والأميركية كان حريصاً على التمييز بين الحضارة والثقافة. في نظره تنطوي الثقافة على معاني “الحدود والأسلوب والشكل والموقف والذائقة، إنها ضرب من ضروب تنظيم العالم، وليس مهماً أن يتحول ذلك كله إلى ضرب من المغامرة والتهكم والتوحش والدموية والرعب”، فضلاً عن ذلك، تحتوي الثقافة على “مكاشفات الآلهة والسحر ولواطية الغلمان والأضاحي الإنسانية وشعائر العربدة ومحاكم التفتيش وحرق الكتب”. أما الحضارة “فعقل وأنوار ووداعة وحشمة وارتياب وهدأة وروح (Geist)”. وعليه تنبري الحضارة تعاند انفعالات الثقافة وأهواءها المضطربة وميولها النارية. “بودنبروكس أو سقوط أسرة” كتب توماس مان الرواية الأولى هذه (1901) في ذهنية المتحدر من الشمال الألماني، من مدينة لبك الشهيرة. غير أنه كان مقيماً في الجنوب الألماني، في مدينة منشن التي كانت تحتضن أسرة كاتيا برنغسهايم الشابة الرائعة الجمال التي أصبحت امرأته، وهي أصلاً متحدرة من بيئة يهودية. اللافت أنه لم يستطع أن يمضي إلى الاقتران الزوجي هذا إلا بعد أن اختبر المثلية الجنسية في سياق علاقة عابرة لم تلهمه المواظبة عليها والتمكث بها. “دم ڤلسونغن” (Wälsungensblut) رواية ظهرت في عام 1905 تروي قصة سفاح القربى بين أخ وأخت توأمين يحييان في الرخاء المادي، ويستمتعان ببطالة الحياة التي أنعمت عليهما بالبحبوحة، فينصرفان إلى اللهو واختبار الفن الحر المطبوع بجمالية معبودهما ڤاغنر، بيد أن العمل الأدبي هذا أثار ضجة صاخبة، وأربك الأوساط الأدبية، وعكر صفو حياة الأديب الذي لم يكن يتقصد الإساءة. أما الضرر الأعظم فنجم عن الإشاعات التي ربطت الرواية بالعلاقة الحميمية التي انعقدت بين امرأة توماس مان كاتيا وشقيقها كلاوس. لم يتورع المجتمع الألماني في منشن عن اتهام الكاتب بافتضاح أسرار أسرته وأسرة قرينته كاتيا. في إثر ذلك كله، طلب توماس مان سحب الرواية من المجلة التي نشرت فيها (Die Neue Rundschau)، وقرر الاحتفاظ بها. على رغم هذه الفضيحة، اختبر الحياة الزوجية اختباراً خصباً فأنجبت له كاتيا ستة أولاد. أما الغريب فالعلاقة التي عادت فنشأت بين ابنته البكر إريكا وابنه كلاوس الذي دعي بهذا الاسم تيمناً بالخال المحبوب. “الجبل السحري “ورباط الوجود الإنهاكي كتب توماس مان “الجبل السحري” من بعد أن عاينه طبيب مستشفى الأمراض الصدرية في مدينة داڤوس بسويسرا، واكتشف أن رئتيه في حال سيئة تقتضي العلاج والإقامة الطويلة، ولكنه آثر العودة إلى منشن، وأكب على كتابة روايته التي تخيل فيها البطل هانس كاستورب يختبر المعاينة الطبية عينها ويقبل أن يقيم إقامة طويلة دامت سبع سنوات في المستشفى. على غرار “بودنبروكس” و”موت في البندقية”، تتصف هذه الرواية بالطابع المأتمي المأسوي الذي ينعى الحياة الإنسانية، ويتحسر على مصير الحضارة الغربية، ويحتفي بجنازة الإنسان الأخير، ذلك بأن أسلوب مان كان يملي عليه أن يحبس البشرية المتألمة المنازعة في كهف الإقصاء ويغلق عليها في متاهات الانعزال، حارماً إياها من قابليات الانتفاض والنهوض والتوبة. من جراء التقييد التعسفي هذا، ينصرف الناس المأسورون في رقعة الزمن المنكمش إلى تنظيم حياتهم تنظيماً مهجوساً بصغائر الأمور، مهووساً بمآلات المصير المحتوم، مختوماً بانغلاقية الآفاق المظلمة. وما صورة ساناتوريوم (مصح) داڤوس سوى التعبير عن البيئة المغلقة التي حشر فيها الزمن الظالم أفراداً متحدرين من بيئات شتى جمعتهم أسقام الجسد