الروائي اليوغوسلافي إيفو أندريتش (دار سيرت) ثقافة و فنون إيفو أندريتش في جحيم الاحتلال النازي لبلغراد by admin 25 يوليو، 2023 written by admin 25 يوليو، 2023 336 قصص مجهولة له تتأمل في قباحة العنف بعيون ضحاياه اندبندنت عربية \ انطوان جوكي ثمة أسماء أدبية كبرى يطويها النسيان بسرعة، على رغم الثمار الحيّة التي ملأت مسيرتها الكتابية، وإنسانيتها البصيرة التي تحتاجها البشرية في كل زمان ومكان. إنها حال الروائي والقاص والشاعر اليوغوسلافي إيفو أندريتش (1892 ــ 1975) الذي لم يحُل نيله جائزة “نوبل” عام 1961 على مجمل أعماله، دون وقوعه في دائرة الظل بعد رحيله. أعمال باهرة، شكلاً ومضموناً، تتقدّمها ثلاثيته الروائية الرائعة (“وقائع مدينة ترافنيك”، “جسر على نهر درينا”، و”الآنسة”) التي صوّر فيها بنفسٍ شعري آسِر، ذلك الانسجام التاريخي بين مختلف طوائف البوسنة، ضمن مقاربة تجمع الخرافة بالواقع، والتجربة الداخلية للقلق بالاستحضار الحسّي للطبيعة. خارج منطقة البلقان، بات هذا العملاق مجهولاً اليوم. وداخلها، أصبح إرثه الأدبي إشكالياً، بعدما وقع ضحية نزاعات “هوياتية” قاتلة مزّقت وطنه، يوغوسلافيا، الذي دافع عن كيانه وتغنّى بثقافاته المتعددة طوال حياته. فلأنه وُلد في البوسنة داخل عائلة كرواتية كاثوليكية، وحصل على الجنسية الصربية بعد الحرب العالمية الثانية، يعتبره القوميون الكرواتيون اليوم خائناً، ويتّهمه بعض القوميين البوسنيين بتشويه صورتهم في رواياته، بينما يبجّل القوميون الصربيون إرثه الأدبي! وأبعد من الجدل القومي المعاصر والعقيم حوله، يبقى أندريتش الراوي الألمع لأوروبا البلقانية الغنية بروافدها الحضارية، كما تشهد على ذلك جميع أعماله، ومن بينها ثماني قصص كتبها بين عاميّ 1946 و1960، وصدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار “سيرت” السويسرية تحت عنوان “وقائع بلغراد”. قصص يشكّل صدورها اليوم حدثاً أدبياً نظراً إلى قيمتها الأكيدة، وأيضاً لأنها تُترجَم للمرة الأولى إلى لغة أخرى. قصف بلغراد أحداث هذه القصص تدور في بلغراد، خلال القصف الجوي الذي تعرّضت له عبر طيران النازيين في نيسان/ أبريل 1941، ثم خلال قصف الجيشين الأميركي والروسي المدينة انطلاقاً من ربيع 1944، بغية طرد النازيين منها. بالتالي، يشكّل موضوع القصف فيها إطاراً ملحمياً مركزياً، يتّخذ المعيش اليومي المؤلم لأبناء بلغراد داخله طابعاً سرمدياً، خلال الزمنيين المذكورين، بينما تؤدّي الحرب دور الكاشف لإنسانية ضحاياها، فتسمح لنا برؤية وجوههم على حقيقتها، ولهم بالارتقاء واستعادة كرامتهم المفقودة، لا سيما داخل علاقات زوجية تعيسة. “وقائع بلغراد” يضم قصصاً مجهولة (دار سيرت) وفعلاً، تبدو السعادة الزوجية أمراً صعب المنال لأبطال هذه القصص، وهم رجال فشل كل منهم في اختيار شريكة الدرب المناسبة له، فتزوج عن غير قصد من امرأة مزدرية وشريرة لا تفوّت فرصة من دون زجره وتعنيفه. هكذا نقرأ في واحدة منها: “أكلت زوجها، ولا نعني أنها التهمته كما تفعل إناث بعض الحشرات، بل أنها جرّدته من كل ما في داخله، ولم تترك سوى واجهة رقيقة”. وصف ينطبق على معظم الزوجات في هذه القصص، لكن ليس على جميعهن. والنتيجة؟ يمّحي الزوج تدريجاً ويتقوقع على نفسه، لكن يحدث أحياناً أن يستعيد شكلاً من أشكال الكرامة، بعد سنوات من الذل والعذاب. باختصار، أشخاص بسطاء يتملّكنا الانطباع، بفضل مهارة تجسيدهم، بأننا نعرفهم جيداً، كما لو أنهم من محيطنا أو أقاربنا، فيفرضون أنفسهم علينا بتلك القوة الحيوية التي تسيّرهم، بذلك الود الحار الذي نستشعره فيهم، وبالعنف الذي يخضعون له ويجعل كلاً منهم إنساناً فريداً. ومن خلالهم، يرتسم تحت أنظارنا بورتريه حيّ لبلغراد التي رحّبت بأندريتش، الشاعر الملتزم الشاب، حين أتى للاستقرار فيها عام 1918. مدينة أدماها الاحتلال النازي إلى حد اعتبرها كثيرون آنذاك “أكثر المدن تعاسة في أوروبا”، كما يذكّر الكاتب بذلك على لسان إحدى شخصياته. في القصة الأولى، “بورتريه عائلة”، يجد الراوي ملجأ له في شقة دمّر القصف نصفها. ونظراً إلى افتتانه بما تبقّى من أثاث فيها، وخصوصاً بصورة العائلة التي كانت تقطن هذه الشقة، وما زالت في إطارها، ينطلق في وصفها، متخيّلاً