ثقافة و فنونعربي الوطن المؤجّل: قراءة في مذكرات دلال البزري وجوزيف سعادة by admin 31 مارس، 2022 written by admin 31 مارس، 2022 37 الحرب شر، وللشر وجوه عديدة، ويخبرنا تاريخ هذا البلد أن الحرب بين أبنائه غالباً ما تستوفي عدتها. المدن \ فوزي ذبيان – روائي لبناني “الشهداء… مَن قضى منهم كان ذلك مِن نصيبه، ومَن لم يقض بعد فإنه يتحول إلى نوع آخر من الشبيحة، شبان عاطلين عن العمل أو مهجرين أو فاقدي الأفق …”- دلال البزري. “كل يوم وفي كل مكان كان يُعثر على مزيد من الجثث. تحولت بيروت إلى ملحمة عملاقة”- جوزيف سعادة. ما أن انتهيتُ من قراءة دلال البزري “دفاتر الحرب الأهلية اللبنانية”(المركز العربية للأبحاث ودراسة السياسات) وجوزيف سعادة “أنا الضحية والجلّاد أنا”(دار الجديد) حتى تناهى إلى ذهني اسم رواية للتشيكي بوهوميل هرابال “عزلة صاخبة جداً”. إنه التاريخ من تحت حيث الدم المتخثّر لا يني، يحفر عميقاً في جسد الذاكرة بصمت صاخب وبعزلة ضاجة. إن الوقوف على كتابَي البزري وسعادة، لا يشي أن أياً من الكاتبين يسأل الصفح أو يتلو فعل الندامة، بل تراهما عبر هذه المذكرات الصاخبة، أقرب إلى مَن يحاول ترتيب تعقيدات الماضي وتشابك فضاءاته رأفة بالمستقبل وجعل الآتي من الأيام أخف وطأة. فهذه المذكرات أو الشهادات في الكثير من متونها الصريحة، هي بمثابة تجسيد حي لمقولة مارتن لوثر كينغ الشهيرة: الحرب هي إزميل سيئ لنحت الغد… وكأني بالبزري وسعادة يتنسمان عبر فعل التذكر هذا تعويذة ضد الحرب المقبلة، بل تراهما، كلّ على طريقته الخاصة، يحاول الفرار من أسر الذاكرة الجماعية التي شكّلتْ وعي كل منهما، بل كانت بمثابة القاطرة التي دفعتهما للمشاركة في الحرب اللبنانية. إن التمعن في هذه المذكرات ساقني إلى الفكرة التالية: المذكرات الحقة هي بمثابة الوقوف أمام مرآة الذات ثمّ مصارحة هذه الذات أملاً في الخلاص، في خلاص ما. هي في صورتها الأعمّ، تحيين للفجيعة في لحظة أخرى… لحظة صفاء؟ لحظة تسامح؟ لحظة وعي؟ كل هذه الاعتبارات واردة. من النافل أن الذات في هذا المحل تكفّ عن أن تكون محل اختزال في أفق أيديولوجي من هنا، أو آخر من هناك، حيث ثمة عنف آخر غالباً ما تعمل الذات المتذكرة للتخلص منه وهو عنف اللغة… عنف النصوص والسرديات والألسن التاريخية. يستعمل الانثروبولوجي برونيسلاف مالينوفسكي مصطلح “الميثاق الأسطوري” للإشارة إلى ذلك الرابط الذي يشد الفرد للجماعة، بيد أن كتابة المذكرات كما تبدّتْ في تجربتي البزري وسعادة قطعت حبل هذا الميثاق، إذ إنها من خلال مجاهرتها ولا مبالاتها بالموروث، تراها أقرب إلى فعل خروج، محاولة ناجحة لتفكيك الهيمنة على الماضي وحل تلك “المواثيق الأسطورية” التي تشد الجماعات اللبنانية لهوشة سردياتها، وما تحفل به هذه السرديات من “أبطال” و”شهداء” و”سيّاد” و”قادة”. علمنة الذاكرة فنحن مع جوزيف ودلال، إزاء علمنة للذاكرة، وكأني بهما من غير قصد، يقطعان تلك العلاقة التاريخية التي تقوم بين “كليو” ربّة الأبطال والشهداء والمقاتلين من جهة، و”خرونوس” إله الزمن من جهة أخرى، وهو الدرس الأول في علمنة التاريخ ودمقرطته، كما ترى إلى الأمر جُملة من فلاسفة التاريخ. فإذا كانت أيديولوجيا اليمين تقوم تاريخياً على تقديس الماضي، وأيديولوجيا اليسار تقوم كما علّمنا التاريخ على تقديس المستقبل، فإن هذه المذكرات هي دعوة الحاضر لإعادة النظر في الماضي من أجل المستقبل، فعلى الحاضر أن يمعن النظر في الماضي عندما تحدق به هاوية المستقبل وهو – كما تعلمون – درس نيتشوي هائل. طيّب، هل نجحتْ هذه المذكرات في جعل حاضر اللبنانيين يعير انتباهه إلى ماضيهم توخياً لمستقبل هانىء؟ في القرن الثالث عشر، أَولى ألبرتوس العظيم (Albertus Magnus) أهمية قصوى للذاكرة، حيث أنه قد رأى فيها المُعين الأهم للفطنة، للحكمة ولبُعد النظر (بالنسبة للمهتمين، أرسطياً الـphronesis). ومن المفارقات أن هذا الدومينيكاني الجليل، شبّه الذاكرة بالمرأة التي تملك عيوناً ثلاث: عين على الحاضر، عين على الماضي، وعين من أجل المستقبل. فهل ثمة من فطنة لدى اللبنانيين حيال هذه الأزمنة الثلاثة، وهل يملكون ما يكفي من العيون لتجنّب الحرب المقبلة؟ طبعاً لا. إن الحرب ليست فقط أبنية مهدمة وأشلاء جثث وأطرافاً مبتورة وعيوناً مقلوعة وبطوناً مبقورة وآذان مشرومة وأنوفاً مجدوعة وخطفاً وقتلاً على الهوية بالإجمال، هي أيضاً طوابير ذل عند محطات الوقود وأمام المشافي والصيدليات وعدم الشعور الدائم بالأمان. إنها تقاتُل على الحصص من قِبل المؤتمَنين على الهويات الجماعية وذاكراتها، وهي أيضاً تناتش زعماء الطوائف… هؤلاء الدمى البونبارتية الصغيرة، كما وصفهم صحافي إيطالي عايش بيروت الثمانينات (أنطونيو فيراري، “بيروت عندما كانت مجنونة” – دار النهار). فالحرب شر، وللشر وجوه عديدة، ويخبرنا تاريخ هذا البلد أن الحرب بين أبنائه غالباً ما تستوفي عدتها. ليس للحرب زمنها الخاص في لبنان، بل تراها هي الزمن بالإجمال. وليس من باب الصدفة أن دلال افتتحت مذكراتها بالعبارة التالية: “سوف تجد دائماً سبباً للكتابة عن الحرب”. البيك مع التقدمي فالمآلات التي تلت أحداث هذه المذكرات، والتاريخ السابق عليها، توطّد حقيقة مفادها أن لبنان لا يتعدى أن يكون وطناً مؤجلاً على الدوام، والحرب هي المؤقت الدائم. ومن المفارقات أن هذا “المؤقت الدائم” يقدّ حضوره الأبدي(!) في حياتنا عبر ديمومة أخرى، هي ديمومة الزعماء والقادة، وهي ديمومة لا تني تتناسل كديدان فوق جسد في طور الإحتضار الدائم. إنه تناسل أقرب إلى الكابوس المحض، حيث يتداخل الإقطاع التقليدي مع المصرفي، وحديث النعمة مع فائض القوة، وهؤلاء كلهم مع بعضهم البعض…”البيك” مع “التقدمي”، “المحروم” مع “رأس المال”، و”الزمك” مع “سيد الإنتصارات”! ولا أخفي أن استعمالي لكلمة “الزمك” في هذا السياق جاء بعد الإستئناس ببعض ما جاء في مقال لالياس خوري، واستعمالي لمصطلح “سيّد الانتصارات” جاء بعد الاستئناس بأغنية كثيراً ما أسمعها في سرفيسات وفانات الضاحية، “بَس اسمع مني” لسارية السوّاس. … إنه التاريخ المعاصر دوماً، على حد قول بنيديتو كروتشه: “فهؤلاء أشبه بالعقارب في ساعة زمننا المعطل، الخرب والمتوقف عن الجريان”. لدى انكبابه على كتابة مذكراته والتي عنونها بـ”عالم الأمس” كتب ستيفان تسفايغ: “الزمن يقدّم الصو،ر وأنا أنطق بالكلمات المرافقة لها ليس غير”. ما لم يفطن له تسفايغ، هو أن الأمس قد يكون عينه اليوم، وأن صور اليوم ربما تكون هي هي صور الأمس. فإذا كانت الذكريات بالعنوان العريض هي بمثابة الفسحة الحيادية بين عالم الأمس وعالم اليوم، فإن ذكريات الحرب في لبنان هي بمثابة الحاضر المنفلش فوق كل الأزمنة، إنها ذاكرة الماضي وذاكرة الحاضر والخشية تقع في أنها قد تكون ذاكرة المستقبل أيضاً. وكأني بالقديس أوغسطين، ولدى تطرقه إلى الزمن، كان يتكلّم عن لبنان الحرب: “لا نعيش إلا في الحاضر، لكنه حاضر متعدد: حاضر الأشياء المنصرمة، حاضر الأشياء الحاضرة وحاضر الأشياء المستقبلية”. فالذاكرة لا علاقة لها في هذا السياق بالماضي، إذ أن الماضي هو الحاضر المستبطن في ما سيلي من أيام. ثمة أولياء للذاكرة في هذا البلد، وهم المؤتمَنون على الماضي الذي غالباً ما يحضر وفق حاجاتهم. هو نوع من الـbio-politics إنما على مستوى الذاكرة، فمَن يرضى لنفسه الإنضواء ضمن سردية ذاكرة جماعته، يعيش جنة الإنتماء، ومَن يرفض هذه الذاكرة هو حكماً خارج المكان… الآخر بعامة. بيد أن للذاكرة الجماعية مفرداتها إذ لا نفع من هذه الذاكرة، إذا ما كانت طي الصمت والكتمان. إلى حد لا بأس به، تشكل مفردات الحرب ومتونها النص الأوّلي للمؤتمنين على ذاكرة الجماعات اللبنانية. فإذا كان تاريخ فرنسا يبدأ مع اللغة الفرنسية، كما يرى أحد المؤرخين، فإن تاريخ لبنان منذ ما قبل إعلان دولة لبنان الكبير، يبدأ مع مفردات الحرب، وكتابة المذكرات في هذا السياق فشلت حتى الآن في أن تكون جرس إنذار حيال علاقة الماضي بالحاضر وبالمستقبل، بل هي وإلى حدّ كبير لا تعدو أن تكون تأملاً في أبد الفجيعة. لا حرب الليلة ينهي جوزيف سعادة مذكراته بالمقطع التالي: “لا حرب الليلة في بيروت، المدينة مظلمة لا شيء سوى أشباح الأبنية. في حصنه، في القصر الجمهوري في بعبدا كان ميشال عون يعد العدة والخطط …” ما أشبه البارحة باليوم! إن المصالح الضخمة، وفي بعض الأحيان المصالح المقدسة للجماعات والتي تدور حولها الذاكرة، هي (هذه المصالح) التي تؤسس لسياسة في التذكر تقوم –في الحالة اللبنانية– على الكثير من التوجس والريبة. هي سياسة للذاكرة تستبطن وجوداً يقوم على الخوف من الآخر وكأني بهذا الآخر هو آخر بالمطلق… “العدو هو شخص لم يسبق لي أن سمعت قصته”، يقول الفيلسوف سلافوي جيجك. التاريخ كله هنا، في كلّ آن. فكتابة الحرب في لبنان لا تقوم على ذاكرة، تتسكّع في أروقة الزمن التحتية إذا أردنا أن نستعير فالتر بنيامين (W.Benjamin- Dialectical images). إذ إن هذا التحتي لا يلبث، كل عقد من الزمن، أن ينتأ بصورة حرب ويحتل المشهد كلّه. بالتالي، إن الزمن هنا ليس هذا المرور المتدرج للوقت، إنما هو أقرب إلى صندوق مغلق الكل يعرف محتواه. تخبرنا العربية أن الزَمانة من الزمن، والزّمانة هي الآفة الدائمة. “تجري على هذه البقعة من الأرض حروب عدة لا حرب واحدة – تقول البزري – ولكل حرب وقتها ومضمونها ومعناها”. إذا كان “دفاتر الحرب الأهلية …” قد خلّص دلال البزري من عنف اللغة عبر تخليصها من “الخط”، أي تلك الأيديولوجيا اليسارية التي تحولّتْ لدى البزري إلى موضوع سخرية وتندّر، “… إذ تبيّنَ أن الذي خطف الرفيق جورج ليس سوى الرفيق علي”، فلا يبدو أن هذه الدفاتر المهمة قد أسكنت الكاتبة في أفق خالٍ من همّ الحرب المقبلة. وإذا كان اعتراف سعادة بأنه الضحية والجلّاد في آن