ثقافة و فنونعربي فريدريش فون شيلر رسخ وجودية الشعور القومي الألماني by admin 16 مارس، 2023 written by admin 16 مارس، 2023 17 التوفيق العسير بين ضرورات المادة ومطامح الروح والإنفتاح على الحرية والجمال اندبندنت عربية \ مشير باسيل عون مفكر لبناني يُعد المفكرُ الشاعرُ المسرحي فريدريش فون شيلر (1759-1805) من أبرز الأدباء الألمان الكلاسيكيين الذين زينوا القرن الثامن عشر بجليل تصوراتهم الوجودية ونضيج آرائهم الأدبية والفنية، مفتتحاً صحبةَ صديقه غوته (1749-1832) حقبة ڤايمار الكلاسيكية في الأدب الألماني. عاين فيه الناسُ شاعرَ الحرية والجمال والصداقة والعنفوان. ربطته بالأديب الألماني اللامع غوته صداقةٌ متينةٌ استقرت تجلياتها في أذهان مؤرخي الأدب العالمي. اعتنى بالتاريخ وبالجماليات وبعلم النفس وبالرواية، وأكب ينشئ القصائد الفلسفية والأناشيد السردية التي استلهمها من اختباراته الشخصية. بفضل مسرحياته الراقيةِ المضمون، البليغةِ العبارة تجلت عبقريته في أبهى عطاءاتها، فأذاعت له صيتاً أدبياً منقطع النظير. غير أن الناس لم تنصفه بعد مماته، إذ طفق بعضهم يمجدونه حتى العبادة، لا سيما في قصائده التي تحيي الشعور القومي، ويمتدحون في شخصه دعوةَ رسول المثُل العليا، وأخذ بعضهم الآخر يقرعونه ويعيبون عليه خروجه على المذهب الأدبي الغنائي الألماني السائد، وينتقدون في نصوصه نبرة الواعظ الأخلاقي. في جميع الأحوال، ما فتئت كتاباته تستثير التفكير والبحث والانتقاد الإيجابي والسلبي على حد سواء. النشأة المحافظة شيلر بالأسود والأبيض (مؤسسة شيلر) نشأ شيلر في بيئة ميسورة كانت تخدم دوق مقاطعة ڤُرتمبرغ في جنوب غربي ألمانيا، وترعرع في حضنٍ ديني تقوي ورع. أحاطته أسرتُه بأصدقاء ومعارف كانوا يهوون المباحثات الفكرية والجدل النظري والإفصاح الأدبي والغوص على معاني النفس الإنسانية. بعد أن كان قد اختار دراسة اللاهوت، عاد الدوق المقتدر فصده وفرض على والدَيه أن ينتسب إلى الأكادِيميا العسكرية التي كانت تفرض على الأسر المحافظة آنذاك أن تطوع أبناءها بالإكراه الناعم في المعهد التعليمي المتشدد هذا. من أبرز الإصلاحات المعتمَدة في منهج المعهد الدراسي سياسةٌ تربويةٌ بناها على ضرورة إقصاء التنشئة الأدبية الإنسية التقليدية، وتفضيل العلوم واللغات الحديثة والفلسفة. رضخ شيلر واختار دراسة الطب، وفي اعتقاده أن الحقل العلمي هذا يتيح له أن يتفحص أعماق النفس الإنسانية. وما لبث أن أعد أطروحة الدكتوراه في العام 1779 متناولاً فيها فلسفة الفيزيولوجيا. بين الفلسفة وعلم النفس “رسائل عن التربية الجمالية للإنسان” بالفرنسية (أمازون) شاءت المصادفة أن يقع على أستاذ فلسفة ألمعي اسمه ياكوب فريدريش فون أبل (1751-1829) كان حريصاً على ربط العلوم الطبية بالفلسفة وبعلم النفس. فإذا بشيلر المفتون بمِتافيزياء لايبنيتس (1646-1716) وكريستيان ڤولف (1679-1754) العقلانية يغترف من معين التناولات البينية هذه، ويستطيب خصوصاً مطالعة أعمال