الكاتب والكتاب ثقافة و فنون في روايات ألبير قصيري الرجال كسالى والنساء يعملن by admin 9 أغسطس، 2024 written by admin 9 أغسطس، 2024 127 رواية ‘كسالى في الوادي الخصيب’ تمثل الأكثر اهتماما بظاهرة الكسل من بين روايات الكاتب المصري. The Middle East Online / محمد الحمامصي حالة الروائي والكاتب المصري ألبير قصيري غريبة، فهو طوال أكثر من خمسين عاما كان يقيم بنفس الغرفة، في نفس الفندق، في باريس لا يغادره، ولا يفكر في أن يبحث لنفسه عن سكن يؤجره، حتى أمه التي جاء بها من مصر لتعيش معه سنوات في نفس الغرفة ـ وهي امرأة مصرية ولا تتكلم الفرنسية ـ لم تغادر الفندق مثله. حالة الكسل هذه كما يشير الكاتب والمترجم محمود قاسم في مقدمته لترجمة رواية “كسالى في الوادي الخصيب” الصادرة عن مؤسسة هنداوي، حالة جوانية يمكن معرفة أسبابها عند قراءة روايات الكاتب القليلة، والتوغل في سلوك الكثير من أبطال هذه الروايات. ويضيف “الكسل يشكل السمة الرئيسية في روايات قصيري، والغريب أنه كسل رجولي، أي إنه يتعلق فقط بالذكورة، ففي رواياته العديدة تجد أن النساء تعمل، أيا كان هذا النوع من العمل، بينما الرجال كسالى إلى أقصى حد ممكن. ففي رواية ‘شحاذون ومتكابرون’، فإن النساء هن اللاتي يعملن في بيوت الليل، يجلبن المال، ويحركن العالم. وفي رواية ‘منزل الموت الأكيد’، فإن كل الرجال يبقون في المنزل الآيل للسقوط، لا يغادرونه، بينما تتجمع الزوجات ويخرجن من البيت، يصحبهن الأطفال، ويذهبن إلى صاحب البيت من أجل مواجهة ساخنة، ويطالبنه بتصليح البيت. أما الرجال، فإنهم يقبعون في الدار، يفكرون فيما يمكن أن يحل عليهم، كل ما يفعلونه هو كتابة عريضة يرسلونها إلى السلطات المسؤولة، ويقرر أحدهم تشجيعَ جيرانه على عدم دفع الأجرة، وذلك لأن ‘صاحب البيت بلا أجرة، وبلا بيت لا يكون صاحبَ بيت'”. في هذه الرواية يروي لنا قصيري قصة عائلة كرست حياتها وحياة أبنائها لفعل اللاشيء، فالجميع في هذا البيتِ الريفي الصغير ينامون طوال الوقت؛ الأب وأبناؤه الثلاثة: رفيق وجلال وسراج، والعم مصطفى. وعندما يستيقظون يتكاسلون حتى عن فعل أبسطِ أمورهم، وتتولى هدى الخادمة إدارة البيت وتنظيم أموره. لكن حياتهم المستقرة تتعرض للتهديد عندما يسمع الابن الأصغر سراج أن على الإنسان أن يعمل، وأن بعض الناس يضبطون المنبه ليستيقظوا في الصباح ويذهبوا إلى وظائفهم! فكرة كهذه جعلت أشقاءه يتشككون في نسبِه إلى العائلة، لمجرد أنه تحدث بها. تزداد الأمور تعقيدا عندما يقرر سراج الذهابَ إلى المدينة للعمل، ويقرر الأب الزواج مرة أخرى، فيسعى الجميع إلى إحباط هذه الزيجة كي تبقى الأمور على ما هي عليه. ويوضح قاسم أن هذه الرواية “كسالى في الوادي الخصيب” تمثل الأكثر اهتماما بظاهرة الكسل، ويبدو من تناقض عنوانها موقف الرجل تجاه الحياة، وسوف نرى أن الرجال بالفعل هم الأشد كسلًا، لدرجة أن إحدى الشخصيات يمكنها أن تنام لعدة أسابيع، أما النساء فهن مليئات بالنشاط والحيوية، ويمارسن أعمالا تجلب لهن الأموال، مثل الطفلة الخادمة هدى، أو العاهرة إمتثال، أو الخاطبة البدينة الحاجَّة زهرة، فهنَّ عناصر الحركة الوحيدة