SAMIA HALABY, Homage to Ghassan Kanafani, 2017, Acrylic on canvas ثقافة و فنون المرأة في أدب غسان كنفاني: “أم سعد” الرواية والنموذج by admin 10 يوليو، 2024 written by admin 10 يوليو، 2024 72 مما لا شك فيه أن “أم سعد” قد شكلت بشقيها “الرواية والشخص مجالاً خصباً يتيح لنا استقراء صورة الأم الكنفانية وإعادة هيكلة تلك الصور وتبيان دورها في أكثر من مجال من مجالات الحياة. رمان الثقافية / سليم أبو ظاهر– كاتب من فلسطين قبل نحو ست سنوات، بدوت شديد الحزن والتأثر برحيل صديقي العجوز، فما كان من طفلي ذو الأعوام الأحد عشر حينذاك إلا أن قال لي: “بابا احكيلي عن عمو”. أخبرته أنه كان البطل الحقيقي لرواية غسان كنفاني “رجال في الشمس”، وأنه كان يزورني أسبوعياً في مكتبي ليحكي لي كيف غامر هو ورفاقه بحياتهم في الرحلة التي أجاد الكاتب من خلالها تجسيد معاناة الشعب الفلسطيني وتهجيره إثر النكبة وارتحاله في الغربة سعياً وراء لقمة العيش. عنوان الرواية ظل حاضراً في ذهن طفلي، الذي صار اليوم شاباً يناقش أدب الرواية في درس اللغة العربية، فطرح عليّ سؤالاً: “لماذا كلهم رجال؟ ألم يكن ثمة نساء بينهم؟ أم أو أخت أو زوجة؟”. أياماً قبل كتابة هذه الأسطر، أهديته رواية “أم سعد” التي كتبها كنفاني بعد “رجال في الشمس” بنحو سبع سنوات، وقلت له لعلك ترى في هذه الرواية ما يسد رمق فضولك ويجيب على تساؤلك بشأن صورة المرأة وتجليّات حضورها في أدب كنفاني. لقد حظيت المرأة العربية عموماً، والفلسطينية على وجه الخصوص، بحضور واسع في العديد من الأعمال الأدبية والنقدية، وشغلت حيزا واضحاً في النتاج الأدبي للعديد من المفكرين والنقاد والروائيين الذين تعاملوا معها باعتبارها قوة ملهمة ومؤثرة ومتصلة بمسار حركة المجتمع وواقعه. ذلك أن الرواية الفلسطينية اهتمت بإظهار صورة المرأة وجسدتها من خلال نماذج وأطر واقعية مختلفة، فهي المثقفة والمناضلة، وهي رمز الأرض والحكمة والمقاومة والصمود. ومما لا شك فيه أن حضور المرأة كان واضحا وبارزاً في العديد من أعمال غسان كنفاني الذي عاش الخيمة والمخيم، وعند البحث في الجوانب الشخصية من كتاباته لا يمكن لأي قارئ سوى أن ينتبه إلى وجود مجموعة من النساء التي كان لها أثرها في حياة كنفاني ومدى اهتمامه بالمرأة، وخاصة الأم، إلى درجة أنه أفرد لها رواية باسمها، فكانت “أم سعد” رمزاً للأم الفلسطينية التي شكلت رمزاً ليس للمرأة فقط، بل إنها جسدت تمثيلاً كاملاً وشاملاً لتفاصيل مخيمات البؤس واللجوء والشتات ومكوناتها وطبقاتها المختلفة. والغريب في هذا السياق هو ما ذهب إليه بعض النقاد والروائيين بقولهم إن حضور المرأة في أدب كنفاني كان محدوداً، وأنه كان ذكورياً، إلى الحد الذي وصفته عاشور (1977: 46-47) قصوراً “في تقديم صورة المرأة الثورية”، معتبرة أننا “إذا أخذنا كتابات غسان كنفاني ككل فسوف نجد فيها صورة المرأة قليلة للغاية، إنه يعرف الرجال أكثر، وبالتالي فهو يكتب عنهم، ومن البديهي والمسلم به أن من حق كل كاتب أن يكتب عما يعرفه أكثر”. الأمر الذي اتفقت معه عبد الهادي (1987: 33) مشيرة إلى أن كنفاني لم يجسد طليعية دور النساء في الثورة، ورغم ما أشار إليه مناصرة (2002: 61-62) من كون “أم سعد” رواية استثنائية تحتفي بشخصية المرأة