الخميس, مايو 9, 2024
الخميس, مايو 9, 2024
Home » زهير الجزائري في ذكرى وفاته: مؤيد الراوي.. حياة على الحافة

زهير الجزائري في ذكرى وفاته: مؤيد الراوي.. حياة على الحافة

by admin
أعمى هو من يمر بالأجساد المثقوبة ولا يتلطخ بالدم ، يحيل العثرة إلى صدفة الحجارة ويمر.
مغلق العينين من يغسل ويتوضأ ، يأكل ثم ينام .
زهير الجزائري \ كاتب وشاعر عراقي

«ليس هذا مؤيد» قلت لنفسي وأنا أهيئها للقاء أخير. ففي الضوء النحاسي الداكن نحو عمق المقهى شبح ينش بيمناه أشباحًا تقطع عليه مجال الرؤية، وبعكازته يتلمس الأرض التي تتموج تحته. مالت قامته وهو يستدير حول نفسه ليستدل على مصدر الصوت الذي يناديه (مؤيد!). تحت الطاقية الشتائية هناك شعاع محرق مس هذا الوجه وأخذ الدم والشعر منه. وفي العينين وقد ضاقتا تيها يغلب العجب. ليقطع علي هاجسي ويؤكده، قال قبل أن يجلس: «هذا ليس مؤيد الذي تعرفه، إنه الربع المتبقي منه». قالها دون أسى كأنه يتحدث عن الآخر. كذبت عليه حين قلت له إنني وجدته أفضل مما تصورت وصور لي، وفي حقيقة الأمر كنت أمرن نفسي على هذه الحقيقة وأنا أدقق في وجهه وأتحاشاه في الوقت نفسه.
لقاؤنا كان في مقهى Semci في حي Kreutzberg التركي ببرلين. هو الذي اختار المكان لأنه يذكره بمقاهي كركوك التركمانية. المكان أليف لمؤيد ولا يريد أن يغادره لمكان آخر. زواياه موجودة في خبايا مخيلته حتى وإن لم يعد يراها. لا ضرورة لأن ينكشف سر المكان لأن سر المكان «لم يستكشف، لأنه صار أليفًا» كما يقول سركون بولص في قصيدة مهداة إلى مؤيد. المشاهد خارج المقهى لا تهم مؤيد، ولا طبيعة المقهى وجلاسه، ما يحتاجه هو مكان لا يستنكر التدخين، خال من الموسيقى أو التلفزيون. ينحي مؤيد المشاهد حوله ويتحاشاها فما يهمه هو الحديث وتبادل الأفكار. سنواتنا الطويلة معًا علمتني أن أقدح المشاهد في ذهنه وأترك له أن يحتويها بالانطباع والفكرة. والأفكار عنده ثابتة ومتغيرة:
نظن الأفكار ممالك تقترن بنا فتوشم جباهنا ندعوها كأعراس تدوم، نحتفل بها، أو نطردها عندما لا نريد، لكنها تستملكنا
تأتي إلينا بخفة لص وبسلطة سجان
نجهل كيف تأتي لتسكن فينا
وكيف تصل لتحجرنا
من سجن الأفكار يخرج مؤيد خلال الحديث إلى رحابة الحقل أو سعة البحيرة:
نحن حقل فسيح، تربة خصبة
مفتوحة للبرق وللمطر، تعطي الثمار وتترك الملح
حين أسترجع علاقتي مع مؤيد بوجوده أمامي أو بغيابه عنى يغيب عني للقاء الأول تحت وطأة اللقاء الأخير. أنسى الشاب الطويل الأجعد الشعر المنهمك في الحديث ويأتيني هذا التائه الذي يزيح الأشباح بيده ويطرق الأرض بعكازه.
أتوهم نفسي وأنا في الخامسة والعشرين من عمري قادمًا كما في كل يوم إلى ذات المقهى. أقول لنفسي: مالك ذاهب لنفس المكان ولنفس الشلة ولتسمع ذات الأحاديث؟ ثم أخادع نفسي بأنني ذاهب لاستعارة كتاب، معرفة رأيهم في تحريك ركود مخيلتي من خلال النقاش.. المهم أني أذهب للمقهى، كما في كل ليلة، وأجد كما في كل ليلة، مؤيد وسط الشلة المدمنة عليه والمتأثرة بأفكاره، بجمله القصيرة القاطعة، وحتى بثغرات عربيته عند الكلام.