في هذا المجتمع. والرجال الذين يعيشون في بيتٍ ريفي صغير يكادوا أن يموتوا كسلا، بداية من الأب العجوز حافظ، ومرورا بأخيه مصطفى، ثم أبنائه الثلاثة: رفيق وجلال، ثم سراج أصغرهم جميعا. ويرى أن الكسل هنا حالةُ عدوى لدى الجميع، هو نوع من المتعة الفلسفية، ولا يتمثل فقط في أن الجميع يغطون في النوم طيلةَ أوقاتهم، ولا يجتمعون إلا مرات قليلة كل أسبوع أثناء لحظات تناول الطعام، بل إنهم جميعا بلا وظائف، ويرتعب أحدهم بشدة من فكرة العمل، والخروج في ساعات مبكرة مع الآخرين ليعمل، وعلى طريقة تخويف الأطفال بتذكيرهم بشيء ما يرعبهم كالعسكري، وبائع الجاز، فإن ما يرعب رفيق، هو أن عشيقته العاهرة، تطلب منه أن يترك منزلَ أبيه ويعمل مثلَ بقية البشر. وكما سبقت الإشارة، فإذا كان هذا هو عالم الرجال الكسالى، فإنه في المقابل، يتسم عالم النساء بالنشاط والحيوية والعطاء، يبدو ذلك واضحًا في دور إمتثال كعاهرة ـ في الرواية التي بين أيدينا ـ في إقناع الطلبة الذين يترددون على بيتها، وفي دور الحاجَّة زهرة في تنشيط الرجل كي تدفعَه للزواج وإخراجه من حالة الوهن التي تعتريه، فتعطيه الإحساس بأنه قادر ويمكنه أن يستمر. أما هدى، فهي الشخصية النسائية الرئيسية، وهي لا تكاد تبلغ الثالثة عشر رغم عدم الإشارة إلى سنها في الرواية، ففي الفصل الثاني من الرواية نراها هي التي تطبخ، وتنظف البيت، وهي العنصر الحيوي الوحيد في الدار، ورغم تعرضها لمضايقات جنسية من رفيق، ورغم إهانات العجوز حافظ لها ـ لأنها لم تؤد واجبها حين نادى عليها ـ فإنها هي الترس الوحيد الذي يعمل ويتحرك في وسطِ تروس كسولةٍ يعلوها الصدأ، ولعلها تفعل ذلك من أجلِ حبها لسراج. كما أنها صلة وصل بين رفيق وعشيقته إمتثال، يُرسلها إليها أكثر من مرة، وفي الفصل الثامن تقوم بزيارتها ذات مساء. ويلفت قاسم إلى أن المرأة تبدو هنا تمارس أعمالًا وضيعة مثلما في أكثر أعمال ألبير قصيري، فهي إما عاهرة أو هي مخلوق متمثل دومًا، ولكنها مهما كانت لا تتمتع بكسل الرجال الذي يدفعهم إلى النوم لساعات طويلة، ويعتبرون أن لحظات اليقظة، إما للطعام أو للذهاب إلى الحمام، هي لحظاتٌ ضائعة، ويطرح هذا الأمر السؤال: هل هناك علاقة بين إقامة الكاتب في نفس الغرفة بنفس الفندق طوال نصف قرن وبين كسل شخصياته وعدم إقباله على الشهرة، وأيضا على أن تترجَم أعماله إلى لغات أخرى منها اللغة العربية، لغة وطنه؟ من الواضح أن هناك علاقة، كأن قصيري قد سكب كل كسله وفلسفته في ممارستها في أغلب أبطال رواياته المنشورة حتى الآن. يذكر أن الروائي والكاتب المصري ألبير قصيري يعد من أشهرِ الأدباء الفرانكفونيِّين العرب، يلقبه النقاد عادة ﺑ”فولتير النيل”، ولد عام 1913، والتحق بمدارس الفرير ثم الليسيه، وتعرف هناك إلى الثقافة الفرنسية. انضم إلى جماعة “الفن والحرية”، وهي جماعة أدبية يسارية تقرب فيها إلى رواد السريالية، مثل جورج حنين، ورمسيس يونان، وكامل التلمساني وغيرهم، ثم تنقل بعد ذلك بين أوروبا وأميركا إلى أن استقر أخيرا في باريس عام 1945، وهناك عاش عمره يكتب بالفرنسية عن المهمشين والبسطاء في مصر. كأن قصيري قد سكب كل كسله وفلسفته