الرمز، إلا أنه عاد ليقول إننا “لا نتجاوز الحقيقة إذا قلنا: إن حركية المرأة الفلسطينية في روايات كنفاني … هي حركية مهمشة عموماً، تلاشت فيها الخصوصيات … التي عانتها المرأة من خلال تعاملها مع الرجل أو البيئة المحيطة بها”. وفي هذا إجحاف بحق كنفاني، الذي تفرد بأدبه الثوري واختراقه للواقع المعاش، حتى اعتبره الباحثون والدارسون في أدبه “أديباً سياسياً، واكتسب قيمته من القضية التي يمثلها” (عباس وآخرون، 1974: 53). وعلى الرغم مما ذهب إليه البعض من القول إنه ليس مبرراً بشكل من الأشكال التفريق بين نصفي الحياة الإنسانية: الرجل والمرأة، إلا أن مقاربة شخصية المرأة في الرواية الفلسطينية باعتبارها مكونا مستقلاً ومميزاً عن غيره من الشخصيات الأخرى هو فعلياً إجراء نقدي فرضته الرواية التي تحظى فيها المرأة بمكانة لافتة جلية باعتبارها قوة أساسية وفاعلة في النضال الوطني الفلسطيني (صالح، 2004: 130). وهناك نماذج مختلفة لتجيسد المرأة وتمثيلها في الأدب الروائي، من خلال العديد من القضايا الاجتماعية والدينية والسياسية، الأمر الذي ينسحب على صورتها ورمزيتها، فهي الأم ولأخت والزوجة والحبيبة والعاملة والطالبة والمثقفة والمناضلة، أو ربما هي مزيج استقاه الكاتب أو ابتدعه لتكون تجسيداً لكل ذلك. ويتميز حضور الشخصية الإيجابية في الرواية الفلسطينية “بقدرتها على صنع الأحداث والمشاركة في تطورها، واغتنام الفرص لكي تسهم في تشكيل حركة الحياة، والتأثير فيمن حولها من الشخصيات واتخاذ مواقف إيجابية في انفعالاتها ومشاعرها، ومواقفها من الآخرين” (أيوب، 1997: 52). ومما لا شك فيه أن “أم سعد” قد شكلت بشقيها “الرواية والشخص مجالاً خصباً يتيح لنا استقراء صورة الأم الكنفانية وإعادة هيكلة تلك الصور وتبيان دورها في أكثر من مجال من مجالات الحياة.” (شرقاوي، 2014: 8)، ذلك أن شخصيتها شكلت نموذجاً فريداً كما أنها تعد “من أبرز الشخصيات النسائية، وأكثرها قدرة وتعبيراً عن الدور النضالي للأم الفلسطينية، التي عاشت زمن الكبوة والعجز والوجع، في مخيمات الأسى واللجوء، وشهدت انحسار مشاعر الإحباط التي سكنت نفوس اللاجئين على مدى عشرين سنة بفضل بزوغ فجر السلاح من جهة، وبفضلها هي لأنها بحمل أعباء أسرتها أتاحت لأبنائها أن ينصرفوا للعمل العسكري” (الشامي، 1998: 50). إذ جسدت “أم سعد”، اللاجئة الأربعينية التي تنحدر من قرية الغابسية، نموذجاً فريداً “من الأمهات ليس لأن الرواية باسمها، ولا لأنها شخصية حقيقية عرفها الكاتب طفلاً في فلسطين، ورجلاً في مخيمات اللجوء في لبنان، بل لأنها تجمع كثيف لمجموعة أمهات في أم واحدة، فهي الأم الثورية والعاملة والمربية والعاطفية” (شرقاوي، 2014: 7-8). تعالج الرواية نماذج واقعية من حياة البطل الذي خرج من وسط المخيم ليتمرد على واقع الهزيمة وبرفض تجرع الذل، وذلك من خلال شخصية “أم سعد” التي استحوذ حضورها الاستثنائي على عنوان الرواية التي تمحورت حول شخصيتها لتشكل بذلك رمزاً لصورة حضور المرأة وتجليات ذلك في أدب كنفاني الذي حاول أن يقدّم لوحةً نضاليةً تجسد نماذج مختلفة لتجربة العيش في المخيمات الفلسطينية وما فيها من معاناة وبؤس ممزوج بالأمل والتفاؤل بالنصر. وفي رواية “أم سعد”، التي قام غسان كنفاني من خلالها بتوظيف حضور المرأة