في مقهى إبراهيم التقيت مؤيد للمرة الأولى في النصف الثاني من الستينات، وفي المرة الثانية ذهبت إلى شقته على مسافة أمتار من مقهانا. الشقة تطل على شاع أبي نواس وربما استوحاها القاص برهان الخطيب في روايته «شقة على شارع أبي نواس». في هذه الشقة يساكنه أنور الغساني الذي كان مشغولاً، بجانب مقاماته العراقية، بنحت مزهرية من الجبس بلون الكفن وإلى جانبه راديو قديم وكبير الحجم قدمه لي أنور «ميزته أنه لا يتكلم». كل ما في الشقة ينضح بكسل الساكنين.. الأفرشة لم تطو ولم تعدل منذ… الله أعلم. والغبار يغطي الأرض وزجاج النوافذ. وكل شيء مبعثر ومتروك في مكانه.
في زاوية غرفة الجلوس تابوت أسند إلى الجدار قال لي مؤيد وهو يحبس ابتسامته «أنام فيه أحيانًا».
في هذه الشقة تلتقي أحيانًا الجماعة التي سميناها «جماعة كركوك». بدت هذه الجماعة (مؤيد الراوي، وفاضل العزاوي، وسركون بولص، وأنور الغساني، وجليل القيسي، وجان دمو، وصلاح فايق، ويوسف الحيدري…) جماعة غريبة ومقطوعة، كأنها قذفت هكذا لبغداد من مدينة أقرب إلى ماكوندوا في «مائة عام من العزلة» لماركيز. وكانت جماعة كركوك تزيد المدينة غرابة في خيالنا. كأنها مدينة صنعت من أساطير وحكايات. في قصص جليل القيسي ويوسف الحيدري تبدو كأنها خرجت من قصص إدغار آلان بو. لا يكتفي مؤيد بالوصف الدائم لمدينته بأنها «خرافية»، إنما يجرد الأسطورة من زمنها «وكركوك، خارج مدينة ما، كانت بالنسبة لي كونًا يؤلف مفاتيح وأقفالاً، بحارًا عميقة القاع، وماكينة للحياة. ليل تجيء إلى نجومه لتفاتحني بأسرارها وبولائمها المضيئة، تجلب لي ملائكتها وتطلق أرواحها المبهمة لكي تحاورني وأحاورها».
حين يتحدثون عن مدينتهم يأتيني خيال القلعة التي نمنا أنا ووالدي تحتها في سطح فندق صغير وقديم. قبل أن أغمض عيني من تعب السفر بدت القلعة فوقي داكنة الجدران، واقفة وحدها وسط سماء فيروزية مغبرة. تزداد ظلمة وتتضخم ظلال جدرانها. ومن الأفق الشمالي يأتي لون جهنمي من النار التي تنفثها الأرض عاليًا فيترك لونه على جدران القلعة ويزيدها هولاً. وقبل أن تخرج المردة السود من مداخلها الضيقة وتنزل إلى عبر سلالمها العريضة نمت من خوف وإحساس بالرهبة. هل هي نفس المدينة التي يتحدثون عنها؟
لاحقًا، رأيت كركوك خارج الضباب حين كتب فاضل العزاوي روايته «آخر الملائكة» بشخصياتها الأليفة: حميد نايلون، وبرهان عبد الله، وخضر موسى، وكتب مؤيد سيرة «المكان الأول» فتعرفنا على شخصيات مثل نيازي بيك، وبديعة خاتون، وقره حسن. آنذاك عرفنا المدينة بتضاريسها وشخصياتها الأليفة.
كما مدينتهم كان كل ما في الجماعة التي جاءت منها غريبًا:
ألقابهم من لبة العروبة (الغساني، الراوي، الحيدري، العزاوي) وهم ليسوا عربًا، بل ثقافتهم عربية.
كل واحد من المجموعة، عدا أنور الغساني، له علاقة ما بشركة النفط عن طريق أخ أو والد كان يعمل فيها وله علاقة ما بالحي الذي أنشأته الشركة للعاملين فيها. مع ذلك كانوا شيوعيين أو يساريين سجنوا وتعذبوا من أجل فكرتهم.
هم فرادى معنا، ولكن حين تكون لهم أسرارهم الخاصة كأبناء مدينة واحدة، ينفصلون عنا ويتحدثون مع بعضهم البعض بلغات تحوي شفرات سرية (بالتركمانية، بالكردية، أو السريانية).