في ممارستها في أغلب أبطال رواياته المنشورة حتى الآن مقتطف من الرواية عندما تحين ساعة القيلولة المقدسة، يسود البيتَ سكون يبدو كأنه يغوص في أعماق الصمت، تسمع أحيانا أصواتا مكتومة لأطباق غير مرئية، تغشى في جو السكون، تبدو كصيحةٍ ضائعة عبر النوم الثقيل. تمدد رفيق فوق سريره، فهو لم ينم، العينان مفتوحتان في الظلام، إنه متيقظ بحساسيةٍ مفرِطة، أنهك نفسَه في نضالٍ شديد ضد الخمول، في انتظار الحاجة زهرة، الخاطبة التي تخاطر بدسائسها في أن تقلب حالَ المنزل، قرر ألا يتم زواج أبيه؛ لذا، فعليه ألَا ينام لبضعة أيام، إنه أمر بشِع مجنون، يمكن لرفيق أن يسبب التعب لأبيه. ولعله لن يبلغ نهاية مهمته، يلمع العَرق على جبينه، يناضل الملل المؤذي الذي يصيب أعضاءه بالوسوسة التي تسري فيه بطء الكسل. هنا بدأت المعاناة تنغص عليه، فاستند على مرفقَيه، وتنهد بعمق، وسمِع أنفاسه العميقة، وراح يحذر نفسه: لقد فشل في إيقاظ جلال الذي يرقد فوق السرير المجاور، أدار وجهه نحو الحائط؟ اندفن تماما تحت اللحاف، فلا تكدره مشقةُ تلك الأنفاس اللاهثة لنومه الأشبه بالموت، فرفيق يعجب بهذا الغناء الصداح الذي لا يسبب له أي قلق، إنها حالة من السبات الدائم والنوم المستمر، ليس لدى جلال الخيار، فنومه ليس رغبة في الهروب من عالمٍ لا يعجبه، بل أن يتجاهل كل ما هو موجود بعيدا عن إنسانية مليئة بالمعاناة يهددها الجشع؛ لذا يستسلم للنوم بشكل طبيعي بلا أي مبالاة كأن الشخير أمر عادي مبهج. أما رفيق فعلى العكس فهو صاحب رؤية عالم متواضع مسكين، لقد اختار النوم كمأوى، وهو لا يحس بالراحة إلا خلف هذه الجدران المحاطة بالمتاريس ضد الكائنات والأشياء المنحوتة التي تحوط المنزل، حيث تعلو كومة من رُكام الوجوه الإنسانية، تبدو له بالغةَ البشاعة. تذكر بشكلٍ مشوش الزمن الذي كان يخرج فيه، واتصالاته القائمة على المصادفة مع البشر، إنهم جميعًا قتلة، وقد احتفظ لنفسه بكراهية لا حد لها؛ فعندما كان أصغر سنا، فَهِم قيمةَ الوجود الذي يسير على وتيرة واحدة إلى الأبد، التي يقدمها له منزل الأهل، هذا الأمن الذي يتخلص من كل موجود، يرجع الفضل فيه إلى العجوز حافظ، الذي يصنع حوله جوا من الفراغ الأبدي؛ ولذا فرفيق يحترم أباه من أجل هذا النظام الرائع، الذي يوفِّر له الكسل والخمول، وهو مدان للفكرة الوحيدة التي طلع بها من الدنيا، وعندما يضطر في أي وقت أن يضحيَ بحبه من أجل امرأة، وأن يخضع لرغبةِ أبيه، فإن رفيق لا يتردد، رغم المعاناة التي تكلفه مثل هذه التضحية؛ فالعجوز حافظ على حق، ورفيق يأخذ ذلك في الحسبان ويبادر في تنفيذه في الوقت المناسب، لكن الآن فالعجوز حافظ يحاول أن يحصل على هذا الأمن، وتلك الخبرة البالغة الصعوبة عبْر الأجيال، لقد تمرَّد عليه رفيق، ويُحس أنه قد أُهين وتعرض للخيانة. هذه المرأة التي أحبها رفيق، في الوقت الذي كان يخرج فيه كانت عاهرة شابة تسكن في البيت القديم المتصدع الذي يقع على الطريق الرئيسي، يسمونها في الحي “إمتثال، صديقة الطلبة” لأنها لا تستقبل زبائنها إلا من بين الشباب الجامعيين، وكل زبائنها، البالغين لتوهم، يهرعون إلى بابها، كان رفيق يزورها أحيانا