ثقافة و فنونعربي تاريخ السيرة الذاتية وإشكالية الحديث عن الذات by admin 31 أغسطس، 2019 written by admin 31 أغسطس، 2019 938 واحدة من أشهر السير الذاتية في العصور القديمة المتأخرة هي التي كتبها الفيلسوف والكاتب والمفكر الأسقف أوريليوس أوغسطين تحت عنوان “اعتراف”. ميدل ايست اونلاين / جودت هوشيار أشار العديد من الباحثين الذين تناولوا موضوع “السيرة الذاتية” إلى أن جان جاك روسو هو أول من كتب سيرته الذاتية تحت عنوان “اعترافات”، وهذا وهم ناجم عن عدم الإطلاع على تطور هذا الفن عبر تاريخ الفكر اليوناني والروماني والنهضة الفكرية في أوروبا . يمكن اعتبار يوميات الأمبراطور الروماني السادس عشر ماركوس اوريليوس التي كتبها في السبعينيات من القرن الثاني تحت عنوان “إلى نفسي” أو “بيني وبين نفسي” أول محاولة لكتابة السيرة الذاتية وهي تأملات تركز في المقام الأول على عالمه الروحي . ولعل واحدة من أشهر السير الذاتية في العصور القديمة المتأخرة (حوالي عام 400) هي التي كتبها الفيلسوف والكاتب والمفكر الأسقف أوريليوس أوغسطين (354 – 430) تحت عنوان “اعتراف”. وتحدث فيه بالتفصيل عن طفولته وشبابه وعائلته ومدرسته وهواياته. وهي من أوائل كتب السيرة الذاتية . مَثَلُ اوغسطين في البحث عن الذات، عبر سعيه الروحي لم يقدر له الانتشار في العصور الوسطى بسبب التزمت الديني، فحراس الفضيلة كانوا بالمرصاد لكل من يجرؤ على البوح بدخيلة نفسه على رؤوس الأشهاد، فحتى الاعترافات الدينية كانت سرية ويحظر تدوينها. وبعد ستة قرون من نشر السيرة الذاتية لأوغسطين. كتب الفيلسوف والعالم اللاهوتي الفرنسي بيتر ابيلار (1079-1142) مؤسس جامعة باريس، والشعلة التي ألهبت عقل أوروبا اللاتينية في القرن الثاني عشر، كتب سيرته الذاتية تحت عنوان “تأريخ بؤسي”. وإذا كان أوغسطين تحدث عن حياته الروحية واهتدائه إلى الإيمان، فأن ابيلار تحدث صراحة وبالتفصيل عن حياته الخاصة، وحبه لتلميذته ايلواز، وعن المحن التي حلت بالعاشقين التعيسين. قصة “حب ابيلار وايلواز” أصبحت واحدة من أهم قصص الحب الحزينة في الثقافة العالمية. وخلافا لـقصة “حب تريستان وايزول ” الأسطورية، وقصة “روميو وجولييت”، فإن ابيلارد وايلواز كانا شخصين حقيقيين. وظلت قصتهما في ذاكرة الأجيال المتعاقبة بفضل السيرة الذاتية لأبيلار . وصف المنجزات الشخصية، وإبراز الجوانب الإيجابية للكاتب، قد يعدّ غرورا مستهجناً، رغم أن ذلك ضروري لتقديم عرض متكامل لحياة صاحب السيرة الذاتية الاتجاهات الفلسفية لعصر النهضة الأوروبية وضعت الإنسان في قلب العالم، ورفضت فكرة الخطيئة وعدم أهمية الفرد، وأخذت في تمجيد الإنسان وعقله وجماله وقوته وإبداعه العلمي والفني، وليس من قبيل المصادفة أن “فن البورتريه” قد ظهر في هذا العصر تحديدا، كما شهد الشعر الغنائي تطوراً لم يسبق له مثيل، حيث سعى الناس حثيثاً في هذا العصر إلى التعبير العميق عن دواخلهم الدفينة علانية، بكل ما فيها من طيبة أو خبث، وكأنهم يتطهرون من عبئها . ومن الملفت للنظر أن الشاعر الإيطالي فرانشيسكو بترارك (1304- 1374) الذي يعد أحد الآباء البارزين للنهضة الأوروبية، ساهم أيضا في تطوير فن السيرة الذاتية. كتب بترارك سيرته الذاتية في كتابين هما “سري الخاص”، “مشاهير الرجال” يتضمن الكتاب الأول ما سماه بترارك “رسائل إلى الأحفاد” تحدث فيه عن الأحداث المؤثرة