AFP / الكاتب الأميركي ريتشارد باورز ثقافة و فنون ريتشارد باورز في جحيم عالم الذكاء الاصطناعي by admin 10 مارس، 2025 written by admin 10 مارس، 2025 21 روايته الجديدة تقابل ضحالة التكنولوجيا بأعماق المحيط الهادئ المجلة / أنطوان جوكي لو كان علينا أن ننصح القارئ بمطالعة كتاب واحد من بين الكتب التي قرأناها حديثا، لاخترنا بلا تردد رواية “بلايغراوند” (ملعب) للكاتب الأميركي ريتشارد باورز. لماذا؟ لأن باورز لا يكتفي في هذا العمل الأدبي الفاتن والمقلق على حد السواء بأن يفضح، بمعرفة مدوخة، التأثير الوخيم للبشر على النظم البيئية لآخر مكان برّي على الأرض، المحيط الهادئ، بل يكشف أيضا بألمعية، أحدث التطورات في مجال الذكاء الاصطناعي ورهاناته، ويواصل استكشافه إنسانيتنا المشتركة بتلك الطريقة البصيرة، العميقة، التي تمنح جميع رواياته مذاقها الخاص وقيمتها، وتجعل منه واحدا من أعظم كتّاب ومفكري زمننا. أزمنة لإنجاز كل ذلك، يلجأ باورز إلى أربع شخصيات نتابع مسيرتها على فترة زمنية طويلة. هكذا يحط بنا أحد الأجزاء الثلاثة المتشابكة لروايته في شيكاغو أولا، في نهاية القرن الماضي، داخل مدرسة يسوعية للفتيان الموهوبين، حيث نتعرف إلى الفتى الأبيض تود كين، الشغوف بميدان المعلوماتية، والفتى الأسود رافي يونغ، الذي يعشق الأدب ويملك موهبة مدهشة في قراءة عالمنا مثل كتاب. صديقان يمضيان وقتهما في التنافس على رقعة الشطرنج، ثم على رقعة لعبة “غو” الصينية، ويعود تواطؤهما جزئيا إلى انتمائهما إلى عائلتين ممزقتين، لكن مختلفتين. فبينما يعمل والد تود الثري في البورصة ويرتبط بعلاقة عاطفية مع امرأة غير زوجته، يعمل والد رافي، المطلّق من زوجته، في ثكنة الإطفاء في المدينة، ولا يفوّت فرصة لتذكير ابنه بأهمية الكد في الدراسة والتفوق لتجاوز عائق العنصرية المتفشية في المجتمع الأميركي. صداقة تود ورافي، التي تشكل نقطة جاذبية كبيرة في الرواية، تتعمق أثناء دراستهما في جامعة أوربانا، في ولاية إلينوي، لكن بمجرد دخول الفتاة إينا أرويتا إلى حياتهما، يبدآن في الابتعاد، أحدهما عن الآخر. فمثل رافي، نجحت هذه الفتاة التاهيتية التي تمارس النحت، في الوصول إلى مكان بقي خارج متناول والديها الفقيرين. ومثلما يلجأ رافي إلى الأدب للتأمل في العالم واستكشاف ذاته ودوره فيه، تلجأ إينا إلى الفن للغاية نفسها. بالتالي، يتكلم الاثنان “لغة الفنون السرية” التي تبلبل تود وتحثه على الانحراف في اتجاه عالم تحدده القدرات الناشئة للحاسوب. لكن هذا الانحراف ومشاعره العاطفية تجاه إينا، لا يمنعانه من الشعور بالسعادة لصديقه، الذي يبدو مع هذه الفتاة “شخصا جديدا تماما، غامضا، جسورا، هشا ومنفتحا”. بطل الرواية أحد أقطاب التكنولوجيا الرقمية بفضل منصة أسسها وهو شاب تحت اسم “بلايغراوند”، وتوفر لزبائنها فضاء لعقد صفقات تجارية افتراضية تفاصيل قصة تود ورافي نكتشفها عام 2027، من خلال ما يسرده تود بصيغة المتكلم لـ”أنت” مجهول لن تنكشف هويته إلا في نهاية