معاً، قد أخرجه من سردية الريبة المسيحية إزاء محيطها الإسلامي الضخم… “صلباننا الصغيرة المعلقة في رقابنا كانت تزين لنا أن نُشبّه أنفسنا بصليبيي القدس تحاصرهم جيوش صلاح الدين”، فإن هذا الإعتراف لم يتحول إلى حنطة في سهل الطمأنينة التي تدفعه للبقاء في لبنان. إنه البلد الذي ماضيه لا يحال إلى حاضره، إلا عبر خط كثيف من الدماء… بالنسبة لجوزيف سعادة “التاريخ بدأ على متن باص” (حادثة عين الرمانة). وبالنسبة لدلال “إن هذا الأمل الكبير كان مضيعة للوقت”. بيروت الخشبة تفيد تجربة البزري وسعادة أن الظن بأن الحرب تستبطن وعداً بالسلام، هو ظن منبعه الغباء والطيش، هذا بالنسبة لسكان الطبقات السفلى من بناء التاريخ، إذ بالنسبة إلى الذين هم فوق، الأمر مختلف. “لم يتغيّر شيء في بيروت. ما زالت بيروت الخشبة التي يمثّل عليها السراقون والنهابون وشركاهم تمثيليات النضال والمقاومة”، يقول جوزيف سعادة. أما البزري، فكأني بها قد أدركت أن الأيديولوجيا لا تتجاوز أن تكون أسطورة وهمية، نمطاً مهلهلاً من محاولة تنظيم الحياة اليومية، فقد أدركتْ أنه “مع مرور الوقت لا بد للخط – بعد أن كان من المقدسات – أن يتعرّى … أنا الآن حرة في الإنتقاد العلني، في السخرية من تجربتي، من الخط ومن نفسي”. كأمّ، أدركت بعد تجربة خطف ابنها، أن الحرب “هي جرح مستمر للأمومة، هي استنزاف وإهانة للأمومة… وما إرغام أمّ الشهيد على الزغردة يوم تشييع ولدها إلا مزيد من الإهانة”، وليست تلك النوستالجيات المارسيلخليفية حول أجمل الأمهات وما شاكل سوى تفنيصات تزيّن الحرب في رؤوس مجانينها. لقد تمتع كل من جوزيف ودلال، بذاكرة يقظة في نقل مشهد الحرب فوق الورق، فإذا بالحرب واقعة وفية لمن يتبناها، لكنها تصير واقعة منبوذة لمن يأنفها. لقد استقر في ذهني بعد قراءة مذكراتهما أن الحرب ليست خيارهما، ولا خيار كل الذين خاضوها ممن يقطنون الطبقات السفلى من البناء اللبناني المهلهل. الحرب في لبنان حاجة… حاجة من؟ في كتابه “إخوة بالدم” والذي يتكلم فيه عن تاريخ المافيا في صقلية، يقول مؤلف الكتاب “في لهجة باليرمو كانت صفة مافيوزو تطلق على الشخص الجريء والمعجب بنفسه… “، ثم يكمل الشرح قائلاً أن صفة الإجرام تلبّستْ الكلمة بعد عمل مسرحي ناجح كان بطله واحد يتمتع بصفة المافيوزو. لا يمكن الشك بتاتاً في جرأة سياسيي لبنان وثقتهم بأنفسهم، وما تحويلهم البلد منذ عقود وعقود إلى مسرح لتمثيلياتهم سوى تسويغ لمن هم مثلي للقول إن الحرب في لبنان هي حاجة هؤلاء المافيات المجرمين. في كتابه “عزلة صاخبة جداً” يقول هرابال: “العالم لم يتوقف عن التعثر ولو لحظة”، وكي أنهي هذه المادة في عزلتي الصاخبة جداً أقول: أن قراءة الكتب التي على غرار مذكرات البزري وسعادة قد تساعد المرء على تجنّب تعثرات العالم… 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post بالتفاصيل.. من هو الإيراني المستهدف بأحدث عقوبات أميركا؟ next post علماء مصريون يفحصون مومياء بـ”أحدث جهاز” لتحديد الهوية You may also like مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024 عبده وازن يكتب عن: فيروز تطفئ شمعة التسعين... 21 نوفمبر، 2024 “موجز تاريخ الحرب” كما يسطره المؤرخ العسكري غوين... 21 نوفمبر، 2024