في حياته. أما الكتاب الثاني فهو على شكل حوار بين الشاعر والقديس أغسطينوس (354-430). السيرة الذاتية لبترارك تتناول حياته الروحية، ووصف تطوره الأخلاقي، وصراعه الداخلي مع نفسه . وابتداء من هذا العصر، عصر النهضة أصبحت الشخصية الإنسانية وعالمها الداخلي ذات أهمية كبيرة . تعد السيرة الذاتية التي كتبها الصائغ والنحات الإيطالي الشهير بنفينوتو تشيليني من أبدع اعمال السيرة الذاتية، والتي تروي الكثير عن عصر النهضة الأدبية والفنية في إيطاليا – أو عصر الانبعاث. كتب تشيليني رائعته في شيخوخته والتي تتضمن الوصف الدقيق لحياته العاصفة كلها تقريبا. وبلغة ناصعة، وأسلوب شائق ومشرق: عن مغامراته العاطفية، والسنوات التي قضاها في خدمة البابا والملك الفرنسي ودوق فلورنس، وعن مآثره العسكرية وهواياته، وعن فترة سجنه في قلعة “الملاك المقدس” ورحلاته، وبطبيعة الحال عن عمله الإبداعي . لم يلتزم تشيليني بحقيقة الأحداث أحيانا، فقد لجأ إلى التباهي والمبالغة. بيد أن هذا لم يقلل من قيمة الكتاب، بل على النقيض من ذلك أسهم في رواجه وذيوعه. كتب تشيليني سيرته باللغة الإيطالية، وليس باللغة اللاتينية، كما فعل الفلاسفة والقساوسة الإيطاليون من قبل، وذلك لإتاحة الفرصة للجمهور العام لقراءة سيرته بلغة سلسة واضحة. نشر الكتاب في عام 1728، واكتسب على الفور شعبية واسعة، وترجم الى أهم اللغات الأوروبية. ولعل الأهمية البالغة للكتاب، هي التي دفعت بشاعر ألمانيا العظيم يوهان غوته إلى ترجمته إلى الألمانية بنفسه . أسهمت السيرة الذاتية لتشيليني وشخصيته المتفردة، وعمق تصويره لمغامراته، وأسلوبه المشرق، في تطور فن السيرة الذاتية . أما السيرة الذاتية الفلسفية، فان الفيلسوف الفرنسي ميشيل دي مونتين (1533-1592) يعد الرائد الأول لهذا النوع من السير. ومونتين واحد من أكثر الكتّاب والفلاسفة المؤثرين في عصر النهضة. كتب مونتين سيرته الذاتية في سبعينيات القرن السادس عشر – خلال العزلة التي فرضها على نفسه – وأطلق عليها “تجارب”، ونشرت لأول مرة في عام 1580. وتحولت “تجارب” إلى واحدة من أكثر الكتب مقروئية في ذلك العصر . تكمن أهمية “تجارب” مونتين، ليس في حديثه عن نفسه وعن مصيره المتشابك مع أحداث عصره ، بل حقيقة أنه بخلاف من سبقوه في كتابة سيرهم الذاتية، أكد، وأمعن في التأكيد، على أنه فرد عادي. وكتب يقول: “اعرض حياتي أمام الأنظار وهي حياة عادية ليس فيها أي تميز أو تألق”. وعلى هذا النحو ظهرت لأول مرة في الثقافة العالمية الفكرة التي صاغها وهي “إن كل شخص لديه كل ما هو مميز للجنس البشري بأسره”. وافترض أن سيرته كإنسان عادي يمكن أن تكون ممتعة للقراء . كل السير الذاتية التي ظهرت في القرون اللاحقة يمكن تقسيمها الى نوعين : النوع الأول يقتدي بسيرة تشيليني الذاتية، ويؤكد أصالة وتفرد أصحابها. والنوع الثاني يسير على هدى مونتين إلى هذا الحد أو ذاك. وكان بعضهم صادقا في تواضعه والبعض الآخر تظاهر بذلك. وكانوا على ثقة بأن الحياة العادية تجذب انتباه القراء العاديين . اعترافات جان جاك روسو كانت السيرة الذاتية للكاتب والمفكر والفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (1712- 1778) مرحلة مهمة في تطور فن السيرة الذاتية، ومصدرا للتقليد من قبل الآخرين. روسو مؤسس مدرسة الـ سنتمنتاليزم أو التيار العاطفي في الأدب. لعب دورا مهما في