في مواقف عديدة، استعار الكاتب مضامين كلمات سيدة شكلت حالة فريدة من عالمه، إلى جانب مشاهد واقعية من حياتها اليومية ليقدم صورة شاملة لحياة اللجوء والمخيم والنضال والثورة. فقد كانت هذه السيدة مثالاً وشاهداً حياً على “الشعب والمدرسة”، أشار إليها كنفاني بوصفها امرأة حقيقية يعرفها جيداً ويتعلم منها، حتى كاد يقول إن كل حرف جاء في الرواية “إنما هو مقتنص من شفتيها اللتين ظلتا فلسطينيتين رغم كل شيء، ومن كفيها الصلبتين اللتين ظلتا، رغم كل شيء، تنظران السلاح عشرين سنة” موضحاً أنها “ليست امرأة واحدة” وأن صوتها بالنسبة له كان دائما “صوت تلك الطبقة الفلسطينية التي دفعت غاليا ثمن الهزيمة.” (كنفاني، 2013/1969: 6-8). تحاكي رواية “أم سعد” مشهد “الذين هربوا والذين تقدموا” في سياق مختلف جوانب المواجهة، وهو عنوان اللوحة التي قدمها كنفاني (2013/1969: 41)، حيث تعتبر أن هذا أوان الفعل والعمل، وتدعو إلى فتح المجال أمام السائرين في طريق النضال والعمل الفدائي متسائلة لماذا “كل واحد يقول الآن “أنا لا أقصد شيئاً”…لماذا؟ لماذا لا تتركون الطريق للذين يقصدون؟” (كنفاني، 2013/1969: 19). كذلك تجسد صورة المرأة التي تلد وتقدم أبناءها فداءً لفلسطين منتصبة بقامتها العالية دون أن تستكين أو تصرخ أو تئن، فنراها مدرسة مربية وأماً شاملة تشكل حالة ثورية ترفض الخضوع والانصياع لكل من يحاول إعاقة أبنائها عن الالتحاق بصفوف الفدائيين، “وفي كل مرة كان سعد يناديها…يسمعونها تقول: الله يحميك يا ابني.” (كنفاني، 2013/1969: 39)، بل إن زوجها بات مقتنعاً بثوريتها وبضرورة سلوك الطريق الذي اختارته هي منذ اللحظة الأولى، “لو هيك من الأول، ما كان صار لنا شي” (كنفاني، 2013/1969: 72)، وهو الذي التفت إلى “أم سعد” قائلاً: “هذه المرأة تلد الأولاد فيصيروا فدائيين، هي تخلّف وفلسطين تأخذ”، معتبراً أنه “صار للعيشة طعم الآن، الآن فقط.” (كنفاني، 2013/1969: 73). ومما لا شك فيه أن غسان كنفاني قد برع في رسمه لشخصية “أم سعد”، الشخصية الفلسطينية المقاومة والمناضلة. ولا يمكن للقارئ أن يمر على رواية “أم سعد” إلا أن يرى وجود المقاومة النسوية جلياً ضمناً وصراحة في سطورها ومفردات كلامها، فهي “لم تكن أنثى بقدر كونها أما لسعد، أما للرجل الذي ينخرط في الثورة أما للوطن رمزا للشعب الذي يفرز أبطاله من الذكور تحديدا في مرحلة الحرب على العدو” (الشامي، 1998: 118). وهي “في شخصيتها المناضلة لا تعبر عن ذاتية فردية متمردة، إنما هي تعبير جماعي عن حالة اجتماعية يعيشها شعب بكامله، فجعل غسان كنفاني من أم سعد أما للفلسطينيين فهي رمز للشعب الفلسطيني بكامله، رمز للمخيم الفلسطيني الذي يقدم كل ما تحتاجه الثورة” (مرار، 2017: 99)، وقد شكل وصف كنفاني لكلمات “أم سعد”، بصدق شعورها ووعيها المعقد رغم بساطته، تعبيراً جلياً لوضوح رؤية الكاتب لدور المرأة النضالي، وتصويراً مجازيّاً بليغاً لذلك الصنف من الوعي الثوري الموجود لدى بسطاء المخيم الذين بلغ إيمانهم بقضيتهم ذروته. لقد جسدت “أم سعد” الرواية نصاً أدبياً رائعاً ومزيجاً من حياة المخيم اليومية ومفرداتها، وحضور المقاومة والثورة والمنعطفات التاريخية الهامة التي اختبرها الفلسطينيون إثر نكبة 1948 ونكسة 1967 ورحلة لجوئهم في مخيمات بيروت التي صار بعضها معسكراً لتدريب طلائع التحرير. وشخصية “أم سعد” الروائية التي نحتها كنفاني تشكل نموذجاً “للمرأة التي تفوح منها رائحة البارود أكثر من رائحة المطبخ!”