الفلاسفة البريطانيين من أمثال اللورد أنطوني أشلي كوبر شافتسبري (1671-1713) والسكوتلانديين أدام فرغوسن (1723-1816) وهنري هوم (1696-1782)، ويُغني فكره بقراءة الفيلسوفَين الألمانيين لسينغ (1729-1781) ومندلسزون (1729-1786). بفضل توجيهات معلمه فون أبل، أكب يتعمق في أعمال شكسبير (1564-1616) ويستجلي فيها تصوراً ثاقباً في طبيعة النفس الإنسانية. لا غرابة، والحال هذه، من أن تنعقد أبحاثُه الأوائل على استجلاء العلاقة الناشبة بين الفلسفة وعلم النفس، وأن يخصص لهذا الموضوع أطروحة الطب الأولى ويُعد الثانية في الربط بين طبيعة الإنسان الحيوانية وطبيعته الروحية (Versuch über den Zusammenhang der tierischen Natur des Menschen mit seiner geistigen). كان اقتناعه أن النفس والجسد مقترنان بصلة تضامنية عضوية تضبط انفعالات الإنسان وأفعاله. ولكنها أيضاً تُفضي إلى الاضطراب والتأزم الكارثي إذا أفسدها الإنسان أو عطلها أو أساء تدبيرها. النفي الطوعي بيد أن شهادة الطبيب العسكري لم تكن تبهج فؤاد شيلر، فإذا بالشاعر المغتاظ من هذه الحياة يعكف على معاندة التدابير والأحكام الصادرة من الأكادِيميا، فيجازف ويسافر من غير استئذان، فيجلب على نفسه غضب الإدارة التي تحرمه من كل نشاط أدبي. فاضطر إلى الهروب وسلوك طريق المنفى في العام 1782، حارماً نفسَه من ضمانات الوظيفة العسكرية ومواردها المالية. حين اشتد عليه المرض، أحس وطأة الغربة، فتفاقم حقده على الدوق والمؤسسة السياسية والعسكرية، وأفصح عن غيظه في مسرحيته “الدسيسة والحب” (Kabale und Liebe). أما مسرحيته الدرامية الأولى “قطاع الطرُق” (Die Räuber) التي قال فيها غوته إنها “إنجيل الحرية”، فكتبها أثناء إقامته في شتوتغارت، وغايته منها أن يمجد الحرية ويحتقر الاستبداد ويناهض المادية ويغوص على معنى المساءلة المِتافيزيائية الماورائية، ثائراً ثورةَ الغضب على المجتمع الذي أخضع نفسَه لأصحاب الفساد والطموح والجشع. غير أن القارئ النبيه لا يلبث أن يستجلي وراء هذه الموضوعات أثر الأعمال المسرحية العظيمة التي أبدعها شكسبير وأيضاً الشاعر الألماني فريدريش غوتليب كلوبشتوك (1724-1803)، لا سيما في قصيدته الملحمية “الماسيا” (Der Messias). قطاع الطرُق ثورةُ المظلومين على التقاليد المجحفة مسرحيته الشهيرة “وليهام تل” (أمازون) يعبر بطل مسرحية “قطاع الطرُق” كارل مور عن تصورات شيلر الفلسفية وآرائه المناهضة مسارَ المجتمع الألماني اللاهث وراء النهج السائد الذي يخالف عفوية الطبيعة الإنسانية. لا بد من الكفاح في سبيل تطهير ألمانيا من أهل المعرفة الجليدية الجامدة، وأصحاب السلطان البلاطي وخدامه المتزلفين، وحاملي الأجساد الصقيعية المجردة من حرارة النفس النابضة وعاطفتها الدفاقة. لذلك لا يتورع كارل مور عن انتهاج سبيل اللصوصية القذرة لكي يضعضع أسُس النظام الأخلاقي العفن. على رغم فتوة شيلر، حظيت مسرحيته هذه بانتشار واسع، إذ ذكرت الشعب الألماني بما يرقد في جوانيته من مشاعر الغضب