إنهم مختلفون في قومياتهم وأديانهم (تركمان، وأكراد، وآشوريون، وكلدان، وعرب) لكنهم يتعاملون مع بعضهم كأبناء ثقافة عربية، يقرأون ويكتبون بها.. هذه اللغة الأوسع انتشارًا تكاد تغطي أصولهم الأخرى وتشكل لهم هوية أخرى موازية. غرباء كان الكركوكيون الذين أتوا بغداد قبلي وبعدي بأيام، يخزنون قصصًا وحكايات بلغات غريبة. مؤيد كان أقلهم إنتاجًا، لكنه كان أكثرهم تأثيرًا. بكسله العميق، كان مستعدًا لأن يبقى على طول اليوم في المكان الأليف على نفس الكرسي عندما يكون هناك موضوع للنقاش، ناسيًا طعامه ومهرجان الحياة الكبير على مسافة أمتار منه. لم يكن متعالمًا ولا متعاليًا خلال الحديث فهو يجيد الإصغاء، ساحر بهدوء أعصابه، لم أره يومًا غاضبًا أو في خصام حاد، يسخر عندما حتى يعتدى عليه. لا ضغائن تحكمه ولا يجذبه حب يتيه عقله. ساحر بأحكامه المفاجئة والمغايرة. فبعد وصول البعث للسلطة الثانية عام 1968 بدا مؤيد أقلنا فزعًا «ليأخذوا الدولة كلها على أن يتركوا لنا هذه الكومونة!». ففي الزقاق الضيق الذي يقع فيه مقهانا يتوفر كل ما نحتاجه.. المطاعم، والمقهى، والحلاق أبو كاميران، وباعة الفول والفلافل الفلسطينيون. وفي النهاية اليمنى للزقاق وعلى امتداد أبي نواس تتوزع الأماكن التي نرتادها، وفي النهاية اليسرى المكتبات التي نشتري منها الكتب بالدين المقسط.. ماذا نريد أكثر من هذا؟!
كانت مسيرات الفرح تجوب بغداد 1971 احتفالاً بالبيان الذي يمنح حق الحكم الذاتي للأكراد. وكنا أنا ومؤيد على مسافة أمتار من المسيرات فمط مؤيد جسمه ضجرًا: «عجيب! لديهم الحرية في الجبل ويريدون أن يتقاسموا معنا العبودية هنا؟».
في تلك الأعوام نشط المثقفون البعثيون ولديهم السلطة والمال في مساع محمومة لكسب المثقفين لإدارة مكنة البعث الإعلامية. وكان في مواجهتهم التفاف المثقفين حول الحزب الشيوعي، الذي دخل معهم في جبهة (قومية وطنية تقدمية). وفي مواجهتهم رواد هذا المقهى الذين تعاملوا مع البعث ومع الجبهة بارتياب. كنت قليل التردد على اتحاد الأدباء رغم أنه على مسافة دقائق من شقتي في البتاويين. اتحادي هو هذا المقهى الرث وشلتي المحببة ووسطها مؤيد الراوي.
منتصف عام 1969 عمت الصحف حملة ضد البيان الشعري الذي وقعه فاضل العزاوي وسامي مهدي وخالد علي مصطفى وفوزي كريم. كانت الحملة موضوع نقاش مقلق بين مؤيد ورحمان الطهمازي وأنا. مؤيد هو الذي رفع الحملة إلى حافة الخطر ورأى أنها تجاوزت فاضل العزاوي إلى هجوم على الحداثة ككل، وأنها تحمل أبعادًا تتجاوز الأدب إلى السياسة لأن مشروع الحداثة يتناقض مع الفكر المتخلف للجناح العسكري من البعث الذي يرى في كل ما لا يفهمه نوعًا من التآمر على القومية.
يبدو مؤيد عارفًا بما نتحدث عنه، لكنه لن يقبل إلا بما لا يعرف، عارفًا في الوقت نفسه أن هناك شيئًا خبيئًا وراء الباب، لن تطاله الأضواء التي لن نعرف سرها ولن نراها بعد. في مكان آخر وعلى مائدة طرفية في مكان لا أتذكره كنت أتتبعه نقاشًا بين منعم حسن ومؤيد.. مؤيد كان يتحدث بالأفكار العريضة المجردة، بينما يغور منعم في تشخيصاته إلى الأعماق الرطبة، ميال للاعتراف. حين يرتفع حاجباه وتضيق عيناه ويميل في جلسته، أعرف أن مؤيد الذي سيتحدث بعد قليل يتفحص الآن أفكاره وذاته وأن شيئًا مهمًا سيخرج عنه هو الصمت. بين الأفكار الكبيرة والأعماق الضيقة الداكنة كنت معلقًا بين الاثنين.