، ولا يمكن الحديث عن شخصيتها دون استحضار صدى الثورة (شرقاوي، 2014: 19). إنها اللاجئة التي تعمل في خدمة البيوت كي تعيل أسرتها، وهي مثال لواقع المخيم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والإنساني، حيث يتركز خليط من المواجهة والنضال والكفاح ضد الفقر والجوع وضد المستعمر، فالبؤس والهزيمة والمقاومة والرغبة في التحرر هي التي أوجدت مجتمعة ”أم سعد” وكل معاني المقاومة التي أفرزتها وجسدتها في أصدق معانيها. وقد كان دورها في الرواية فعالاً وبارزاً وقوياً كما حضورها، فهي المرأة الإيجابية والأم المناضلة، وهي الشخصية الروائية التي تدور حولها أحداث الرواية وحبكتها، لذلك فإن “أم سعد” الرواية والمرأة تشكلان معاً مجالا يتيح لنا استكشاف صورة المرأة واستقراء نماذج حضورها القوي في أدب غسان كنفاني واهتمامه بالمرأة، فهو لم يخلق شخصية “أم سعد” ولم يخترعها، بل قام باستحضار سيدة من واقعه وأجاد تصوير حكاية الوطن من خلالها، الأمر الذي أتاح له تجسيد البطولة النسوية المطلقة في هذه الرواية والارتقاء بها إلى مكانة متقدمة. المراجع أيوب، محمد (1997). الشخصية في الرواية الفلسطينية المعاصرة في الضفة والقطاع 1967-1993. القدس: اتحاد الكتاب الفلسطينيين. الشامي، حسان رشاد (1998). المرأة في الرواية الفلسطينية. دمشق: اتحاد الكتاب العرب. شرقاوي، أدهم (2014). صورة الأم في أدب غسان كنفاني “أم سعد أنموذجاً”. الكويت: دار كلمات للنشر والتوزيع. صالح، نضال (2004). نشيد الزيتون قضية الأرض في الرواية العربية الفلسطينية. دمشق: اتحاد الكتاب العرب. عاشور، رضوى (1977). الطريق إلى الخيمة الأخرى. بيروت: دار الأدب. عباس، إحسان، فضل النقيب، إلياس خوري. غسان كنفاني: إنساناً وأديباً. بيروت: الاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين. عبد الهادي، فيحاء (1987). وعد الغد. عمّان: دار الكرمل للنشر والتوزيع. كنفاني، غسان (2013). أم سعد. قبرص: دار منشورات الرمال. (العمل الأصلي تم نشره عام 1969). مرار، مسك مصطفى (2017). الشخصية في الرواية الفلسطينية، روايات أنور حامد أنموذجا. رسالة ماجستير في تخصص اللغة العربية وآدابها، جامعة بيرزيت. مناصرة، حسين (2002). المرأة وعلاقتها بالآخر في الرواية العربية الفلسطينية. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر. 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post هنري زغيب يكتب عن: 100 سنة على ولادة السوريالية (3 من 3) next post 23 لوحة لجبران خليل جبران يكشف عنها للمرة الأولى في متحفه You may also like المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024 عبده وازن يكتب عن: فيروز تطفئ شمعة التسعين... 21 نوفمبر، 2024 “موجز تاريخ الحرب” كما يسطره المؤرخ العسكري غوين... 21 نوفمبر، 2024 فيلم “مدنية” يوثق دور الفن السوداني في استعادة... 21 نوفمبر، 2024 البلغة الغدامسية حرفة مهددة بالاندثار في ليبيا 21 نوفمبر، 2024 من هي إيزابيلا بيتون أشهر مؤثرات العصر الفيكتوري؟ 21 نوفمبر، 2024