في صحبة تلاميذ آخرين، في البداية لم تنتبه إمتثال إليه، فهو مجرد زبون مثل الآخرين، ثم جاءت اللحظة التي بدأت تعامله بطريقةٍ خاصة، رفضت النقود التي يعطيها لها، وأحسَّ رفيق بتميز خاص وهو يتصور نفسه مخلوقا غريبا. بدَت إمتثال كأنها ذاقت منه متعة غريبة وهي تمارس الحب معه، وجاء الوقت الذي اكتشف فيه رفيق لهيبَ الجسد، فلم يستطِع أن ينساها، وبدأت إمتثال تحبه لدرجة الجنون، ولم تعد تستقبل المزيد من الزبائن، وراحت تقضي أوقاتها في انتظاره، وأصبحت رمزا للوفاء، وخلال بضعة أشهر من هذه العاطفة القوية، فكر رفيق أن يقترن بإمتثال وأن يأتي بها لتعيش معه في البيت. وعندما حدث أباه بالأمر، بدا العجوز حافظ عنيدا، وعارض ذلك بشدة، ووضع ابنه في خيار إما أن يترك البيت، أو أن يتخلى عن مشروعه الطائش. وكان أول رد فعلٍ لرفيق أن ترك البيت، وعاشر إمتثال، لكن النقود بدأت تنقصهم من أجل المعيشة، فماذا يفعل، عليه أن يعمل، بدت هذه الجملة صعبة لدرجة أن رفيق لم يستطِع أن ينطق بها، فكر مليا، أن يوازن بين عاطفته الحقيقية وتقلبات الحياة؛ فالنوم والسكينة سوف يلغيان، وفي النهاية تخلى عن حبِّه ولم تعد أي قوة جسدية تقارن براحته، وأعلن لإمتثال رفض أبيه، حدثها بقراره في الانفصال عنها، وهكذا كانت المأساة التي لم تنته. حدثت هذه المغامرة منذ عامين تقريبا، لكن رفيق لم ينس قط قوة اللحظات الشهوانية التي تشعله ذكرياتها كثيرا فلا تخمد، راحَت صورة إمتثال تؤرقه حتى في نومه، ومنذ انفصالهما، لم تود قط أن تراه، عادت إلى حياتها القديمة كعاهرة، وجاء الطلاب الشباب يطرقون بابها، وراح رفيق يكظم غيظه عن كل ما تفعله، حتى إنها ولدت طفلا سفاحا لا تعرف له أبا، فقامت بتربيته في الغرفة الوحيدة التي تمارس فيها الحب. ما يؤرق رفيق حقا، ليس انفصاله عن إمتثال، ولكنه سوء التفاهم الذي حدث بينهما، فإمتثال لم تفهم سوى شيء واحد، أن رفيق لم يَعُد يحبها، وأن ليس لديه الوقت ليجعلها تفهم الدوافع الأساسية لفراقهما، تصورته قوادا؛ لأنه أخبرها أنه لا يود أن يعمل، ودون أن تحاول أن تسمع، راحَت تصرخ في جنونٍ ثم طردَته من منزلها يُلاحق بلعناتها. 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post سرقة ذئب بانكسي من قمره الاصطناعي في لندن next post الجيش الوطني الليبي: التحرك نحو الجنوب الغربي لا يستهدف أحدا You may also like أعمال والت ويتمان الكاملة عربها عابد إسماعيل مع... 30 يناير، 2025 كاهن من كابول يطمح في أن يكون البابا... 30 يناير، 2025 “ما وراء التلال” فيلم روماني عن المنافس الوحيد... 30 يناير، 2025 التلوث يغرق العالم في “البخارة” والممثلون يبحثون عن... 30 يناير، 2025 ظاهرة الزواج العصري المأزوم في مقاربة فلسفية 30 يناير، 2025 “موجز تاريخ الأدب البولندي” يرصد محطات الشيوعية وما... 30 يناير، 2025 فيلم “الخرطوم”: توثيق إرث ضائع وسط لهيب الحرب 30 يناير، 2025 محمود الزيباوي يكتب عن: أفاعي موقع مسافي في... 28 يناير، 2025 جماليات التجريد الغنائي في لوحات جنان الخليل 28 يناير، 2025 قضايا الحرية والهوية والاغتراب تشغل 5 مجموعات قصصية 28 يناير، 2025