عدا النقاشات لم أكن أعرف ماذا يكتب مؤيد في تلك الشقة المعلقة فوق شارع أبي نواس. أرى لوحاته غير المنجزة تجمع بين التعبيرية المتوترة والتجريد. على عكسنا جميعًا لم يرني مؤيد يومًا ما يكتبه، وحتى لا يتحدث عن موضوعاته. حين أسأله يقلب الموضوع محرجًا من قلة إنتاجه.
ما يجمعني مع مؤيد في تلك الفترة هو أننا كنا نتحرك على ذات المساحة المربكة بين ذاتنا الوجودية وبين بقايا الالتزام الماركسي. معظم نقاشنا يدور بين قطبي المغناطيس.
بعد كل لقاء مع مؤيد أرجع للبيت وحدي، أطرق أحجار الرصيف قاطعًا المسافات الطويلة وأطرق في الوقت نفسه ذاتي وأفكاري. ذات مرة، وفي جدال مع أصدقاء آخرين اكتشفت فجأة أنني أردد نفس جمله وبنفس لكنته التركمانية فقلت لنفسي: «حذار!». هو الذي حذرني من نفسه، فقد طلب أن أسلم واحدة من رسائله إلى أنور الغساني بعد سفره لألمانيا. الرسالة كانت، ويا للغرابة، مفتوحة، ولم يمنعني حين سألت من قراءتها. حين دخلت قبو الرسالة أفزعتني فيها جملة واحدة (مسوخ كلهم). أغلقت الرسالة ومعها أغلقت نفسي عليه
مؤيد الراوي وبيروت الحرب الأهلية
زهير الجزائري
في نفس المقهى Cemci وقريبا من مكان التدخين ، جاء مؤيد في لقائنا الثاني بصحبة فخرية. كما الطفل يرفع قدمه عاليا ليعبر عتبة وهمية. قادت فخرية خطواته بصبر الى داخل المقهى وأجلسته على الكرسي. فعلت ذلك بخفة المتمرس لتوحي له بان هذه هي أفعاله. قبل أن نفتح الحديث وبينما يلف سيكارته الأولى همست فخرية في أذني ( هو مرتاح لأن الألم فارقه اليوم ، فقد أعطيناه ، دون أن يدري، أول جرعة كيمياوي ضد السرطان). . من الفلسطينيين تعلمت فخرية الصبر بجانب الألم حين كانت تساعد منكوبي تل الزعتر الذين تجمعوا في جامعة بيروت العربية. بين الهلوسة والصراخ كانت تسجل شهاداتهم وتحل مشاكلهم .
في بيتهما ببرلين أخذني مؤيد بنفسه لأرى كيف حول الأطباء غرفة نومه في البيت إلى جزء من المستشفى . نقلوا جهاز غسل الدم الى بيته مع ذخيرة هائلة من الأكياس. ثلاث مرات كل أسبوع ، وعلى مدى ست سنوات يكبل مؤيد بالسرير لمدة خمس ساعات وعيناه مثبتتان في بياض السقف.لا شيء سوى الألم وقد تحول جسده. تدور العتلات حوله وتتقطر السوائل في جسمه ، قطرة ، قطرة كما الزمن المتبقي.
الجديد في رحلة مؤيد مع الآلام هو اكتشاف ان السرطان منتشر في كل أنحاء جسمه ، فلا يستطيع النوم لأنه يتحسس هذا الحيوان اللئيم يأكل عموده الفقري من الداخل بشراهة وتواتر. والأسوأ أن هذا الحيوان منه ومن نتاج جسمه. كيف يصير هذا الجسد الذي نحمله ويحملنا مصدر عذابنا؟!
خلف عينيه رايت هذه المرة غيمة رصاصية ومؤيد تائه فيها. حين أتحدث يرى صوتي فيميز الشبح الذي امامه ويراه بعين ذاكرته. بين آونة وأخرى يدفع رأسه الى الخلف كانما يتحاشى ذبابة تلاحقه.
