بأقلامهم حازم صاغية يكتب عن : لا مانديلّا لدينا ولا دوكليرك by admin 31 يوليو، 2023 written by admin 31 يوليو، 2023 321 احتمال انتكاس الديمقراطيّة إلى زمن سابق بارحتْه وتجاوزتْه يجد اليوم ما يعزّزه في الصعود الشعبويّ الذي يقوده قادة قوميّون، قادةٌ ولاؤهم للقوميّة ولدورهم الزعاميّ أكبر كثيراً من ولائهم للديمقراطيّة. الشرق الاوسط \ حازم صاغية تتقدّم إسرائيل، من نفسها ومن العالم، في صورتين مختلفتين: من جهة، هناك دولة احتلال واستيطان، عاصية على القانون الدوليّ، ومتفلّتة من إملاءاته. هذه الصورة تُمارَس يوميّاً وعلى غير صعيد، وتحمل كثيرين ممّن كانوا يتعاطفون معها في العالم على الانفضاض عنها أو تدفعهم إلى مساءلة تعاطفهم. وهناك، من جهة أخرى، إسرائيل التي يتظاهر مئات الآلاف من سكّانها، ومنذ ثلاثين أسبوعاً من غير توقّف أو تعب، دفاعاً عن صلاحيّات المحكمة العليا حيال السلطة التنفيذيّة. هؤلاء يخوضون معركة الديمقراطيّة في مواجهة الحدّ الشعبويّ منها والقضم الزعاماتيّ لها. وإذا كان من غير المألوف لبلد، في يومنا هذا، أن يحتلّ ويمارس الاستيطان، فمن غير المألوف، أقلّه في الشرق الأوسط، أن يتظاهر مئات الآلاف من شعب ما دفاعاً عن المحكمة العليا. إنّها، للأسف، قضيّة غير شعبيّة بتاتاً في سائر بلداننا. جمع هاتين السِمتين معاً يضعنا أمام ما يمكن أن نسمّيه ديمقراطيّة قديمة، أو ديمقراطيّة كولونياليّة. هنا، في هذه التجربة، تُعاش السياسة وتُمارَس على نحو متقدّم في داخلٍ وطنيّ ما، أمّا من يخرج عن هذا الداخل ومن لا ينتمي إليه فغريبٌ وآخر. والآخر هذا هو تعريفاً أدنى وأقلّ استحقاقاً، بل ربّما عُدّ، وفق لغة الأثينيّين القدامى، من «البرابرة». وإذا كانت جنوب أفريقيا، إبّان التمييز العنصريّ، هي المثل الفجّ عن هذا النموذج، فقد سبق لبلد كميانمار أن قدّم مثلاً آخر: فهناك قاتلت أونغ سان سو كي دفاعاً عن الديمقراطيّة والحكم المدنيّ في مواجهة العسكر، وكان لقتالها هذا، بما فيه من تعرّض مديد للسجن وللاضطهاد، أن حوّلها أيقونة ديمقراطيّة على نطاق عالميّ. هكذا، مثلاً، نالت جائزة نوبل للسلام في 1991 وتحوّلت موضوعاً لاحتفال كونيّ لا ينقطع. لكنْ حين سقط الحكم العسكريّ وباتت هي الحاكم الفعليّ الأوّل، رأيناها تشرف على مذبحة بحقّ مسلمي الروهينغيا في بلدها. وكان لتواطؤها مع الجنرالات في تنفيذ الجريمة الجماعيّة، ثمّ توفيرها الغطاء للجريمة تلك، أن ألغى حاجة العسكر إليها وإلى الغطاء الديمقراطيّ. وبالنتيجة، أطاحها الجنرالات الذين انقلبوا على السلطة في 2021، على رغم أنّ حزبها كان، قبل أشهر فقط، قد فاز في الانتخابات العامّة. بمعنى آخر، لا تستطيع الديمقراطيّة، وقد باتت قيمة كونيّة، أن تكون ديمقراطيّة «هنا» وأن تكون احتلالاً «هناك»، لأنّ فصلاً حادّاً كهذا ما بين داخل وخارج لا يلبث أن يتمدّد ويغدو فصلاً داخل الـ«هنا» نفسها. إنّ ذلك وصفةٌ ناجعة للقضاء على الديمقراطيّة والسياسة. والحال أنّ سلوكاً كهذا إنّما يخالف المسار التاريخيّ المعروف. ذاك أنّ الديمقراطيّة الحديثة إنّما ولدت أصلاً في البلدان الاستعماريّة، ثمّ تطوّرت وصار من مواصفاتها الجوهريّة نزع الاستعمار ومناهضته. وكانت المعركة هذه قد حُسمت في فرنسا مع نيل الجزائر استقلالها. فحينذاك تبدّى بوضوح أنّ استمرار الاحتلال لن يسقط الديمقراطيّة الفرنسيّة فحسب، بل يهدّد بنشوب حرب