الإنساني، وصهرت آمالهم في بوتقة المعاناة اليومية التي تستثيرها في وعيهم البقعة السوداء الرطبة المنبعثة من داء السل المنهك. لا غرابة، والحال هذه، من أن تنشأ بين أهل “الجبل السحري” روابط الأخوية المصيرية التي تنعقد على رموز كلامية وشعائر مسلكية وطقوس حياتية. فالطاولات السبع الموضوعة أمام المرضى تجعلهم يتنادمون في حلقات منتظمة، ويتبادلون الكلمات المرمزة التي تشير من بعيد إلى أوضاعهم الصحية. من الواضح أن السردية الوصفية المقترنة بالأوضاع المرضية الطبية كانت تمهر أعمال توماس مان، وما “الجبل السحري” سوى النموذج المثالي الذي يكشف لنا هيمنة التصور الطبي العلاجي على مخيلة الكاتب، ذلك بأن تشخيص الطبيب يشبه في وجوه شتى معاينات الروائي التحليلية، إذ إنهما كليهما يغوصان في أعماق بنية الكائن الإنساني الجسدية والنفسية. “موت في البندقية” (أمازون) يبدو أن مان كان يصرح في أوج شهرته بأنه لو لم يمتهن الكتابة الروائية لكان سار على طريق الجراحة الطبية، بيد أن الطب لا يشفي في “الجبل السحري”، بل يشخص ويعالج ويترقب النتائج، ما من أحد خرج حياً من الساناتوريوم الذي أمضى فيه كاستور سبع سنوات يراقب تلاشي الجسد المسلول، لذلك ما من شفاء في الحياة، وما من شفاء في الرواية، وما من شفاء في الأدب، مهما تألقت عبارات وصفه. المرض مصنع التسمم الخلاق. أما الحياة كلها فمصح العلاج لا موطن الإبراء. أما العبرة الوجودية الراقية فتملي علينا أن نتذكر أن الطب يتيح لنا أن نختبر في مرضنا قوة الإبداع. بالاستناد إلى الرؤية الميتافيزيائية الماورائية التي كانت الرومانسية الألمانية تذيعها، تنحصر مهمة الطبيب في الكشف عن ميزة إنسانية أساسية تجعلنا ندرك نعمة معطوبيتنا. كلما أدرك الإنسان قيمة هذه النعمة، كف عن التشبث بأوهام الشفاء الكياني الكامل، إذ إن الصحة دليل براءة العقم الذي يصيب وعي الإنسان. المرض مصدر الإلهام رواية “يوسف” (أمازون) يعد توماس مان من ألمع ورثة الرومانسية الألمانية التي آثرت وصف الوجود الإنساني منغمساً في معاناة الألم والشقاء والموت، وقد تجلت فيها عوارض العبقرية المبدعة. ثمة نظرية في الإبداع العبقري استمدها مان من تأمله في سيرة نيتشه الذاتية المبنية على اغتراف التألق الإبداعي من صميم الإنهاك الجسدي والتحلل النفسي. لا شك في أن المصير المأسوي الذي نزل بالأدباء الرومانسيين الألمان كان يرمز، في وعي الأديب، إلى التحول الخطر الذي أصاب وطنه ألمانيا، وقد انتابته محنة اضطهاد المفكرين والفنانين وإرهاقهم بحتمية التاريخ، لذلك كان يعتقد حتى آخر رمق من حياته أن ألمانيا مصابة بلعنة دهرية جعلت عظماءها يعانون الغربة الكيانية والقلق الوجودي وانفصام الوعي الشقي، بيد أن اللعنة أنتجت لألمانيا تفوقها الماورائي والموسيقي والشعري، وأيضاً كارثتها النازية الكونية الانهيارية الأبوكاليبتية. بين سوداوية كافكا وتفاؤلية مان كان الفيلسوف الماركسي الهنغاري غيورغ لوكاتش (1885-1971)، وهو من أعظم الملمين بشخصية توماس مان وفكره، يردد أن ألمانيا لن تشفى من أسقامها إلا حين يقرأ الشاعر الألماني هلدرلين أعمال ماركس. فإذا بتوماس مان يجيبه بأنها تستطيع أن تبرأ من أمراضها حين يكب ماركس على قراءة قصائد هلدرلين. من الواضح أن هذه القراءة رمزية، إذ إنها تتجاوز التفاوت التاريخي الذي يفصل الأزمنة بعضها عن بعض. في كتاب لوكاتش “الواقعية النقدية في دلالتها الراهنة” (Die Gegenwartsbedeutung