نحن الثلاثة كنا هناك ، فقد جمعتنا بيروت في الأعوام من ١٩٧١ الى أواسط الثمانينات. مكتب مجلة (الى الأمام ) ضم ثلاثة من الستينيين هم عمران القيسي ، شريف الربيعي ، مؤيد الراوي وأنا. مؤيد غطى جدران هذا المكتب الرث بصور الكفاح المسلح ، وفي الوسط صورتان كبيرتان لماركس ولينين . في تردده بين المطبعة والتحرير يقف شريف دائما أمام صورة لينين و يحرك أصبعه لوما ( وللك ياعكروت يا أبو لحية، كل هذي البلاوي من وراك !) .. هذا المكتب مكان عمل مؤيد الأعزب ومكان نومه. برنامجه اليومي يبدأ من الساعة الواحدة ظهرا ..قبل ذلك ينشغل مؤيد بحركة غاضبة ، أن يغلق الباب بوجه كل من يفتحه غير دار بأن هناك من هو نائم حتى الساعة. لا احد يجرؤ على ان يلوم مؤيد على هذه الحياة اليومية المقلوبة. . هذا هو مؤيد. يستيقظ مؤيد فيؤدب الجوع بسيكارة (طاطلي سرت) التركية ( غليظة وقوية). لا يدخن فقط ، إنما يمتص السيكارة كما القبلة الأولى . بعد ذلك نشم رائحة البيض المقلي في المطبخ فنترك الأقلام ، ولكن في الغالب نجرجر الجوع معنا ونحن نكتب . تمضي أشهر ونحن بلا رواتب وفي جوع دائم. كلما نسال يأتينا الجواب بأن مندوبنا مازال في ليبيا ينتظر المحاسب الليبي الكسول ليدفع حصة المنظمة من المنح الليبية لحركات التحرر. بعد ذلك يدخل مؤيد الغرفة ، و يدخل الدخان قبله. يجلس معنا في غرفة التحرير ليكتب مقاله الأسبوعي فتمتلئ الغرفة برائحة الدخان. يستخدم مؤيد كل خزينه من الماركسية اللينينية في تحليل الوضع الراهن وكانت البرجوازية الصغيرة، حاكمة كانت ، أم فصيلا مقاوما ، أم طبقة بذاتها، شاغلنا. هل سقطت من قائمة حلفاء الثورة، أم ما زالت معلقة بخيط؟ كاننأ كنا نهاجم أنفسنا ونحن نهاجمها بتواتر وحدة .. نهاجم ترددها، تراجعاتها أما حلول التسوية النصفية، مخاوفها السايكولوجية … كنا نريدها ثورة صافية ، لن تكتفي بتحرير فلسطين وحدها، إنما قبل ذلك تحرير الشعوب العربية من الحكومات الجائرة . الثورة الدائمة كما وصفها تروتسكي كانت تسحر مؤيد. حين اختطفت الجبهة الشعبية حزمة طائرات وأنزلتها في صحراء الأردن . كتب مؤيد مقالا افتتاحيا تحت عنوان (شكرا أيها الرفاق !) وأنزل العنوان على الغلاف مع صور الطائرات وهي تتفجر. في تلك السنوات يتدفق علينا ثوار ويساريون من كل أنحاء العالم ليتعرفوا على الثورة . غسان كنفاني كان يحذرنا من أن بعضهم جواسيس، لكننا أنا ومؤيد نتحدث إليهم عن الثورة.كحليف شرق أوسطي لثورات الشباب في أوربا وأمريكا وحركات الكفاح المسلح في فيتنام وأمريكا اللاتيينية ، هي ثورة جماهير فقيرة ضد اليمين الصهيوني. وبعد خروج الزوار الأجانب ، وبعد دفق الحديث ننفخ من تعب و نحن نسأل أنفسنا بصمت : هل الحقيقة هكذا ؟
يبقى مؤيد يكتب ويصمم لساعات دون ملل. هذا هو مؤيد الآخر النقيض للكسول نؤو م الضحى . كنت اراقبه وهو يصمم المجلة ويخط العناوين أحيانا. يفعل ذلك وهو يدمدم مع نفسه بأغان منسية احيانا وعلى وجهه ابتسامة قاسية وهو يصك أسنانه في نوع من الشماتة بالنفس. مع ذلك يجد مؤيد في بيروت المقاتلة نوعا من الحيوية مقابل ملل الحياة في العراق . هنا نحن ننتقد وهناك نكتفي بالصمت. وهنا نعتقد أننا نغير الأحداث بينما نختفي هناك في جلودنا. هنا نوع من الرفقة والتكافو بينما هناك (يشعر أنه في دائرة لئيمة ، معبأة بالضغينة ، من يمكث فيها صبي عاثر الحظ ، تحيطه النار وتصادفه الفخاح ). لم تكن الثورة التي حلمنا بها حاضرة في عملنا المكتبي. شريف كان واقعيا حد الفجاجة ( لم لا ناخذ الأمر وكان كل ما حولنا مشفى لأمراضنا النفسية.) .أنا ومؤيد كنا نرى الثورة هناك في القواعد الأمامية حيث المواجهة والحياة على الحافة.
في المساء المتاخر وبعد ساعات من العمل المتصل حين يغرق مؤيد في سحابة من دخانه يلقي القلم والمسطرة ويترك المكتب ساخطا. في الطريق من المزرعة الى الروشة نسير على رصيف البحر .. هنا تأتينا أفكار خارج المكان، بعيدا عن الأخبار التي نتابعها. ننظر بين آونة وأخرى لفوهة البحر اللامتناهبة وإلى أضواء سفينة ضائعة في السديم وتاتينا أفكار خارج المكان. تغيب الثورة ومقاتلوها وتتقدم همومنا الميتافيزيقية ، هموم وجودنا في هذا الكون المنسي. أقول لمؤيد أنني أصحو فجاة على وهم أنني لست هنا ، إنما في مكان لا أعرفه . يصغي مؤيد ، كمن لا يسمعني ، لنداء غامض كصرخة نورس في الظلمة. بعد سيل النصائح والتوجيهات يدرك مؤيد أن هذا ليس خلاصا. مع ذلك فهو يجيد التماثل مع الأمكنة التي هو فيها، يدري أنه ليس هنا وليس هناك ، ومع ذلك يحيد الأزمنة وهي تبتعد.
نذهب معا الى سرداب ضاج بالأجراس والأصوت المتقاطعة حيث يحب مؤيد أن يفرغ شحنة أعصابه بلعب الفليبرز. السيكارة مدلاة من فمه ويتساقط رمادها على الزجاج ومؤيد يهز الماكنة بقوة متابعا الكرة المعدنية وهي تتخبط داخل الصندق ، بأعصابه يحاول التحكم بمسارها فتفلت لصدفتها. بعدها يتعب ويتنفس بعمق كما بعد جولة جنسية متعبة.
أحب مؤيد المنتفخ بحيوية واهمة أمام مرآة المكتب مائلا الى الخلف وقد قلص عينيه وهو يلبس بدلته السوداء التي تيبست أطرافها ، يشد ربطة عنقه. ويعدل أناقته ويمسد شعره قبل أن يخرج لموعد غرامي. لا أعرف كيف أعفط واستجلب ابتسامته الساخرة من نفسه حين أراه كهذا وانا أعلم أن ليس في جيبه مايزيد على ثمن قهوة . مرة مررنا أمام المقهي فنبهني شريف وهو يكبت ضحكة إلى وجود مؤيد مع امرأة لبنانية نعرفها. كان يدخن وقد قلص عينيه والمرأة تتلقط كلماته بدهشة.. هذا كائن من كوكب آخر ! هكذا تقول لنفسها. ونحن نتعداهم سألني شريف عن ماذا تقدر أنه يحدثها؟
-عن الكفاح المسلح؟ عن الثورة العالمية ؟ عن كركوك وجماعتها. عن الوجود والعدم؟؟؟
بحاجبه نفى شريف كل هذه الاحتمالات:
-هو لا يتكلم إنما بطنه تقرقر من الجوع.
صدقت شريف الواقعي لأن مؤيد مثلنا لم يأكل طوال هذا اليوم غير بيضة مقلية ونصف رغيف. والباقي سكاير .
مدافع الحرب الأهلية كانت تدوي حول مخيم صبرا ومنطقة الفاكهاني حين التقيت مؤيد بعد فراق في بيروت للمرة الثانية . جئته من العراق على عجل لأشاركه هذا الجحيم. تلال المزابل وأكياس الرمل تقطع هذه الثكنة المحاصرة في صبرا والفاكهاني. اسراب الجرذان العاوية تعبر تحت أقدام المقاتلين الواقفين وراء المتاريس واصابعهم على الزناد. وسط هذه الفوضى وجدت بيت مؤيد نظيفا حد الدهشة، والكتب مرتبة بإتقان . وستارة النافذة مزاحة قليلا لنطل على جحيم الحرب الأهلية. هذه لمسات فخرية. وقفنا في الشرفة ليدخن ويحدثني عن خارطة الموت .