أهليّة بين الفرنسيّين ذاتهم. واحتمال انتكاس الديمقراطيّة إلى زمن سابق بارحتْه وتجاوزتْه يجد اليوم ما يعزّزه في الصعود الشعبويّ الذي يقوده قادة قوميّون، قادةٌ ولاؤهم للقوميّة ولدورهم الزعاميّ أكبر كثيراً من ولائهم للديمقراطيّة. أمّا بالعودة إلى إسرائيل وديمقراطيّتها الناقصة، المهدّدة اليوم، فسوف يكون من الصعب توهّم الخلاص مع استئناف السير على الدرب نفسه. وبالمعنى هذا سيكون ممّا لا مهرب منه المزاوجة بين الدفاع عن صلاحيّات المحكمة العليا والتصدّي للاحتلال والاستيطان. وهي المهمّة التي سيكون في وسع الفلسطينيّين استكمالها إذا شاؤوا، بإبدائهم اكتراثاً أكبر ومساهمة أعلى في الحدث الإسرائيليّ المفصليّ. ذاك أنّ معسكر الديمقراطيّة في الدولة العبريّة، ولو كانت ديمقراطيّته ناقصة، يتأثّر بالخارج وضغوطه، كما تمكن مخاطبته بالاستناد إلى قيم جامعة وقابلة للتطوير، وهذا ناهيك عن كون المعسكر المذكور الطرفَ المتضرّر على نحو مباشر من أيّ انهيار ديمقراطيّ. أمّا معسكر الدينيّين والقوميّين، الملتفّ حول بنيامين نتانياهو، فلا يحمل إلاّ الموقف المغلق والعداء المحض لسواه. في المقابل، وبعيداً من المبالغات الورديّة لإيران ولفصائلها الفلسطينيّة واللبنانيّة، ليس الوضع الأهليّ للفلسطينيّين بمُشجّع على افتراض أنّ الانهيار الإسرائيليّ قوّة لهم، ممّا يردّده كثيرون عندنا. بل ربّما شكّل انهيار كهذا مدخلاً إلى انهيار فلسطينيّ آخر يضاف إلى مسلسل الانهيارات، لا سيّما أنّ السلطة الفلسطينيّة، بفعل جهودها معطوفة على جهود خصومها، عاجزة عن إحداث أيّ تأثير إيجابيّ ملموس. أمّا المنطقة العربيّة المحيطة بفلسطين وإسرائيل فتعيش بدورها ذروة غير مسبوقة في التفتّت الذي يتمدّد من لبنان وسوريّا إلى العراق وبالعكس. وهي، في النهاية، مسؤوليّة أطراف كثيرة لا يجمع الحبّ بينها، لكنّ المصلحة يمكن أن تجمع، وينبغي أن تجمع. هذا هو الدرس الذي استنتجه، في جنوب أفريقيا، كلٌّ من مانديلّا ودوكليرك، وليس لدينا مَن يستنتج مثله. حازم صاغية مثقف وكاتب لبناني؛ بدأ الكتابة الصحافية عام 1974 في جريدة «السفير»، ثم، منذ 1989، في جريدة «الحياة»، ومنذ أواسط 2019 يكتب في «الشرق الأوسط». في هذه الغضون كتب لبعض الصحف والمواقع الإلكترونية، كما أصدر عدداً من الكتب التي تدور حول السياسة والثقافة السياسية في لبنان والمشرق العربي. 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post المعارضة اللبنانية تريد ضمانات تبدّد هواجسها next post مهى سلطان تكتب عن : أكبر معرض للفنّ التّجريدي في أروقة قصر بيت الدّين You may also like مايكل آيزنشتات يكتب عن: مع تراجع قدرتها على... 21 نوفمبر، 2024 ما يكشفه مجلس بلدية نينوى عن الصراع الإيراني... 21 نوفمبر، 2024 غسان شربل يكتب عن: عودة هوكستين… وعودة الدولة 19 نوفمبر، 2024 حازم صاغية يكتب عن: حين ينهار كلّ شيء... 19 نوفمبر، 2024 رضوان السيد يكتب عن: ماذا جرى في «المدينة... 15 نوفمبر، 2024 عبد الرحمن الراشد يكتب عن: ترمب ومشروع تغيير... 15 نوفمبر، 2024 منير الربيع يكتب عن..لبنان: معركة الـ1701 أم حرب... 15 نوفمبر، 2024 حميد رضا عزيزي يكتب عن: هل يتماشى شرق... 15 نوفمبر، 2024 سايمون هندرسون يكتب عن.. زعماء الخليج: “مرحبًا بعودتك... 15 نوفمبر، 2024 الانتخابات الأمريكية 2024: وجهات نظر من الشرق الأوسط 15 نوفمبر، 2024