des kritischen Realismus)، تنعقد مقارنة مفيدة بين تفاؤلية مان وسوداوية كافكا (1883-1924). يحلل لوكاتش شخصية بطل “الجبل السحري” هانس كاستروب ويعاين فيه تجسيد تصورات الكاتب الفلسفية، وقد تجلت في مناصرة الإنسية الليبرالية التي تستنكف من التوحش الرأسمالي ومن جذريات الثورات اليسارية الراديكالية العنفية. ومن ثم، يستجلي لوكاتش في موقف مان بعضاً من المثالية البريئة التي استطاعت، مع ذلك، أن تفضح مساوئ الثقافة المضطربة المأزومة. خلافاً لكافكا المسترسل في تشاؤميته المحبطة التي تمنعه من انتهاج سبيل الانعتاق من عبثية الوجود، ينبري مان ليدافع عن فكر إنسي مستنير يروم خلاص الإنسان في جميع أبعاده وعيه المتطلب. رواية الجبل السحري (أمازون) كان لوكاتش أيضاً يرسم تطور وعي توماس مان البورجوازي الذي أدرك في زمانه أزمة المجتمع الألماني الميسور. إنها البورجوازية التي تنعكس فيها أخلاقيات الجماعة البروتستانتية التي حلل مضامينها عالم الاجتماع ماكس ڤيبر (1864-1920). الحقيقة أن مان عاصر شبنغلر (1880-1936) وعاين مآسي السقوط الحضاري الذي أغرق ألمانيا في محنة الانحلال الكياني الأعظم. ومن ثم، يمكننا أن ننعته بشاهد النهايات والخواتيم والانحلالات التي حرص على الاحتفاء بها في مهابة الإجلال الخفر. جسامة الكارثة في نظره أن العالم الأكاديمي المثقف، عالم الكتاب ووطن الفكر، تحول إلى بؤرة التوحش والبهيمية، إلى مصنع الإجرام الدموي والاحتراب الإفنائي. أرقه سؤال الزمن وحيرته أسرار البدايات المبهمة. فأعلن أن الأصول نسبية في كل شيء، وأن كل استهلال ناشب في محيط خانق، ما إن نعاين هضبة أو ربوة حتى نظن أنها القمة الأصلية المنشودة. فإذا بأفق ممتد في اللانهاية يحتجب وراءها. ومن ثم يستحيل على الإنسان أن يقنع بجواب شافٍ يكشف له أصل الأصول. من جراء تكاثر الربوات المحتجبة بعضها وراء بعض، لا بد من تعزية يجدها الباحث في تعريف الهضبات اللغزية وترويضها وإخضاعها. تختلط الأصول، فإذا بتوماس مان يبحث عن أجداده في صورة يوزف (يوسف) وأبراهام (إبراهيم) والد جده وسواهما، من غير أن يستجلي ملامح هيئتهم الحاسمة وسمات هويتهم النهائية. إذا كان يوسف قد قبع في البئر ثلاثة أيام، فاختبار الاختفاء الوجودي إنما يرمز إلى انغلال المسيح في القبر ثلاثة أيام قبل أن يقيمه الله من بين الأموات. المغزى الأعمق يتجلى في قدرة الأصل على تصوير المستقبل، لا على الإمساك بالماضي. فالأجداد صورة المستقبل الذي لم يتحقق. الجمال نقيض الأيديولوجيا: نيتشه في عيني مان لا بد من استجلاء المساهمة الفلسفية اللافتة التي جعلت مان يعتني بفيلسوف العدمية الخلاقة نيتشه، وقد عاين فيه أفضل من جمع في أسلوبه الأدبي البليغ بين القدرة على تحليل الواقع، وفن التحليق الخيالي التجاوزي. في الكتاب الذي أبان فيه مان طبيعة الجمع الحصيف هذا “فلسفة نيتشه في ضوء اختبارنا” (Nietzsches Philosophie im Lichte unserer Erfahrung)، أعلن من دون تردد أنه قريب من فكر نيتشه وأسلوبه، ذلك بأن فكرة العظمة النيتشوية المتجلية في الكيان وفي الوجود وفي الحياة وفي الفكر والأسلوب والتعبير استهوته وأثرت في ولاءاته القومية ومفاضلاته الأدبية. كان همه الأول أن يحرر نيتشه من الاستغلال النازي المقيت. فإذا به يعلن جهاراً في كتابه “ليس نيتشه من صنع الفاشية، بل الفاشية صنعت نيتشه”، فضلاً عن ذلك، أخذ يبرز عظمة هذا الفيلسوف الذي ناصر قضية عظمة الإنسان المتجاوز ذاته، وأسند إلى الفن أنبل الرسالات: روحنة الأمراض التي يبتلى بها الإنسان. الفن يروحن معطوبيتنا الوجودية. ومن ثم، يعتلن الوجود الإنساني كله وجوداً مسرحياً مختوماً بفنية التعبير التجاوزي. في جميع الأحوال، ناصر توماس مان أخلاقيات القراءة الفلسفية المسؤولة التي تصون مقاصد الكاتب من غير أن تفرض عليه آراءها الاستقطابية: “تعلموا أن تقرؤوني قراءة سليمة!”