حياة بل وطبع كل من الزوجين انطلاقاً من طريقة مثولهما داخل الصورة. وصف يمنحنا مثالاً رائعاً على جانب آخر من شاعرية أندريتش، أي قدرته التي تضارع قدرة تولستوي على رؤية ما يصفه بدقّة فائقة، وكيف أن هذه الدقة البصرية الصائبة تشيّد سيكولوجيا شخصياته، وليس العكس. فحول الزوجة، نقرأ: “كان كل شيء يبدأ وينتهي معها في هذا المنزل. داكنة البشرة، بساقين قصيرتين، وذقن ثلاثي وشارب صغير لكن كثيف، وطبقات وفيرة من الدهن في أماكن غير متوقّعة من جسدها، لم تكن ترتبك في أي مسألة، ولا كانت تتردد أمام أي شخص، أو تلجم نفسها، بل كانت تدلي دائماً بكل ما تفكّر فيه، وفقط بذلك، من دون أن تستثني أحداً أو تأخذ شيئاً في الاعتبار. لأن ما كانت تعتقده هو الحقيقة، في نظرها، وما كانت تقوله هو شريعة، وما كانت تفعله هو عين الصواب”. كآبة عميقة وينطبق هذا الوصف على زوجة زيكو أيضاً، في القصة التي تحمل اسمه، وتحتل أكثر من نصف المجموعة، لكنها تتميّز ببناء أدبي آخر، وتبرر بمفردها العنوان الذي اختاره الناشر السويسري للكتاب، “وقائع بلغراد”. وفي بدايتها، نرى بطلها زيكو فريسة كآبة عميقة، يفكّر جدياً في الانتحار، ويعيش على هامش المجتمع، متجنّباً خصوصاً زوجته وصوتها الذي “لا طيبة فيه ولا إنسانية”، قبل أن يكتشف عالماً آخر، هامشياً، نما قبل الحرب على ضفتي نهر سافا، بالقرب من المدينة، حيث استقر صيادون ومتشردون وحالمون، وكوّنوا مجتمعاً خاصاً بهم. ومعهم، يستعيد زيكو تدريجاً استقلاليته ويتحرر من زوجته المتسلطة. إنجاز كان لا بد منه لانبثاق وعيه السياسي، ثم لانخراطه في صفوف المقاومة الفتية، إثر مشاهدته عمليات الشنق التي نفّذها النازيون في شوارع المدينة في حق أبنائها المتمرّدين على سلطتهم. وفي قصة “الدمار”، يستحضر أندريتش قصف طيران الحلفاء اليومي لبلغراد في صيف 1944، الذي حوّلها إلى أنقاض، فيصوّر فضاءات المدينة التي فقدت معالمها، ولكن فقط كخلفية نتأمل عبرها التشوّهات “الأكثر فظاعة وعمقاً” التي طاولت سكانها. وفي هذا السياق، يبيّن كيف أن التدمير المنهجي والشامل لبيئة الإنسان “ينزع عن وجهه قناعه الأخير، ويقلب حياته الداخلية رأساً على عقب، ويعرّي سمات ومميزات غير متوقّعة فيه، تتعارض مع كل ما كنا نعرفه عنه، ومع ما كان يعتقده هو بالذات عن نفسه. يُفسِد ظروف الحياة داخل العائلات، ويغيّر الأعراف والعلاقات الاجتماعية المكرّسة، بما في ذلك تلك التي كنا نعتبرها سرمدية وغير قابلة للتغيير، كالعلاقات بين الجنسين”. أما براعة الكاتب في التقاط تلك اللحظات التي ينحرف التاريخ فيها عن مساره ويشهد تحوّلاً جذرياً، فتتجلى بقوة في قصة “اليوم الذي…” التي تحطّ بنا داخل قبو اختبأ بطلها بيتار فيه، أثناء الأيام الستة التي تعرّضت بلغراد فيها لقصف جوي متواصل في صيف 1944، قبل أن يغامر بالخروج منه، حين حلّ فجأةً صمت مطبق، مثله مثل كثيرين من أبناء المدينة: “كان الفجر على وشك البزوغ، ودوي الانفجارات قد توقف. داخلنا، بدأت تترسّخ فكرة أن الأمر لا يتعلّق بهدوء مؤقّت، بل بنهاية الكابوس”. وبسرعة، نحزر أن مهمة تنتظره، لكننا لا نعرف ماهيتها بالضبط. نراه فقط يتقدّم بصعوبة داخل مشهد سديمي في وسط بلغراد، عابراً “شوارع يعرفها تغيّر كلياً مظهرها وأصبحت بلا نهاية، نظراً إلى اكتظاظها بالعقبات والأشياء المثيرة للفضول… والرعب”. وعلى الرغم من المخاطر التي لا تزال كامنة، يشعر فجأةً بأن “الحياة واردة، زاخرة، غنية بالمعنى. وأبداً لم تكن إلى هذا الحد قريبة ومفهومة وممكنة”. المزيد عن: يوغوسلافياإيفو أندريتشبلغرادالنازيةالحلفاءقصصالعنفالضحايا 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post أم باربي التي أحدثت ثورة في عالم الصغيرات وترميم الثدي next post عبده وازن يكتب عن : إميلي ديكنسون شاعرة العزلة بلغت ذروة الحداثة الأميركية You may also like اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024 عبده وازن يكتب عن: فيروز تطفئ شمعة التسعين... 21 نوفمبر، 2024 “موجز تاريخ الحرب” كما يسطره المؤرخ العسكري غوين... 21 نوفمبر، 2024 فيلم “مدنية” يوثق دور الفن السوداني في استعادة... 21 نوفمبر، 2024 البلغة الغدامسية حرفة مهددة بالاندثار في ليبيا 21 نوفمبر، 2024