تطور الفلسفة والأدب العالمي. وكان من دعاة تقديس الطبيعة والبساطة، وتمجيد الإحساس بدلا من العقل، ومثالية الحياة البسيطة في أحضان الطبيعة. وهذه كلها أمور ولدت الأهتمام بالحياة الداخلية للأنسان. معظم أعمال روسو مكرسة لدراسة مشاعر الإنسان. وكان من الطبيعي أن تقوده النظرة المعمقة إلى الطبيعة الإنسانية إلى وصف حياته الخاصة . بين عامي 1766 ، 1769 كتب روسو اعترافاته، وقام بتعرية قلبه وكشف دخيلة نفسه في بعض المقاطع. لم تكن السير الذاتية حتى ذلك الوقت تتميز بمثل هذه الصراحة المدمرة، وربما حتى يومنا هذا. فهو لم يحاول قط إخفاء نزواته وحماقاته وأخطائه، بل تفاخر بها. وفي الوقت ذاته فان هذه “الاعترافات” – قصة شعرية عن الإنسان وعلاقته بالآخرين، وبالمجتمع والطبيعة. وليس من قبيل المصادفة أن يكرس روسو العديد من الصفحات في للتغني بالطبيعة، وسرد مغامراته العاطفية الحميمية، التي تتناوب مع الأفكار والصور المثالية. ولم يتوان من اتخاذ اعترافاته فرصة لمهاجمة أعدائه الحقيقيين والمتخيلين . كان صدق الاعتراف وحدة الجدال، قويين إلى درجة أن الكتاب لم ينشر خلال حياة المؤلف بل بعد وفاته، حيث نشر في الفترة بين عامي 1782 – 1789، في حين أن روسو نفسه اعتبر اعترافاته غير كافية فكتب في السنوات الاخيرة من حياته عدة حوارات منها “روسو يحاكم جان جاك” (1775-1776) و”نزهات حالم وحيد (1777- 1778). تكتسب “اعترافات” روسو أهمية بالغة لأنها ألهمت الرجال الآخرين الرغبة في كتابة سيرهم الذاتية على غرارها. ولكن روسو كتب يقول: “أنا أفعل شيئأ لم يفعله شخص قبلي ولن يقدر شخص بعدي على تقليده “. لقد حاول روسو أن يكون صادقا، ولكنه بالغ في التذلل، حين وصف نفسه – وهو يتحدث عن حياته في مقتبل العمر – بالريفي الصغير البليد. وعندما نقارن اعترافاته بسلسلة رسائله الشخصية التي كتبها في تلك الفترة، نجد أن رسائله تنم عن ذكاء ثاقب، وعن مستوى عال من عزة النفس، مما يخلق انطباعا بأنه كتب بعض اعترافاته في اطار استعراضي . ليوهان غوته” الشعر والحقيقة “ لعبت السيرة الذاتية للشاعر الألماني يوهان غوته (1749-1832) المعنونة “الشعر والحقيقة في حياتي” التي كتبها بين عامي 1811 ، 1833 دورا لا تقل أهمية عن “اعترافات” روسو في تطوير فن السيرة الذاتية. تحدث غوتة في مذكراته عن سنوات شبابه وبداية رحلته الإبداعية المرتبطة بالتيار الأدبي المسمى “العاصفة والهجوم”. وقد أصبحت عبارة “الشعر والحقيقة ” شائعة، وهي غالبا ما تستخدم لوصف تناسب الخيال والواقع في الأعمال الأدبية. وكان غوته صادقا، عندما أطلق هذا الاسم على سيرته الذاتية، لأن حياتنا خليط من الشعر والحقيقة، وهي أثمن ما لدينا، وأحداث حياتنا مهما كانت بسيطة وعادية مهمة بالنسبة إلينا، بل أكثر أهمية من أي شيء آخر في العالم، وهي التي تلهمنا المشاعر الجميلة للحظات نادرة من الكمال، وعندما لا توجد في الحياة مثل هذه اللحظات، فإننا نعمد إلى خلقها، أي أننا شعراء بكل معنى الكلمة . وكان غوته يعتقد أن المهمة الأساسية للشاعر أو الكاتب الذي يكتب سيرته الذاتية هي وصف علاقته بزمنه ونظرته إلى العالم والناس، وكيف انعكس كل ذلك على نتاجاته، حيث يمتزج فيها الشعر والحقيقة . لا يمكن لأي إنسان أن يقول كل شيء عن نفسه، بصدق وشفافية ونزاهة، ويعترف بالحقيقة كاملة، مما يجعلنا نعتقد باستحالة كتابة سيرة ذاتية حقيقية