الرواية. في العام المذكور، نجد تود في سن الـ 57 وقد بات أحد أقطاب التكنولوجيا الرقمية بفضل منصة أسسها وهو شاب تحت اسم “بلايغراوند”، وتوفر لزبائنها فضاء لعقد صفقات تجارية افتراضية. وحولها، يوضح فورا لنا أنها “على وشك إعلان اختراق تكنولوجي من شأنه أن يدفع البشرية الرعناء إلى ثورتها الصناعية الرابعة، وربما الأخيرة”. أما لماذا يسترسل في سرد قصة صداقته مع رافي، فلأنه يعاني من نوع نادر من الخرف يؤول حتما إلى ضياع الذاكرة. رواية “بلايغراوند” الجزيرة الجزء الثاني من الرواية تدور أحداثه في زمننا الراهن على جزيرة ماكاتيا التي تقع في وسط المحيط الهادئ، حيث نجد رافي وإينا متزوجين ووالدين لطفلين بالتبني، يمارس هو التعليم، واضعا خبراته العالية في علم النفس التربوي في خدمة تلامذة المدرسة الوحيدة في الجزيرة، بينما تمارس إينا فن النحت مستعينة بالمواد البلاستيكية الغزيرة التي يلفظها المحيط على الشاطئ. جزء نتعرف فيه إلى هذه الجزيرة التي، بعدما كانت في الماضي مستعمرة دمّها التعدين في مناجم الفوسفات، والاختبارات النووية التي أجرتها فرنسا في محيطها، باتت من جديد محط جشع القوى الرأسمالية، مما يفسر تحولها إلى ساحة يتصادم فيها هاجس بيئي وهاجس إنعاش اقتصادها الميت، واستعداد أبنائها للتصويت على مشروع شركة أميركية تقترح عليهم إعادة تنشيط مرفأ الجزيرة المشلول، مقابل السماح لها بإقامة مدن عائمة مستقلة في مياهها. عن هذه الجزيرة التي يجهل معظمنا حتى وجودها، سنعرف أيضا في هذا الجزء أن أبناءها كانوا من أعظم الملاحين في العالم، إذ عبروا بقواربهم الصغيرة ثلث الكرة الأرضية، ألف عام قبل أن تتمكن السفن الغربية من إنجاز ذلك. و”حتى من دون إتقانهم الكتابة، انتشروا في أرجاء محيط أكبر من جميع القارات مجتمعة، واستقروا على كل قطعة من اليابسة فيه صالحة للسكن”. رواية آسرة، وهي تقطر حكمة، سواء تعلق الأمر بالتكنولوجيات الرقمية ورهاناتها، أو بثقافة جزر المحيط الهادئ ومشاكل البيئة وأخطار الرأسمالية الجزء الثالث من الرواية نتلقى سرديته بصيغة المجهول، ونتعرف فيه إلى غواصة كندية خبيرة في علم المحيطات تدعى إيفلين بوليو، وتقوم بعملها كل يوم بحماسة “طفل في مدينة ألعاب”. ولا عجب في ذلك، فغطسها في المحيط الهادئ منذ صغرها هو الذي كشفها لذاتها وأخرجها من انطوائها على نفسها. وبعد عقود من استكشافها قاع هذا المحيط، باتت تشعر كأنها في دارها تحت الماء، من دون أن تتمكن طبعا من استنفاد الألف مفاجأة ومفاجأة التي يخفيها هذا المكان. عجائب تكشف إيفلين بعضها في كتاب يجلب لها بسرعة شهرة عالمية، لكن من دون أن يصرف ذلك انتباهها عن شغفها الشديد بالمحيط المذكور، أو يجعلها تنسى التهديدات التي تثقل كاهله بسبب التغييرات المناخية التي كانت شاهدة عليها على مر السنين، وأدت إلى تدمير جزء كبير من شعابه المرجانية وانقراض آلاف الأنواع الحية التي كانت تعيش فيه. الكاتب الأميركي ريتشارد باورز أخطار الرأسمالية سواء على اليابسة أو تحت