-أنظر هناك في البعيد وعلى اليسار قليلا الأشرفية. منها …
سقطت قذيفة خلفي فارتجفت .
-بعيدة. في حرش الصنوبر.
كان الحرش خلفنا تماما. طوال الحرب وفي كل يوم يترك مؤيد. بعد يوم عمل طويل في مجلة (فلسطين الثورة) ويذهب بالاتجاه الآخر . لم تعد الروشة مكان جولاته المسائية، ولم يعد يشد ربطة عنقه أمام المرآة قبل الذهاب الى (الدولشا فيتا).صارت لعبة الفلبرز حقيقية في خط التماس .
يضع مؤيد المسدس في جيبه الخلفي بعد أن يسحب الأقسام ليتأكد من التعبئة. أخذني ليريني (خط التماس)، وهو تعبير رقيق ومناقض لخط الموت الذي يفصل بين الأعداء.( لنذهب سويا الى حيث رائحة الدم تفوح!).. هكذا يقول لي في واحدة من قصائده. نمر بأزقة المخيم لنحتمي من القصف بالجدران وهي مقتلنا. عليها تتجدد صور الشهداء كل يوم . الجدد يغطون القدامى . صفوفهم تنظر الينا بإمعان وجد : أنتم الآتون ! يعبر مؤيد واحدا من الشوارع بركض خجول . لم أره يوما يركض بهذه الطريقة المضحكة. أغرس راسي بين كتفي وأعبر خلفه تحاشيا للقناص الذي يرانا من لوحة التسديد. ندور في أزقة الموت متحاشين القناصين في أبراجهم ونعبر ركام الأبنية وفوقنا الفنادق العالية تحولت الى نصب من الفحم ، تقطع المتاريس طرقنا فنصعد السلالم التي تفوح برائحة الدم حيث جرى القتال من طابق لطابق ، وحتى في طابق واحد. ثمة بقايا مهشمة من رفاه الحي التجاري السابق المهجور. هناك بضاعة واحدة حلت محل بهجة البضائع السابقة : الموت. رائحته الثقيلة الخانقة تدوخني.
الحرب الأهلية ملأت مخيلة مؤيد بالعنف والموت. يحدثني عنها ببرود المقاتل الذي رأى كل شيء وما عاد يدهشه شيء، لكن كوابيسها دخلت في تلافيف ذاكرته وشكلت كوابيسه في النوم وفي قصائده:
أعمى هو من يمر بالأجساد المثقوبة ولا يتلطخ بالدم ، يحيل العثرة إلى صدفة الحجارة ويمر.
مغلق العينين من يغسل ويتوضأ ، يأكل ثم ينام .

You may also like

Editor-in-Chief: Nabil El-bkaili

CANADAVOICE is a free website  officially registered in NS / Canada.

 We are talking about CANADA’S international relations and their repercussions on

peace in the world.

 We care about matters related to asylum ,  refugees , immigration and their role in the development of CANADA.

We care about the economic and Culture movement and living in CANADA and the economic activity and its development in NOVA  SCOTIA and all Canadian provinces.

 CANADA VOICE is THE VOICE OF CANADA to the world

Published By : 4381689 CANADA VOICE \ EPUBLISHING \ NEWS – MEDIA WEBSITE

Tegistry id 438173 NS-HALIFAX

1013-5565 Nora Bernard str B3K 5K9  NS – Halifax  Canada

1 902 2217137 –

Email: nelbkaili@yahoo.com 

 

Editor-in-Chief : Nabil El-bkaili