. قالها نيتشه في كتاب “الفجر” (Morgenröte. Gedanken über die moralischen Vorurteile)، وكررها مان في كتابه حتى يبين لقرائه أن بعضاً من التهكم قادر على أن يهز المدارك هزاً يجعلها تستشف ما لا تستطيع العين أن تراه من معاني الحياة الغائرة في جوف السر. إنه البعد الجمالي الذي يعارض كل قراءة أيديولوجية فاشية تفرض على نصوص نيتشه قولاً اعتباطياً في نصرة الاستبداد الإمبريالي. الإشعاع الأدبي الفريد من أفضل الأوصاف التي نعت بها توماس مان الساحر البديع الذي طوع الواقع بريشته فرسمه رسماً يوحي بتحوله إلى صورة بهية من صور الاستنهاض الأخلاقي والأدبي. جاء هذا الوصف في رواية الناقد الأدبي الروائي الإيرلندي كولم تويبين الصادرة حديثاً (Colm Toibin, The Magician). الحقيقة أن الألمان استقر في وعيهم أن أديبهم الروائي الشهير، خلافاً لأخيه هاينريش، اعتصم بموقف البورجوازي المتمسك بالثقافة الكلاسيكية، الحريص على المأثور التقليدي المتواتر في التعبير الراقي، المستنكف من العمل السياسي الملطخ بالمساومة الرخيصة. وعلاوة على ذلك، عاين فيه بعضهم مثال المتزهد المترفع المنصرف إلى انتقاد المجتمع والاستهزاء بصغائره وتفاهاته. تحتشد في نصوصه الاستطرادات الثقافية الموسوعية المسرفة في طلب دقائق المعرفة، وتهيمن على أسلوبه نزعة الإتقان التعبيري والمتانة السبكية والصفاء البياني. مالت إلى أدبه أوساط ثقافية شتى من جراء بحثها عن أسلوب في الكتابة يتمرد على الرتابة الوصفية من غير أن يسقط في الهيجان الوجداني الذي تحتفي به الرواية الحديثة. ومع ذلك، ما برح النقاد يعيبون عليه سمات التلبث العنيد بالأسلوبية الجرمانية المرهقة تتجلى في الاستطرادات العلمية المربكة، والمباحثات الفكرية المطولة، والتناولات الميتافيزيائية الشاقة. على رغم الانتقادات الصائبة هذه، فلا بد من الإقرار بأن جرأته في خوض النقاش الوجودي جعلته يعالج موضوعات الحياة المعاصرة، ومنها علاقة الجسد بالروح، والصحة بالمرض، والمرض الجسدي بالمرض النفسي، والتوهمات التخيلية في انفلاتات الوعي الشردية، واعتلانات اللاوعي المباغتة، وخلفيات الإخضاع والخضوع الغريزية، واستقصاءات الإبداع التحليلية النفسية. في سياق آخر، ذهب بعضهم الآخر إلى استثمار العزوف المبدئي في مواقفه السياسية من أجل استخراج تصور ثقافي يناهض السياسة بحد ذاتها، ويعطل مقام الدولة، ويبطل كل مسعى عقائدي، مهما تنوعت مضامينه وأساليبه. المزيد عن: روائي الماني\النازية\المنفى\إحراق الكتب\روايات\البشرية\العلاقات الإنساينة 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post “الزوجة الثانية” لصلاح أبو سيف مرافعة عن مكانة المرأة المصرية next post هل ستستعيد تونس مسار الانتقال الديمقراطي؟ You may also like مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024 عبده وازن يكتب عن: فيروز تطفئ شمعة التسعين... 21 نوفمبر، 2024 “موجز تاريخ الحرب” كما يسطره المؤرخ العسكري غوين... 21 نوفمبر، 2024