الماء، “بلايغراوند” رواية آسرة، وهي تقطر حكمة، سواء تعلق الأمر بالتكنولوجيات الرقمية ورهاناتها، أو بثقافة جزر المحيط الهادئ ومشاكل البيئة وأخطار الرأسمالية. لكن أكثر ما يفتننا فيها هو الوصف المرصود لجمال ما ينوجد في البحار، وهو يخطف الأنفاس بغنائيته. فالمشاهد المصورة غنية حسيا الى درجة تمنحنا الانطباع بأنها أمامنا في أبعادها الثلاثة وكل روعتها. وعلى خلفيتها، يعمد باورز إلى تقييم شبه روحي لعجائب الحياة البحرية وأسرارها، مخصصا صفحات مجيدة لسلوك بعض الكائنات البحرية الغامض الذي يفجر اعتقاد الكثير منا بتفوق الإنسان، حكمة وذكاء، على سائر المخلوقات الأرضية. اعتقاد تدحضه أيضا في الرواية مقاربتها البصيرة لسؤال صحة محيطاتنا وبحارنا، لارتفاع مستوياتها الخطير بسبب سلوكنا، وللتلوث الذي يقضي، مع الصيد غير المسؤول، على الحياة فيها، ويقف خلفهما السلوك نفسه. وحين نعلم أن هذه البحار والمحيطات تغطي 71 في المئة من سطح الأرض وتشكل موطنا لـ 99 في المائة من كائناتها الحية، نعي حجم الأضرار التي نتسبب بها، ومدى غبائنا. الموضوع الأكثر إثارة للقلق في هذه الرواية يتعلق بالذكاء الاصطناعي وقدراته الذاتية على التطور بسرعة. فهل سيشكل أداة تطور مواز للبشرية، أم عامل تقهقر يؤدي إلى فنائها؟ لكن الموضوع الأكثر إثارة للقلق في هذه الرواية يتعلق بالذكاء الاصطناعي وقدراته الذاتية على التطور بسرعة. فهل سيشكل أداة تطور مواز للبشرية، أم عامل تقهقر يؤدي إلى فنائها؟ للإجابة عن هذا السؤال، يلجأ باورز إلى تشييد رواية داخل روايته، مكتوبة بخط ملتو، ونتلقى سرديتها بصوت تود متحدثا، كما سبق وأشرنا، إلى “أنت” مجهول الهوية، هو في الواقع الذكاء الاصطناعي لمنصته، لكننا لن ندرك ذلك إلا في نهاية “بلايغراوند”، حين نعلم أيضا أن هذا الذكاء هو الراوي الحقيقي، بعدما لقنه تود كل ما يعرفه عن نفسه، عن صديقه رافي، وعن علاقتهما، قبل ضياع ذاكرته. صفحات تكشف لنا ما يمكن أن تكون عليه رواية مؤلفة على يد ذكاء اصطناعي طوره إنسان عبقري في ميدان المعلوماتية، لكنه يعيش منطويا على نفسه داخل عزلة طوعية، وبسبب ذلك، يفتقر الى النضج على مستوى العلاقات البشرية. AFP / الكاتب الأميركي ريتشارد باورز رواية داخل رواية في هذه الرواية داخل الرواية، يأتي كلام رافي زائفا، أثناء حواراته مع تود، لأنه مبني فقط على المعطيات المحدودة التي لقّمها تود لذكائه الاصطناعي حول كيفية تحدّث ذوي البشرة السوداء في أميركا. وكذلك الأمر بالنسبة إلى أبناء جزيرة ماكاتيا الذين يأتي وصفهم على يد هذا الذكاء مبنيا على كليشيهات رومنطيقية. ومن خلال ذلك، يسعى باورز إلى إظهار حقيقة أن رؤية الذكاء الاصطناعي لنا تستند إلى رؤيتنا بالذات الى أنفسنا والى الآخرين، كوننا نحن من يمد هذا الذكاء بالمعطيات. من هنا السطحية والابتذال في رؤيته. لكن هل سيظل الأمر على هذا النحو في المستقبل؟ تلميحات كثيرة في الرواية توحي بعكس ذلك. دعوة غايتها ليست فقط فتح أعيننا على المستقبل الوخيم الذي يتربص بنا، بل حثنا خصوصا على رؤية موقعنا الحقيقي داخل العالم وهذا ما يقودنا إلى فكرة مركزية في “بلايغراوند” مفادها أنه إذا كان التغيير أمرا لا مفر منه، فإن المكامن الهشة لسحر الحياة ــــــ على اليابسة وتحت الماء ــــــ تستحق أن نتذوقها ونحاول إنقاذها من الهلاك. فكرة يسيّرها باورز مع أفكار وتأملات أخرى كثيرة تضفي على نصه قيمة إضافية، كقوله في مكان ما: “كل قلب بشري يتخيل الله بطريقة مختلفة. طريقة يحددها هذا الخيال”، أو قوله على لسان رافي متحدثا إلى تود: “هل تعلم لماذا أحب الألعاب؟ للسبب نفسه الذي يجعلني أحب الأدب. في كل لعبة، كما في كل قصيدة أو قصة، الموت هو منبع الجمال”. وفي ضوء الوضع التعيس لعالمنا، يكتب: “لا تمكن مصالحة الأمل والحقيقة”. لكن هذا التشاؤم المبرر لا يطغى على روايته، إذ نقرأ أيضا فيها: “ثمة أشياء لا تحصى في الحياة، أكثر مما تستطيع إيفلين (الغواصة) أن تفيه حقه، أكثر مما يستطيع أي كائن بشري أن يحزره أو يستحقه. إنها تحب كل شيء، حتى البشر، لأنه من دون معجزة الإدراك البشري، فإن حب مثل هذا العالم لن يكون سوى مجرد نبضة حياة من بين مليار نبضة ونبضة لا اسم لها”. باختصار، يدعونا باورز في هذه الرواية إلى النظر تحت الماء طويلا بما يكفي كي نقلق من النتائج الخطيرة لتلويثنا بحارنا ومحيطاتنا، وإلى النظر فوق اليابسة طويلا بما يكفي كي نقلق من استهلاكنا موارد الطبيعة بجشع لا حدود له. يدعونا أيضا إلى التأمل في ما يمكن أن يكون عليه عالمنا إن تركنا هذا القدر من السلطة في يد عباقرة التكنولوجيات الرقمية، غير الناضجين إنسانيا في معظمهم، وفي ما يمكن أن تكون عليه ثقافتنا إن باتت قصصنا نتاج ذكاء اصطناعي من ابتكارهم. دعوة غايتها ليست فقط فتح أعيننا على المستقبل الوخيم الذي يتربص بنا، بل حثنا خصوصا على رؤية موقعنا الحقيقي داخل العالم، علّنا نتواضع ونغير سلوكنا قبل فوات الأوان. المزيد عن: الرأسمالية المعلوماتية الرأسمالية رواية ريتشارد باورز 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post السلطات السورية تتوصل إلى اتفاق حول دمج “قسد” ضمن مؤسسات الدولة next post بول سالم يكتب عن: ديناميتان تعيدان تشكيل الشرق الأوسط You may also like كيف يستوحي شعراء الحداثة أبعاد التراث الديني؟ 10 مارس، 2025 مهى سلطان تكتب عن : عبد الحميد بعلبكي... 10 مارس، 2025 “المنتفضون” لغوته… نظرة خارجية إلى الثورة الفرنسية 10 مارس، 2025 متخيل الصويرة المغربية في الرواية العالمية 10 مارس، 2025 “سينماتيك بيروت” يجدد الأمل بإنعاش مجتمع السينما في... 10 مارس، 2025 ثلاث مجموعات قصصية جديدة بتوقيع برادة والمديني والأشعري 10 مارس، 2025 ألف ليلة وليلة: قصة الكتاب الأكثر سحرا في... 10 مارس، 2025 لبنان: نجاة شرف الدين… أول «ناطقة باسم الرئيس» 10 مارس، 2025 ندى حطيط تكتب عن: «مشروع 25» وفيلسوف وراء... 10 مارس، 2025 كيف أصبحت صناعة الزجاج في العصر الإسلامي جسراً... 10 مارس، 2025