بأقلامهم جهاد الزين .. مقالة قصي الحسين في “النهار” عن ديواني الأخير الذي هو عبارة عن قصيدة واحدة: ما أصعب هذا النزيف الشعري وما أقتله! by admin 22 يونيو، 2023 written by admin 22 يونيو، 2023 49 “النهار” اللبنانية \ قصي الحسين العيش في كنف الكتابة، في كنف المقالة، في كنف القصيدة، في كنف الكتاب والمكتبة، ذلك كله، وأكثر، هو الصحافي والإعلامي والأديب والشاعر #جهاد الزين، كما يتراءى لنا، في عمله الأخير: “#هو ليس…”. قصيدة في نفي الشاعر والجماعة، عن “#دار نلسن”. الكتاب أكثر من مونولوغ شجي/ مبحوح الصوت، أكثر من ألم ينفجر، مثل ولاعة اقتربت، على حين غرة، من شرارة. مونولوغ مثر ومحفز للتفكير والتأمل واختبار التصورات. فسحة زمنية للذات، حتى تتحضر للجلوس على عرش المقالة، علق بها صاحبها، فاصطحبها وعلقها على عموده. صنع فوق رأسها، بيديه، تاج الشوك، حتى يليق بها المقام، والقوم عكوف عنها، بين الفرائس والأضاحي: “هو ليس من دمه تسيب في/ العصور على ثياب قبيلة أو أمة أو غانية/… هو ليس كاتب سيرة عن نفسه، أو/ باحثا بين الملفات التي انتشرت/ هوامشها، بين الصوامع والكهوف/… هو ليس عالم اجتماع أو لغات ميتة/… هو ليس قيد إقامة في جوف/ مقبرة السماء”، و”هو ليس مذياعا وليس معلقا/ يأتي بمادته ليكتبها، على عموده/ اليومي في الصحف المشاع./ هو ليس قسيسا ولا شيخا ولا حاخام/ يجلس للجدال مع الجميع على نصوص لم يصغ حرفا بها”. هذه القصيدة بنزيف قرابة السبعين صفحة، هي ربما، عمر كاتبها، من سني الكتابة، بلغ به الألق أخيرا، القلق أخيرا، ليقول لا. ليقول “هو ليس”، “فلا صفات لهذا الموسم المزعوم/ في قلب النذالات التي ضختها/ أوردة حقيرة/ عبثا تخاطب ما تلاشى/ هو ليس في/ هو ليس من/ هو ليس بعد”. الأصعب إذا، هو العيش بين الأزمنة المتقطعة، لا الأزمنة المنسابة. لكن جهاد الزين، ما عرف إلا الأزمنة المتقطعة. ما ذاق إلا الأزمنة المتقاطعة على جسد، وما جرت عليه الأزمنة، في انسياباتها الطبيعية، ولذلك انتفض وصاح في وجوهنا “هو ليس”: “هو ليس موجا/ ليس ماء/ ليس رملا/ بل فراغ خافق بين الرؤى/ والظاعنات كأنهن بلا بداية/ كأنهن جدارك العالي/ هو ليس ليلى خلفه ظمآنة لا تستغيث/ عجل فموعدها الحؤول.” يعيش جهاد الزين في اللجة من كل شيء. ويعيش على الحافة أيضا. يعيش الصراعات، منذ وعيه الأول، كمن يعيش في قاع المحيطات. يذوق النوء تلو النوء. يصارع دنيا الأنواء كلها، وهو في أعماق القيعان المهلكة. هكذا هو في فن المقالة. هكذا هو أيضا في فن القصيد. أما عيشه على الحافة، فهو حين يخرج من قعر المرآة، ليأخذ نفسا على حافة الروح، على حائط الروح، حيث مستراحه الأخير. حيث الجسد صليب من لحم: “هو ليس حتى اللانهاية/ ليس التي ليست، فكأنها قدم/ العهود البائدة/ ليست كنفي خالص، نفي/ السليب على قضبان زنزاناته…/ والرغبة اللارغبة الأعلى.” خمسة وعشرون مقطعا، هي معلقة جهاد الزين. صنع لها عمودية خاصة. عمودية خالصة. علقها على عمود ذاته، بذراعين مفتوحتين، واحدة يمسك بها رأس المقالة، وواحدة يمسك بها رأس القصيدة. وهو بينهما، خشب صليب. جسد مصلوب، ينهض ميزانا. يحمل في كفتيه، كل يوم، يحمل في يديه كل يوم. وزنتين من مسامير، وفي عينيه دفتر حساب: “تمهل وأنت تشد العصاب على كل نفي أكيد/… فكيف نرد إليهم مسار الغواية…/ هو ليس عبئا بل يقين في الجموح/ هو ليس مجزرة الخريف ولا/ تواريخ الغواية.” يستعيد جهاد الزين تاريخ البدايات، تاريخ المُقاساة، تاريخ الإنتهاكات، حين وجد نفسه فجأة في سن الخامسة والعشرين، وقد انهمرت على أم رأسه الدنيا، فخرج لها بلحم عار، يلاقيها بذراعين مفتوحتين، وهو يصيح على المظلوم في روحه، على المصلوب في بدنه: هو ليس…عصفورا على غصن/ ولكن زمهرير في السكينة/ هو ليس صوت الإنكسار”. ينتقل جهاد الزين بالنار من زاوية إلى زاوية. ينزل عن عمود المقالة، ليتسلق عمود القصيدة. يعيش في البرهة الواحدة، وحدة المقالة والقصيدة. يعاني مما يسميه النقاد: الوحدة النفسية. يريد أن ينضج على نارين، لا نار واحدة. لأنه ليس مثلنا. لأنه “هو ليس”: “أين اختبأت من العويل؟/ أين استرحت فنمت موتك/ واستفقت على لهاثك/ لا مخرجا من الغضب/ لا مخرجا من التعب/ ويسيل موتك ناضجا وسخيا.” آه ما أقتل المقالة، ما أصعب القصيدة. آه ما أصعب المقالة، ما أقتل القصيدة. يوحد جهاد الزين في ذراعيه المفتوحتين على الأبد، وحدة النار التي تفتح فجأة على البلد، يعيد علينا، كل البدايات، كل الذكريات، يجعلها مقاطع مقاطع، مراحل مراحل، كمن يحفر على الأزمنة. وكلما كان يغذ أماما، يواجه حبال الريح. يواجه من يشده إلى الوراء: “هل صار يصعد من حوارات/ الحروف عنينها البشري ينبت/ في الفراغ؟/ هو ليس فوضى بل نحيب في/ الضجيج/ غرقت جميع الأروقة.” خمسة وعشرون مقطعا، هي عدد أنفاسه، التي كان يأخذها من عمق اللجة، حين يهب من حافة الموت، إلى الحافة، ليعود بعد ذلك مثل سيزيف، يصارع كرة العمر، يحمل أثقالها على كتفيه، كلما شدته اللجة إليها، كلما شد صعدا، وعنوة إلى القمة، إلى الحافة: “يا نوتة الأيام صبي من عزيفك/ خاطري/ القلب يصغي باكرا لرموزه/ ومجامر الحلم- الهباء/ مصادري.” المقالة سبر لجّة المحيطات. فن الصراع بين الأنواء والأمواج، والتيارات، فن مصارعة الحيتان، فن مقاتلة أسماك القرش، فن التصميم على النجاة، فن التصميم على الحياة. أما القصيدة فهي استشراف، وتسريح أنظار، وتأملات، وسبر آفاق. القصيدة هي سجادة خشوع على حافة البئر العميقة، هي ضرب مندل، هي تنجيم يوم، هي حدو دائم. أما الصديق جهاد الزين، فهو صليب من لحم ودم، بين زمنين متعاكسين، زمن المقالة وزمن القصيدة. لذلك نرى كيف تجتمع عليه أوجاعه، فينهرها: هو ليس… 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post غسان شربل يكتب عن : الباب الصيني والزائر الهندي next post حازم صاغية يكتب عن : لبنان: المواجهة الانتخابيّة الأخيرة في أربعة أسئلة وأجوبة مبسّطة You may also like داريوش معمار يكتب عن: “آلية الزناد” سلاح الغرب... 29 نوفمبر، 2024 شيرين عبادي تكتب عن: السعودية وإيران من وجهة... 26 نوفمبر، 2024 غسان شربل يكتب عن: لبنان… و«اليوم التالي» 26 نوفمبر، 2024 ساطع نورالدين يكتب عن: “العدو” الذي خرق حاجز... 24 نوفمبر، 2024 عبد الرحمن الراشد يكتب عن: شالوم ظريف والمصالحة 24 نوفمبر، 2024 حازم صاغية يكتب عن: لبنان وسؤال الاستقلال المُرّ 24 نوفمبر، 2024 مها يحيى تكتب عن: غداة الحرب على لبنان 24 نوفمبر، 2024 فرانسيس توسا يكتب عن: “قبة حديدية” وجنود في... 24 نوفمبر، 2024 رضوان السيد يكتب عن: وقف النار في الجنوب... 24 نوفمبر، 2024 مايكل آيزنشتات يكتب عن: مع تراجع قدرتها على... 21 نوفمبر، 2024