والحمية الإصلاحية، على غرار ما جاء في أعمال صديقه غوته، خصوصاً في رائعته “آلام الشاب ڤرتر” (Die Leiden des jungen Werthers)، وكأني بشيلر يجسد على طريقته أفكار حركة “العاصفة والاندفاع” (Sturm und Drang). الإنسان المثالي خطرٌ جسيمٌ على المجتمع اضطر شيلر إلى الانكفاء والاختباء خوفاً من بطش السلطان، فلجأ في مدينتَي لايبتسيش ودريسدن إلى أصدقاء معجبين يوالونه ويمتدحون قصائده ومسرحياته على جميع المنابر. وأخذ يشعر بعمق الصداقة الإنسانية يُفصح عن مباهجها في نشيد “الفرح” (An die Freude). في أثناء ذلك الوقت، كان قد تعرف إلى الشابة الفاتنة الرقيقة الحكيمة شارلوت فون لنغِفلد التي اقترن بها لاحقاً. أما على مستوى الأداء الأكادِيمي، فانتسب إلى جامعة يانا أستاذاً معاصراً فيشته (1762-1814) وشِلينغ (1775-1854) وهيغل (1770-1831)، يعلم التاريخ وسير الحضارات. من جراء مناهضته جميعَ أصناف الاستبداد والتعصب الديني، أكب يقرع السلطان السياسي والديني في مسرحيته “دون كارلوس” (Don Carlos). ومع أنه ما برح يؤمن بقيمة الحرية ومثاليتها الهادية، إلا أنه أدرك أن الحياة لا يمكنها أن تخضع لقوالب الرفعة المثالية والأفكار المجردة. لا عجب من أن يتحول الحالم المثالي إلى مستبد خطيرٍ، على غرار بطل المسرحية الذي يضحي بنفسه وبصديقه الأمير كارلوس على مذبح الخطط المثالية التضامنية التي ما فتئ يعوزها النضج والحكمة الواقعية والتدبر الفطن. الإيمان المسيحي المجرد من الغيبيات الماورائية “الرائي” بالفرنسية (أمازون) منذ زمن الدراسة الأكادِيمية كان شيلر يعاني تأزماً فكرياً خطيراً رسم لنا ملامحه غير المكتملة في “الرسائل الفلسفية” (Philosophische Briefe) التي كان يتخيل تبادلَها وصديقه عالم القانون وصاحب الصالون الأدبي كريستيان غوتفريد كرُنر (1756-1831). بفضل المراسلات المتخيلة هذه، يُفصح شيلِر عن اختباراته الإيمانية التي أفضت به أولاً إلى اعتناق الإيمان المسيحي الذي زعزعته مقتضيات التفكير العقلاني الصارم، وثانياً إلى تأييد المذهب الربوبي الذي يعترف بإلهٍ منفصلٍ عن حركة الكون والحياة، وثالثاً إلى ضربٍ من السمو الأخلاقي الذي يفصل حياة الإنسان عن وعود السعادة الأبدية. خلال التحولات الوجدانية هذه، يبدو أنه واظب على شعور إيماني مسيحي عميق، ولكنه جرده من الحقائق الغيبية الماورائية الصريحة ومن المعتقدات اللاهوتية الواضحة البنيان. أثر النقد الكانطي في الأخلاقيات والجماليات لا ريب في أن أزمته الإيمانية دفعت به إلى طلب المعرفة الفلسفية الواضحة. فإذا به، وقد حرضه كرُنر على ذلك، يكب على قراءة أعمال كانط النقدية، فيستخرج منها ما يلائم طبيعة بحثه الوجداني الشخصي. بفضل قراءة نقد “العقل العملي ونقد ملَكة الحكم”، أدرك شيلِر أن الأفكار ليست من موضوعات التنظير العقلي المجرد، بل من مقتضيات الحرية الواقعية التي ينبغي للإنسان أن يزدان بها حتى ينخرط انخراطاً سليماً في معترك الحياة. ثمة مبدآن اثنان ارتاح إليهما في أبحاث كانط الأخلاقية والجمالية هذه: استقلال الإرادة الأخلاقية أو تأسيسها على قانون المشيئة الذاتية، وحُكم القيمة الجمالية المستقل غير الخاضع لاستقطابات المنافع الحسية الأنانية، أي حرية تفاعل الملَكات الحسية والملَكات العقلية في اختبار أبعاد الوجود الجمالية. غير أن اعتصام كانط بالعقل العملي لا يكفي في نظر شيلر من أجل تحقيق وحدة الطبيعة والروح، إذ إن النشاط العملي يقتضي، في تصور كانط، أن تتأسس الحرية على جوهرها الذاتي الخاص لكي تناهض الطبيعة برمتها. لا بد، والحال هذه، من اللجوء إلى الجماليات لكي تضطلع برسالة توحيد المادة والروح في سبيل انبعاث الشعوب الحرة. ومن ثم، أخذ يتصور حياة الروح أو الفكر منعتقةً من حتميات العالم الحسي ومرتكزةً على مثاليةٍ منزهةٍ لا ترضى بأي ضربٍ من ضروب المساومة الرخيصة. وحده الشعر يستطيع أن يهذب البشرية ويرتقي بها إلى مصاف البهاء الكوني الجامع. كتاب له (أمازون) ولكن شيلِر ظل أميناً على حدس كانط الفلسفي، فلم يُخضع الأخلاق للجماليات أو يختزلها اختزالاً تعسفياً في الاختبار الفني، بحيث يصبح الجمال سبيلَ بلوغ النفس إلى الرقي الأخلاقي. كان جل اعتنائه أن يتدبر الكيفيات الذاتية التي يستثمرها الإنسان في استدخال القانون الأخلاقي. بذلك يضحي الاختبار الجمالي بمنزلة الوساطة الفاعلة التي تهب الإنسان القدرة على التوفيق بين اقتبالية الطبيعة الانفعالية وابتدارية الحرية العفوية الفاعلة. لا شك في أن الفلسفة الجمالية هذه جعلته يخالف جمالية غوته التي نعتها بالساذجة، إذ عاينها مبنيةً على إمكان ترميم الأصل البهي. جماليات الحرية الخلاصية: الفنان مخلصُ الإنسانية ومع ذلك، لم يتخل عن حلم شبابه المثالي الذي كان يقضي بمصالحة الجسد والروح وتوطيد وحدتهما المتناغمة. فأنشأ العامَ 1788 قصيدته “آلهة الإغريق” (Die Götter Griechenlandes)، وغاص في عالم الأدب الإغريقي القديم، وفي مسعاه أن يقرب بواسطة فلسفة الفن وأناشيد الإبداع الشعري بين مثالية الحرية الأخلاقية، وقد استلهمها من كانط، وصورة الإنسان الكامل، وقد استوحاها من صديقه غوته. في تأريخه حربَ الثلاثين سنة (Geschichte des dreissigjährigen Kriegs)، استطاع أن يستجلي معاناة الشعوب وسعيها إلى اختبار الحرية الحق. على تعاقب الأيام، أخذ شيلر يميل شيئاً فشيئاً إلى الدراسات التاريخية والفلسفية التي جعلته يتخفف من نظم الشعر ويعكف على استقصاء جواهر المعاني التي تنطوي عليها خصوصاً جمالياتُ الحرية. ابتداءً من العام 1793 نراه يغوص على معاني الحسن، مستخدماً بحثَه الفلسفي في “الكياسة والكرامة” (Über Anmut und Würde) لكي ينهج سبيلاً جديداً من التعريف يحدد مفهوم الجمال انعكاساً للحرية في معترك العالم الحسي. ذلك بأن الحرية المتجلية في تضاعيف الوجود الحي تمنح الإنسان القدرة على استجلاء إشارات الجمال المتجسد في الكائنات المعلنة (Freiheit in der Erscheinung). تجدر الإشارة هنا إلى أن كانط استحضر مضمون هذا البحث في هامشٍ من هوامش كتابه “الدين في حدود مجرد العقل”. تهذيباً لملكة الحس الجمالي، راح شيلر يطرز رسائل تربوية ترمي إلى تنشئة الوعي الجمالي في مدارك الإنسان (Briefe über die ästhetische Erziehung des Menschen). غير أنه لم يسقط في محنة التجريد النظري، بل حرص على تحليل الظاهرة السياسية والأخلاقية المتجلية في الثورة الفرنسية، وفي يقينه أنها ثورةٌ فاشلةٌ، إذ إن الحرية لا تتحقق وتنتعش في ظل بشرية مصطنعة منقسمة مضطربة متحاربة يتصارع فيها العقل والغريزة. وحدها الملذة الجمالية تستطيع أن تصالح الروح والحواس، فتبعث مجتمعاً جديداً من الكائنات الإنسانية المتجانسة المنسجمة المؤهلة للعيش عيشاً متحرراً من كل القيود الداخلية والخارجية. ومن ثم، يتحول الفنانون في نظره إلى أفضل صناع الرقي السياسي وفرسان التقدم الحضاري. سذاجة الشعر المثالية مسرحياته الكاملة (أمازون) خلافاً للانتقادات التي عابت على شيلر مثاليته الجوفاء وعزوفه عن الواقع المعيش، لا بد من الإقرار بأن الشاعر الرهيف الإحساس هذا كان يؤمن حقاً بقدرة الشعر على تغيير أوضاع العالم، فاستعان بأبطال التاريخ الأُوروبي الوسيط من أمثال الفرنسية جان دارك والسويسري ڤيلهلم تِل لكي ينفض عنه تهمة السذاجة العملية. أنشأ بحثاً وضع له عنواناً استفزازياً: “في الشعر الساذج والعاطفي” (Über naive und sentimentalische Dichtung)، وطفق يحلل مكانة الشعر في العالم الحديث، مستجلياً الأبعاد النفسية التي تنطوي عليها حقيقة الكائن الإنساني. فإذا به يميز صنفَين من الناس: الواقعي والمثالي. الغريب في الأمر أنه يعرف نفسَه بالشاعر الساذج غوته، رفيق عمره وحليفه في معركته الأدبية التي أفضت بهما إلى نصرة الفن والثقافة، وقد أدركاهما في رقي مدلولاتهما. أما الجبهة الأخطر فالنضال من أجل تطهير الذائقة الأدبية السائدة. معاً عكفا على مناهضة جميع ألوان التحسسية الزائفة، والواقعية السطحية التافهة الرديئة، والغواية الفنية العابرة، والانحطاط الذوقي الأدبي. التضامن الفكري والتعاون الأدبي بين شيلر وغوته كتاب بالألمانية (أمازون) قبل النضال المشترك هذا، لم تكن علاقة شيلِر بغوته أصيلةً سليمةً عميقةً، بل اكتفيا بالتعارف البارد العامَ 1788 في صالون السيدة شارلوت فون لنغفلد. تغيرت الأمور حين قرر شيلِر إنشاء مجلته الأدبية “الساعات” (Die Horen)، وقد عزم عصرَئذٍ على استكتاب ألمع وجوه الأدب الألماني. بيد أن الكثير من هؤلاء رفضوا المساهمة الأدبية. أما غوته فقبل بفرح ووعده بالكتابة المنتظمة. في إثر ذلك، أكبا كلاهما على إنشاء دورية أدبية تستجمع كل انحرافات التعبير الأدبي المنحط، وأطلقا على هذه المجموعة اصطلاحاً قد يظنه المرءُ مستعاراً من علم الإخصاب النباتي (Xenien). غير أن أصل الاصطلاح يرقى إلى العبارة اليونانية كزنيا (Xenia) التي تدل على هدايا المضيف، وقد استخدمها الشاعر اللاتيني الروماني مارسيال (القرن الأول) في عنوان قصائده. كان الهدف من الاستقصاء المعجمي هذا أن يتحرى الأديبان، في روح الذم التقبيحي، عن الصيَغ الكتابية العتيقة والتعابير الذوقية السقيمة الضيقة الأفق التي تكبل الحياة الأدبية بسلاسل التقليد الاستعبادية وتمنع النهضة الفكرية المنشودة. بعد ترصد الالتواءات التعبيرية واستجماعها، أخذا ينشرانها في مجلة “الروزنامة الأدبية” (Musenalmanach). توثقت عرى الصداقة بينهما بحيث أضحيا يتبادلان مخطوطات أعمالهما للقراءة والتدقيق وإبداء الرأي والنصح. فإذا بغوته يواكب في مَنحت شيلر انبثاق ثلاثية “ڤالنشتاين” المأسَوية (Wallenstein)، وإذا بشيلِر يرافق في مَشغل غوته تكونَ الملحمة الشعرية هرمان ودوروتيا (Hermann und Dorothea) ويدقق الفصول الثلاثة الأخيرة من رواية “سنوات تنشئة ڤيلهلم مايستر” (Wilhelm Meisters Lehrjahre). فضلاً عن هذا، كان شيلِر قد أسس في العالم 1784 مجلة أدبية استلهم اسمها من ربة الإلهام الإغريقية ثاليا (Thalia)، وعقدها على تعزيز الدراسات الأدبية والفلسفية في المسرح والشعر والتاريخ والثقافة والسياسة. المرض مبعثُ الإبداع من الضروري أن تتضح العلاقة التوترية الإبداعية بين معاناة شيلر المرضية وإيقاع نظم القصائد الوجدانية التي كانت تفصح عن أعمق مشاعر الإنسان المتألم، ومنها “النزهة” (Der Spaziergang)، و”المثال والحياة” (Das Ideal und das Leben)، و”الحظ” (Das Glück)، و”نشيدُ الجرس” (Das Lied von der Glocke)، وسواها. منذ العام 1791 كان يعاني من ذات الرئة ويعالج الالتهابات الصدرية بكل ما أوتي من عزم. لم يُفلح في التغلب على أسقامه الجسدية هذه، بل انتهى به الأمر إلى الاستسلام حتى صرعه المرض في مدينة ڤايمار، وهو في أوج عطائه الأدبي يُعِد العدة لكتابة مسرحيته الواعدة “دمتريوس” (Demetrius) التي كان يروم منها تصوير حياة القيصر الروسي. فلسفة الحرية في مواجهة الأقدار الحتمية لا ريب في أن فكر شيلِر ينطوي على وجوهٍ شتى من التناولات التي أفصحت عنها قصائدُه الزاخرة بأشد الدلالات إيحاءً وإحالةً. لا يعني هذا القول إن كل قصيدة من قصائده تنطوي على تصور فلسفي خاص أو رأي أخلاقي صريح. جل الأمر أن نصوصه تعالج في معظمها علاقة الإنسان بالأقدار التي تكتنفه. لا سبيل إلى مواجهتها إلا باستثمار إرادة الحرية. أما الحلول التي يقترحها شيلِر في مسرحياته وسردياته فتتنوع بتنوع الوضعيات الوجودية الضاغطة: منهم من يعزف عن السعادة ويتخلى عن الحياة حتى يخرج من ورطة صراع الواجبات المتوازية ويريح نفسه من أثقال الاختيار المرهق؛ ومنهم من يكفر عن ذنوبه بقراره الحر الواعي الذي يجعله يدرك عظمة القيمة الإنسانية الذاتية. في جميع الأحوال ما برح شيلر يصر على أن جلال البهاء الكوني يرتقي بالإنسان إلى مرتبة الفكر الصافي المنزه، فيحرره من حتميات الانفعالات والغرائز والشهوات، ويوقظ وعيه من مرقد الخمود المهلك، كاشفاً له عظمة الكرامة الكيانية التي يحظى بها. على قدر ما يتأمل الإنسان في الجلال المهيب هذا، ينعتق جمالياً من حسيات الصغائر الزائفة، ويهب للاضطلاع بمسؤولية حريته الأخلاقية. بيد أن للتحول الوجداني هذا ثمنه المأسَوي الذي يطهر النفس تطهيرَ التنقية والتهذيب. وما رخامة التعبير الأدبي في نصوص شيلر سوى الدليل على رقي الطموح الأخلاقي هذا. أما التفنن في تصوير مشاهد المسرحيات فيبرز تأثره بأسلوب شكسبير وعزمه على ابتداع نمطٍ مسرحي جديدٍ جعل الناس يعاينون فيه أميرَ المسرح الألماني. تجريم المثال عوضاً عن تقبيح الواقع على رغم الانتقائية الحدسية التي اتصفت بها كتاباتُه، إلا أن سؤاله الفلسفي ما فتئ يستفسر إمكان الانسجام بين الروح والمادة، بين حرية الإنسان وقوى الحتمية التاريخية التي تخاصمه أشد المخاصمة. حاول أولاً أن يجيب عن هذا السؤال في مسرحياته. فصور اختلال الانسجام تصويراً مأسَوياً استظهره ناشطاً في حياة الأبطال الذين يتنازعهم التعارض الحاد بين المثُل الأخلاقية العليا والوضعيات الإعاقية الواقعية. غير أن شيلِر يجرؤ فيحول قوى الخير البناءة إلى طاقات سلبية من التدمير المأسَوي الفتاك. يقينه الفلسفي في هذا كله أن الواقع الحسي الملموس، حين يعاند المثال الأخلاقي الرفيع ويتمرد على كل رقي روحي، إنما يبرهن أنه عصي على إخصاب الحياة الإنسانية وأنه يمنع تحقيق ما يَعد الناسَ به من رفعةٍ وسمو. ومن ثم، يبدو أن الانعطاب ناشبٌ في المثال، لا في الواقع! ذلك بأن بؤس الناس لا يرتبط بالانحرافات الأخلاقية والضلالات المسلكية فحسب، بل بجوهر الأخلاق عينه الذي قد ينقلب إلى شر مستطير. قد يكون الحب المستحيل الذي عالجه شيلر في مسرحيته دون كارلوس مثالاً على امتزاج الشغب بصداقةٍ خالصةٍ تخضع لمقاصد سياسية تتخطى الأفراد وتُفضي إلى القضاء على الاستبداد. الصداقة بحد ذاتها أمرٌ محمودٌ، غير أنها تتحول إلى شغفٍ مستقبَحٍ وحب ممنوعٍ، ولا تلبث أن تنقلب بسلبيتها المرفوضة إلى فعلِ تضحيةٍ ينشد ارتقاء النفس إلى مستوى المثال التحرري. المزيد عن: شاعر ألماني\غوته\الروح الألمانية\المثالية\الشعر\الرؤيا\الوجود\القومية\الحرية 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post سرطان البروستاتا لا يتطلب علاجاً عاجلاً لدى معظم الرجال next post واشنطن تحقق في قضية إفلاس بنك “وادي السيليكون” You may also like مستقبل مقاومة هوليوود الليبرالية بوجه ترمب 29 نوفمبر، 2024 نظرية فوكوياما عن “نهاية التاريخ” تسقط في غزة 29 نوفمبر، 2024 لماذا لا يعرف محبو فان غوخ سوى القليل... 29 نوفمبر، 2024 جائزة الكتاب النمساوي لرواية جريمة وديوان شعر ذاتي 29 نوفمبر، 2024 طفولة وبساطة مدهشة في لوحات العراقي وضاح مهدي 29 نوفمبر، 2024 استعادة كتاب “أطياف ماركس” بعد 20 عاما على... 28 نوفمبر، 2024 تحديات المخرج فرنسوا تروفو بعد 40 عاما على... 28 نوفمبر، 2024 21 قصيدة تعمد نيرودا نسيانها فشغلت الناس بعد... 28 نوفمبر، 2024 الرواية التاريخية النسوية كما تمثلت لدى ثلاث كاتبات... 28 نوفمبر، 2024 بودلير وهيغو… لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم... 27 نوفمبر، 2024