في القرنين التاسع عشر والعشرين ظهرت سير ذاتية كثيرة، لأبرز الكتّاب والشعراء منها “قصة حياتي” لجورج صاند، و”البحث عن الزمن الضائع “لمارسيل بروست، و”صورة الفنان في شبابه” لجيمس جويس، و”حصيلة حياتي” لسومرست موم، وكَتَبَ وينستون تشرتشل سيرتين ذاتيتين، إضافة إلى مذكراته في ثلاثة مجلدات. وثمة في الأدب العربي العديد من كتب السيرة الذاتية لعل أهمها: “الأيام” لطه حسين، و”أنا” لعباس محمود للعقاد، و”حياتي” لأحمد أمين، و” تربية سلامة موسى” لسلامة موسى، و”أوراق العمر” للويس عوض، و”ماذا علمتني الحياة” لجلال أمين. ليس من الضروري أن يكون كاتب السيرة الذاتية شخصية عظيمة أو مؤثرة، أو نجماً شهيراً من نجوم المجتمع في السياسة أو الفن أو الأدب أو العلم. أو أن يكون قد التقى في مسيرة حياته بعض الناس المشهورين، فكل شخص في هذه الدنيا متميز، ولديه ما يستحق أن يروى . إشكالية الحديث عن الذات لا شك أن كل شخص يعرف عن أحداث حياته أكثر مما يعرفه أي شخص آخر. وقد يتبادر إلى الذهن أن أي واحد منا هو خير من يكتب عما يعتبره أكثر أحداث حياته أهمية ودلالة. هكذا يبدو الأمر لأول وهلة، ولكننا حين نشرع بالكتابة، نكتشف أن ثمة العديد من الصعوبات تعترض طريقنا، لأننا سنعتمد على ذاكرتنا في استرجاع الماضي، والذاكرة أداة خادعة تخزن بعض الأشياء، وتهمل أشياء أخرى جد كثيرة، وان كانت مهمة في حياتنا، ثم أن الذاكرة تصبح خاملة وكثيرة النسيان كلما تقدم بنا العمر، والناس يكتبون سيرهم الذاتية – في العادة – في سنين العمر المتأخرة . وثمة الرقابة الذاتية التي يمارسها العقل على كل ما يسيء إلينا، أو كان كريها أو غير مستحب في حياتنا. إننا نتذكر ما نرغب في استعادتها، ونودع في طيات النسيان كل ما يؤلمنا أو نخجل من التصريح به . مَنْ مِن الرجال يمتلك الشجاعة للحديث الصريح عن حياته الجنسية؟ إن ضرورات الاحتشام لا تسمح بذلك. ولا يوجد إنسان عاقل وسوي قادر على التصريح بكل شيء عن دخيلة نفسه وعن أسراره الحميمية . مَنْ بوسع أي انسان الاعتراف بارتكاب عمل دنيء. وهل ثمة من لم يرتكب عملا دنيئا في يوم ما؟ كما أننا لا نستطيع قول الحقيقة كلها عن حياة أولئك الذين شاركونا الأعمال التي نصفها، خاصة اذا كانوا لا يزالون على قيد الحياة. وإذا فعلنا ذلك، نخسرهم إلى الأبد، أو ندخل معهم في منازعات نحن في غنى عنها . الحديث عن النفس أمر غير مستساغ، إلا بكياسة ولباقة بعيدا عن الاعتداد بالنفس. كما أن وصف المنجزات الشخصية، وإبراز الجوانب الإيجابية للكاتب، قد يعدّ غرورا مستهجناً، رغم أن ذلك ضروري لتقديم عرض متكامل لحياة صاحب السيرة الذاتية، إذا كانت الجوانب السلبية قد ذكرت . لا يمكن لأي إنسان أن يقول كل شيء عن نفسه، بصدق وشفافية ونزاهة، ويعترف بالحقيقة كاملة، مما يجعلنا نعتقد باستحالة كتابة سيرة ذاتية حقيقية . 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post ترمب ينشر صورة فشل إطلاق صاروخ إيراني next post وفاة إسراء غريب تهز فلسطين… ما قصة الجن؟ You may also like مهى سلطان تكتب عن: الرسام اللبناني رضوان الشهال... 24 نوفمبر، 2024 فيلمان فرنسيان يخوضان الحياة الفتية بين الضاحية والريف 24 نوفمبر، 2024 مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024 Leave a Comment Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment.