ثقافة و فنونعربي بيدرو ألمودوفار: “لم يعد بوسعي الاختباء” (ترجمة) by admin 31 أغسطس، 2019 written by admin 31 أغسطس، 2019 15 يتحدث المخرج الإسباني عن مسيرته المهنية وفيلمه الجديد الشخصيّ جداً Pain and Glory، إذ يُعد تحفة فنية يقدمها في مرحلة متقدمة من حياته مجلة رمان الثقافية / رهام درويش – كاتبة من الأردن كتبها زان بروكس ونُشرت في “الغارديان” في 2/8/1019 “من دون صناعة الفيلم لكانت حياتي بلا معنى” يقول سلفادور مالو، المخرج المكتئب الذي تتمركز حوله أحداث فيلم بيدرو ألمودوفار الجديد. فهو يتقدم في العمر ويزداد مرضاً، ويعيش وحدة تامة في شقة كبيرة مليئة بالذكريات بعد أن غادره أصدقاؤه، فيما يخشى أنه انتهى من تقديم أفضل أعماله. يمرّ الوقت فيما يستمر جسده في الانهيار. كان اصطحاب مالو إلى المسرح على كرسيّ متحرك من أجل إجراءٍ روتينيّ بمثابة تدريب عملي على موته. يشير ألمودوفار إلى أن قصة الفيلم خيالية، وإلى حقيقة أنه لم ولن يرغب يوماً في تقديم الأفلام الوثائقية. لذا، فلا رابط بينه وبين مالو، حتى وإن ارتدى أنتونيو بانديراس ملابس المخرج أثناء لعب الدور، وحتى إذا تم تصوير مشاهد الفيلم الداخلية في شقة المخرج، وحتى إذا تقاطعت حياة مالو مع حياة المخرج على نحو كبير. لكن حجته الدفاعية تتراجع إذ ينفض يديه ويقول: “أحاول إقناع نفسي بأنني أتحدثُ عن شخصية ما، لكن في أعماقي، أدرك أنني أتحدث عن نفسي. لذا، بوسعكَ أن تسألني عن أيّ شيء. لم يعد بوسعي الاختباء خلف سلفادور مالو.” ألتقي به في مكتب الإنتاج الخاص به في مدريد، في شارع فرعي عادي غرب إحدى حلبات مصارعة الثيران. يجلس ألمودوفار منتصباً على مكتبه بشعر أبيض وابتسامة شقية وعينين حزينتين، يرسم عابثاً على دفتر بين يديه بينما يستمر في الحديث. وراءه جدار مرصّع بالصور المبروزة لبينولوبي كروز بشعر أشقر، إضافة إلى بورتريه يحمل صورة وتوقيع بيلي وايلدر. في صور عدة أخرى، يظهر المخرج في أيام شبابه بشعر شديد السّواد ونظرة أكثر جرأة. في الحقيقة، لا أعتقد أن ألمودوفار اختبأ يوماً وراء أفلامه، أو أن ذلك إن حدث كان أكثر من تخفّ بسيط لعوب. فقد صنع في شبابه الجريء الصاخب مشاهد جريئة وصاخبة، فيما صنع في منتصف العمر الغنيّ أعمال دراما وتشويق غنية. لكنه الآن يقارب السبعين من عمره فيما يعاني عبر كوميديا مهلهلة وصاخبة من آلام الظهر وطنين الاعتلالات الروحانية. ففيلم Pain and Glory ما هو إلا اعترافات رجل مسنّ، وقد يتبيّن أنه تحفة آخر عمره أيضاً. يُومئ المخرج برأسه سريعاً. “يُشعرني الفيلم بفخر شديد”، يقول مُسارعاً بهدف الإيضاح. هناك أخطاء في كل أفلامه، إلا أن في بعضها نواقص أقلّ من غيرها. “ربما يجدر بي القول أنني شديد الفخر بعدد من مشاهد هذا الفيلم”. تنضمّ إلينا في المكتب المترجمة كلير. في حين يضرب الألم ظهر ألمودوفار، تشتدّ معاناة ساق كلير اليسرى على نحو أكبر. فلقد شعرتْ بالألم عندما ضُربتْ مكابح الحافلة، وتعتقد الآن أنها مصابة بشدّ عضلي. لا تؤلمها قدمها عند الجلوس، لكن الله وحده يعلم كيف ستتمكن من النهوض عن كرسيها. يقرر ألمودوفار أن علينا مناقشة هذا الأمر لاحقاً. فربما سيحملها إذا دعت الحاجة، على افتراض أن ظهره المصاب لن يخذله. نرتشفُ ثلاثتُنا مشروباتنا فيما نتبادل نظرات يملؤها التوتر، وقد يتضحُ أن هذا أمراً هاماً. تمتلئ أفلام ألمودوفار بلحظات مماثلة: أعمال درامية إنسانية مليئة بالألم والهزل العنيف. في Pain and Glory ، يتشاجر مالو مع أصدقائه، ويجري مقابلة حيّة كما يداوي نفسه بالأفيون. من الفيلم يتّسمُ الأسلوب بتقلّب تُقابله شفقة فكاهية، فتزدادُ سوداوية ألمودوفار فيما أصبحتْ أفكاره شخصيةً أكثر. لكن بصفته صانعَ أفلام، فلقد أصبح أكثر خفّة من أي وقت مضى. يصحبُنا فيلمه Pain and Glory في رقصة مُبهجة. داخل مكتبه، يتحدثُ ألمودوفار بسرعة مستمراً في التنقل بين الإسبانية والإنجليزية. لولا صناعة الفيلم، لكانت حياة مالو بلا معنى. وهذا ما يعتقده المخرج كذلك. بل على الأرجح أن هذا ما شعر به دائماً. لكن في هذه الأيام، لا يزدادُ الصوت إلا صخباً. “فأنا أعتمد عليه. إن الحاجة لقصّ الحكايات أشبه بإدمان. فقد ازدادتْ علاقتي بالأفلام حدّة، بل زادتْ إشكاليّة. هناك سؤال يستمرّ في طرح نفسه عليك: متى سيحين وقتي؟ هل سيكون هذا آخر أفلامي؟” يرسمُ خطاً عرضياً مستقيماً على الورقة قبل أن يُنهيه بشقّ. “ربما هذا السبب الذي منعني من تطوير أي شيء آخر في حياتي. بل على العكس، لقد تراجعتُ عن الكثير حتى أنني وصلتُ مرحلة لا أشعر فيها بالاكتمال إلا من خلال الأفلام. فالسينما هي كل ما أملك. فقد أضحتْ الهدفَ والوسيلةَ بالنسبة لي. قد يُشعره أسلوب حياته بالكمال كفنان، لكن هل يُشعره بالنقص على المستوى الشخصي؟ يجفل ويقول: “سؤال جيد. لا شك أنه يتحكم بحياتي. لكنه ما تعتاد عليه. فقد اعتدتُ شخصياً أن لا أشعر بالحاجة إلى الآخرين، لذا فأنا أسمح لهم بالابتعاد، بل أقطعُ صلاتي بهم. أعتقد أن بوسعي استعادتهم إذا أردتُ ذلك، لكنني بحاجة إلى دافعٍ ما. بحاجة إلى سبب.” هل هذا ما يؤول إليه حال الفنانين العظماء؟ يتأملون النجوم من أبراج عاجية؟ بطريقة ما، يبدو أن هذا يتعارض مع الحيوية التي تتمتع بها أعمال ألمودوفار، فلطالما تمحورتْ حول الصخب والألوان والأحداث، حول اقتراب الأجساد وتلاحمها عن قرب. فأعماله تشبه ما قد تحصل عليه من سوق إلراسترو الشعبي، فاضحة لكنها استُعملت بكثرة: إنها بمثابة هبة مذهلة للعالم. وُلد ألمودوفار في بلدة لامانشا الصغيرة، حيث أدار والده محطة وقود فيما أدارت والدته بقالة. تطلب صنع فيلم Pain and Glory عودة للبحث في ماضيه، فقد قام أسير فلوريس ذو العشرة أعوام بلعب دوره طفلاً، إذ كان مليئاً بالنشاط وخارجاً عن المألوف، تجذبه شهوة يشعلها عامل وسيم في أحد المطاعم. يخاطبُ مالو والدتَه في نهاية الفيلم ويقول: “لقد خذلتكِ بكوني على طبيعتي”. بوسعه مجدداً فهم هذه الحالة. “نعم صحيح”، يقول إذ يسعُل. “في الحقيقة لم أكن يوماً الابن الذي رغبَ به والديّ. أعني، أعتقدُ أنهما أحبّاني حقاً، لكنني أدركتُ هذا في سنّ صغيرة.” لا يُوجّه لهما الكثير من اللوم الآن. انحدرُ الوالدان من لامانشا، فشكّلهما المكان على ما كانا عليه. “وُلدتُ عام ١٩٤٩ في وقت كانت فيه لامانشا بلدة مُحافظة ومتخلفة جداً. عملياً، عاش والديّ في القرن التاسع عشر لكنهما أنجبا ابناً ينتمي إلى القرن الحادي والعشرين.” “كانت هناك فجوةٌ هائلة بين توقعاتهما وتوقعاتي. كانا يرغبان في بقائي في القرية لأتزوج وأحصل على عمل في بنك. في الحقيقة، لقد عثرا لي على وظيفة في بنك لكنني رفضتها.” يحدّق بي وبكلير. “كنتُ أكره القرية. كانت تُرعبني حتى في صغري. ففيها الكثير من زواج الأقارب. كان الجميع منكفئون على ذاتهم. لم يحمل شيء أهمية كحال الجيران ورأيهم بك. كان ذلك جحيماً بالنسبة لي. لم أرغب في شيء سوى أن أرحل بعيداً.” في مدريد خلال السبعينات، تبنته أسرة جديدة جامحة، كانت تلك مجموعة لاموبيدا المدريدية، التي تشكلت من فنانين موسيقيين وتشكيليين ومسرحيين، وازدهرت بعد وفاة الجنرال فرانكو. من الفيلم . يشرح ألمودوفار كيف تأثرت لاموبيدا بكل شيء، من الفسق والسّحر البريطانييْن، والموجة الأمريكية الجديدة، والثورة الجنسية في الستينات، والمشهد الفني الذي تسبب به آندي وارهول واستوديو The Factory الذي أنشأه، فيما حافظتْ على كونها ظاهرة إسبانية بحتة وطفرةَ إبداعٍ عظيمة، جاءتْ بمثابة ردّ فعل على عقود من الاضطهاد. كان الوقتُ الذي قضاه مع لاموبيدا حلماً يتحقق، وأفضلُ تجارب حياته على الإطلاق. بين وقت وآخر، يفكرُ المخرج في خوض تجربةٍ هوليووديةٍ بنفسه. فقد كان قريباً جداً من إخراج فيلميْ Brokeback Mountain و The Paperboy. كان أقرب ما يكون إلى ذلك في بداية التسعينات، عندما طلبتْ منه شركة Touchstone Pictures للإنتاج إخراج فيلم Sister Act الذي قامت ببطولته ووبي غولدبرغ وروى قصة راهبات مُغنيّات. لكنه وبعد تفكير، قررَ أنه يقوم بعمل أفضل في مدريد. يعيشُ وحيداً تحيطُ به الكتبُ واللوحاتُ وثلاثةُ آلاف قرص من الأفلام، في شقة كبيرة في حي مالاسانا، الذي احتضن حراك لاموبيدا الفني. في الماضي، كان حيّ مالاسانا مليئاً بمخازن الطوب المتهالك والنوادي الصغيرة، لكنهُ أصبحَ أرستقراطياً بفعل تدفّق الأموال عليه. تغيّرَ المخرجُ، كما تغيرتْ المدينة. قُبيل وفاتها عام ١٩٩٩، قامتْ والدةُ ألمودوفار بتخطيط جنازتها بنفسها، فقررتْ ما ستكون عليه مراسم التأبين والفستان الذي سترتديه. كانتْ قد سمعتْ أن متعهدي الجنازات اعتادوا على ربط أقدام الموتى حتى لا تتفرق في التابوت، لذا طلبتْ من أبنائها أن يقوموا بفكّ رباطها إذا حدث ذلك. فلم ترغبْ بتقييد قدميْها كونها خططت للركض بحريّة. عندما تذكرَ ألمودوفار هذه المحادثة أثناء كتابته نص فيلم Pain and Glory، انهار باكياً بشكل مفاجئ. يقول أن والدته لم تكن خائفةً من الموت، ولطالما احترمَ هذا فيها. “لكنه يتسبب لي بالقلق، وليس بإمكاني تجاوزه. لا يمكنني حتى أن أتصالح مع كوْن الموت حقيقة. إضافةً إلى ذلك، أنا ملحد، ولا أؤمن بوجود حياة أخرى، لذا لن تساعدني عقيدة ما. أرى أن الأمر برمّته غير طبيعي، وأعلم أن كلامي يبدو غريباً.” يتنهدُ ويقول “لذا، نعم. بالطبع أنا خائفٌ من الموت.” كلير ليست ميتة، لكن ساقها اليسرى عديمة الجدوى، فقد تمزقتْ الأربطة لا محالة. تحاولُ دون فائدة أن تمشي دون مساعدة، أو أن تتمكنَ من النزول لركوب السيارة. في النهاية، وبعد نقاش سريع، وافقت على وضع إحدى ذراعيها على كتف ألمودوفار وأن تضع الأخرى على كتفي. كانت تلك لحظة حميمية على نحو غريب، لا بد وأننا نبدو سكارى. فنحن نترنّحُ خارجين من الغرفةِ متشابكينَ ببعضنا، كما لو كنّا ثلاثة بحّارة في إجازة من العمل. يُلقي ألمودوفار نظرة على حياته بعين الشيخوخة، لكن ماذا لو نظر إليها من الجانب الآخر؟ ماذا لو تمكنَ الصبي الصغير الذي يعيش في لامانشا من لقائه اليوم، ليدركَ مدى التقدّم الذي وصل إليه؟ أعتقدُ أن سيكونُ في غاية الفخر، لكن المخرج يشكّ في ذلك. فيبدأُ بالقول أن ذلك مستحيل. كذلك، يتساءلُ عمّا إذا كان هناك أيّ معنى لحياته أو مسيرته المهنية. فقد أحبّ في صباه الأفلام ونجوم السينما، لكنّه ما كان ليعرفَ أيّ شيء عن المخرجين. يبدو السؤال غبياً، لكن الإجابة عليه تجلبُ الحزن. “إذا تسنّى لي أن أنظر إلى الأمام لأرى نفسي الآن، لا أظن أنني كنتُ سأرى نفسي بصورة إيجابية. ما كنتُ لأحبّ ما وصلتُ إليه. سأنظرُ لأقول: من هذا العجوز الوحيد الذي يعيش في عزلة؟” 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post «في صحبة العربية» لأحمد بيضون… مقاربات لغوية مضيئة next post تسريب فيديوهات جنسية لسياسيين إيرانيين: “هذا يظهر نفاقهم” You may also like مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024 عبده وازن يكتب عن: فيروز تطفئ شمعة التسعين... 21 نوفمبر، 2024 “موجز تاريخ الحرب” كما يسطره المؤرخ العسكري غوين... 21 نوفمبر، 2024 Leave a Comment Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment.