بأقلامهمعربي جنى نصرالله تكتب الى لور غريب by admin 12 فبراير، 2023 written by admin 12 فبراير، 2023 26 “حبر. ورق. أنت وأنا”. أربع كلمات تختصر تجربة فريدة بدآها بعد حرب تموز 2006 من دون أن يكونا أكيدين من الأفق الذي يمكن أن تبلغه. جنى نصر الله – روائية كاتبة وصحفية لبنانية \ صفجة الكاتبة facebook حين هزّت بنا الأرض في فجر ذاك اليوم المرعب، حين مالت بنا يمينًا وشمالا، صعودًا ونزولًا سقطت لوحة صغيرة على الأرض. فقط لوحة صغيرة في بيتنا الذي أصفه معلّقًا على حبال. لوحة صغيرة، ولكنّها ليست أيّ لوحة. إنّها هديّة من لور غرّيب. أهدتني إيّاها في إحدى زياراتي لها في منزلها الكائن في السوديكو. لممت اللوحة وأعدتها إلى مكانها. ذُعرت. حاولت أن أطرد الأفكار السوداء من رأسي، ولكنّني فشلت، تمامًا كما فشلت في التواصل مع لور قبل أيامٍ قليلة حين أرسلت لها رسالة قصيرة ما زالت معلّقة في الفضاء. لور بخير ، قلت. وغدًا سأقصدها في بيتها من دون موعد. سأخبرها عما حصل. ستضحك وستقول لي: “بعدني عايشة، عزرائيل ما بيخرب بيتو”. تأخّرت في تنفيذ ما وعدت نفسي به، بسبب ما آلت إليه الأوضاع في صباح اليوم التالي الحزين. رحلت لور بعد ساعات قليلة من سقوط لوحتها. إنّها على حق: “عزرائيل ما بيخرب بيتو”، بل، باستدعائها، أراد أن يضيف الفرح والحب إلى عالمه البائس. حيث تكون لور، يكون المرح والضحك بصوت عال، يكون الفرح والحب، تكون البيرة المثلجة والألوان والرسوم إلى الشتائم التي تتفنن في حبكها. في بيتها المتواضع في السوديكو، كنّا نجتمع نحن الثلاثة على الطاولة المستديرة؛ لور وانطوان كرباج وأنا، وتشرف ياسمينة المرأة السمراء الطويلة الممتلئة على ترتيب الطاولة. ياسمينة هي المديرة، كما كانت تسميها لور التي لا تمتثل لأوامر أحد سواها. تضع لور صحون الطعام بالزيت أمامي وتقول : “هول إلك. اصطفلي اذا كنت نباتية”. يسكب انطوان كأسا واحدا من العرق من الغالون مباشرة. يحمله بيد خلف كتفه، ويمسك باليد الأخرى الكأس الذي ينساب فيه العرق من دون هدر نقطة واحدة. تشرب لور البيرة ، وعليي أن اختار من سأساير : انطوان فأشرب كأسا من العرق، ام لور وبيرتها من نوع ألماسة المثلجة؟ لم أرغب يوما في أن ينتهي هذا الغداء رغم تجدده بدعوة مفتوحة من لور: بس بدك بتجي من دون موعد. غداء دسم في الأحاديث المتنوعة والثرثرات وذكريات انطوان كرباج التي كنت دائما اطلب المزيد والمزيد منها، ولا أكتفي. ولا تكتمل متعة هذا اللقاء وجماله إلّا بعد الدخول إلى محترف لور، عالمها السرّي والخاص، هذا العالم الذي إن دعتك إليه فأنت لا بدّ شخص مميّز بالنسبة إليها. لور شخصية فريدة في تناقضاتها: تتحدث بالفرنسية ليس لأنها لغة الصالونات بل لأنها اعتادت ذلك وتطمعها بسيل من الشتائم والكلام الرذيل الذي لا يجرؤ أحد على استخدامه، طرفي نقيض تتأرجح بينهما لور بسعادة وخفّة تشبه شيطنة الأطفال. تدّعي القسوة والعدائية أحيانا، لتخفي شخصيّة حنونة وشفافة، محبة وعاطفية وحساسة إلى أقصى الحدود. كنت أحسدك كلّما رأيتك تدخلين إلى مكتبك في النهار بكامل طاقتك وحيويتك وصخبك متخفّفة من أعوامك الثمانين، وأقول في سرّي: كم أتمنى أن أصبح مثلها في حال بلغت الثمانين. لم تغادرها هذه الطاقة حتى بعدما هجرت مكتبها في النهار. وكنت كلما زرتها في بيتها ردّدت الأمنية نفسه. …لور بتلبقلك الحياة! لن اتحدث عن لور الفنانة والأم واكتفي بنشر مقتطفات من حوار أجريته معها ومع مازن في العام 2010 ونشر في جريدة النهار عشية افتتاح معرضهما في كاليري جنين ربيز. حوار فيه الكثير من البوح الجميل والعلاقة الخاصة التي تربطهما. الحوار: بينهما تجربة غنية بتمايزات تصل أحيانا حد التناقض، ولكن نتاجها لن يُبصر النور إلّا عندما تصبح نسقًا متكاملًا وروحًا واحدة . وإذا لم تنجح في بلوغ هذه المرحلة تعود إلى تكوينها الأول لتكون عملًا فرديّا يحكي لغته الخاصة. هي تنمنم في عملها وتشبّه نفسها بالنملة،وهو ينفعل فيُبدع. هي تحرص على التفاصيل وتخاف المساحات البيضاء فتحبّرها حتّى البقعة الأخيرة، أمّا هو فلا يخشى شيئًا ويشعر أنّه سيد الورقة والقلم. هي تمسك القلم وتتركه يذهب بها إلى حيث يشاء، أمّا هو فيتحكّم بحركة القلم ومساره. هي تفضّل في رسمها أن تكون “هو”، وهو يتمنّى لو كان “هي”. هي لم تتعلم الرسم، أمّا هو فبلى. هي تعرض أعمالها في معارض، وهو يفضّل أن يطبعها في كتب. هي جمهوره الأول وهو المتفرّج الأول على أعمالها. هي في خريف العمر وهو في ربيعه. هي أمّه وهو ابنها. على رغم كلّ هذا الإختلاف، يجمعهما شيئان رئيسيّان هما الحبر الأسود والقلم. إنّهما لورغريّب ومازن كرباج اللذان قررا أخيرا الخروج بتجربة الرسم بأربع أيدٍ إلى العلن. “حبر. ورق. أنت وأنا”. أربع كلمات تختصر تجربة فريدة بدآها بعد حرب تموز 2006 من دون أن يكونا أكيدين من الأفق الذي يمكن أن تبلغه. يقول مازن “كان كل واحد منّا يعمل على رسومه الخاصّة عن الحرب، ثم بدأنا العمل معًا على دفتر واحد. ترسم قليلا ثمّ تمرّر لي الدفتر فأرسم فوق رسوماتها وأمرّر لها الدفتر مجددا”. وتتابع لور”كانت التجربة تميل إلى التعليق على الحدث أكثر من الرسم. لم نكن نستطيع مازن وأنا أن نلتقي يوميّا بسبب ظروف الحرب. كان يزوروني بين الحين والآخر في بيتنا في السوديكو، ومعه دفتره، يريني رسومه وأنا أفعل الشيء نفسه. نتبادل الدفاتر، ويتابع كلّ منّا عمله على رسم الآخر. كان نوع من الحوار”. تلك كانت البداية، علمًا أنّ مازن كان يطمح إلى العمل إلى جانب لور منذ كان في الثامنة من عمره. كانت لور تحضر حينذاك لعرض رسوماتها في “كاليري بخعازي”، رسم مازن بداية متأثرًا بأسلوبها وطلب أن تعرض رسومه إلى جانب لوحاتها. فأجابته: “عندما تكبُر وترسُم المزيد، لن تكون هناك مشكلة في أن نعرض معًا”. لم ينسَ هذا الوعد، وإن شعر بعد فترة بأنّه غير معجب بأعمالها على الإطلاق، بل كان يراها “مجرّد خربشات”، وتساءل لماذا يسمّون هذه الأعمال رسما؟ (…). تحوّلت الرغبة في العمل المشترك واقعًا ملموسًا للمرّة الأولى في معرض سرسق العام الماضي عندما عرض مازن ولور “بورتريه” مُزدوجًا تحت عنوان “أنت وأنا” ونال جائزة لجنة التحكيم. رسما نفسيّهما بقلم رصاص وتبادلا الرسومات وصار كلّ يملأها وفق أ سلوبه الخاص. تقول لور”: في تلك التجربة كان لا يزال كلّ منّا يحترم خصوصيّة الآخر، ويُريد أن يظهر في الوقت عينه خصوصيته”. لم تكن تجرية الرسم بأربع أيدٍ نضجت فعلا، كانت لا تزال تتلمس طريقها التي لا تخلو من تحدّيات كثيرة أهمها أن يتخلّى الفنان عن “الأنا”. يقول مازن ” في البداية، كان هناك احترام لعمل الآخر وخوف من التدخل فيه. الفنان، عادة، لا يتعامل بهذا النوع من الاحترام مع عمله الخاص، بل يُمكن أن يحطّمه ويرميه إذا رآه غير جيد. في اللوحة المشتركة، لا يمكن كلّ منّا أن يعمل كأنّ اللوحة خاصة به. ولا يجوز أيضا أن يُساير أحدنا الآخر، فأقول لها أنت قويّة وهي تقول لي الشيء نفسه، فهذا لن يؤدي إلى نتيجة. على كلّ منّا أن يحطّم الآخر ويرضى أن يتحطّم بدوره بهدف تكوين شخص ثالث، فنان جديد يُنجز هذه الرسوم”. لم يكتف مازن ولور ذلك فحسب، لا بل ذهبا بعيدًا في غوصهما في أعماق التجربة إلى حد قبول كلّ منهما إعطاء الآخر حقّ اتخاذ القرار بإنهاء اللوحة على رغم صعوبته. تطلّب بلوغ هذه المرحلة أن يقتنع كلّ واحد منهما بأنه ليس وحده يُدير اللوحة. اقتناع أقرّا به في كلمات قليلة وكثيفة ذيّلت بطاقة الدعوة وفيها مكاشفة بمكنونات التجربة، صعوباتها، تحدّياتها ثمّ ولادتها. يقولان، بل يقول الشخص الثالث الذي وُلد بأيدٍ أربع ونما من حبر وورق ” كلّ يذهب في طريقه، يُعطي رأيه، يُحاول أن يقنع الآخر، يتحمّس، يتمرّد، يرجو، ثم يستسلم ويقتنع برأي الآخر لأنّه لا بدّ من التوافق في لحظة ما من أجل إنجاح العمل الذي تخطّه أيدينا الأربع” (…). 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post Fixed-term lease loophole must close, says legal aid worker next post جهاد الزين من بيروت : النظام الطائفي حوّل اللبناني إلى “حيوان ديني” You may also like ريفا غوجون تكتب عن: رهانات فعلية في سباق... 12 يناير، 2025 حازم صاغية يكتب عن: مسألة «الصراع» و«القضيّة» اليوم! 12 يناير، 2025 عبد الرحمن الراشد يكتب عن: نهاية الحروب اللبنانية... 11 يناير، 2025 رضوان السيد يكتب عن: سوريا بعد الأسد واستقبال... 10 يناير، 2025 ابراهيم شمس الدين يكتب عن: هوية الشيعة الحقيقية... 10 يناير، 2025 منير الربيع يكتب عن: “الوصاية” الدولية-العربية تفرض عون... 10 يناير، 2025 لماذا يسخر ترمب من كندا بفكرة دمجها كولاية... 9 يناير، 2025 عبد الرحمن الراشد يكتب عن: هل مسلحو سوريا... 9 يناير، 2025 حازم صاغية يكتب عن: لا يطمئن السوريّين إلّا…... 9 يناير، 2025 ديفيد شينكر يكتب عن: لبنان يسير نحو السيادة... 9 يناير، 2025