توماس مان (1875 - 1955): الذات مرة أخرى من خلال الآخر (غيتي) ثقافة و فنون توماس مان ومبدأ كتابة الذات من خلال الآخر by admin 21 أبريل، 2024 written by admin 21 أبريل، 2024 63 صاحب “يوسف وإخوته” وجد مجالاً لدراسة زمنه المتعب من خلال حياة ريتشارد فاغنر وآلامه اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب هو موضوع لا يتوقف المبدعون عن ترداده، ولا سيما منذ أدهشهم الروائي والسينمائي الفرنسي آلان روب غرييه، المعروف بموضوعية أدبه وابتعاده عن الذاتية كمبدأ في كتابته، فإذا به يكشف في واحد من آخر كتبه قبل رحيله عن أنه لم يكتب على أي حال سوى عن ذاته، مؤكداً أن جوهر الأدب ليس سوى لغة الذات مهما بدا بعيداً منها. ولعل في وسعنا هنا أن ننتقل إلى الكاتب الألماني الكبير توماس مان كي نتفحص ما إذا كان يمكنه هو الآخر أن يكون مثلاً صالحاً على هذه الفرضية، ولا سيما من خلال كتاب له كرس جزءاً، لافتاً منه لحياة مواطنه الموسيقي ريتشارد فاغنر. ونعرف أن توماس مان كان، بالطبع، واحداً من كبار الروائيين الألمان الذين عرفهم القرن الـ20، حتى وإن كان من الصعب تصنيف أدبه في خانة معينة. وهي صعوبة جعلت زميلته الفرنسية – البلجيكية مارغريت يورسنار تدعو ذات يوم إلى أن يبتكر له تصنيف خاص به، مضيفة “لن يكون في هذا الأمر أي غرابة على أي حال. ترى أوليست كل حال إبداعية حالاً خاصة. وأوليس كل تصنيف، في نهاية الأمر، بلادة ذهنية يلجأ إليها الأكاديميون الباحثون لإحلال عموميات سهلة محل خصوصيات تتطلب منهم عملاً؟”. الحقيقة أن توماس مان نفسه لم يكن أبداً بعيداً من رأي يورسنار، حتى وإن لم يفصح عن رأيه في هذا المجال بمثل وضوحها. ومهما يكن من أمر، فقد نشر مان، في أوقات متفرقة من حياته مقالات ودراسات تتفاوت طولاً، لكنها لا تتفاوت جودة، حول عدد لا بأس به من مبدعين آخرين. نعرف أنه كان مهتماً بالأدب، لكنه كان مهتماً أيضاً بالموسيقى والرسم والفلسفة. ولنضف إلى هذا، أنه لم يكن كذلك أقل اهتماماً بالسياسة، حتى وإن كان أخوه هاينريش لامه مرات ومرات على ما وجد لديه باكراً من حيادية إزاء النازية. ليس هذا موضوعنا هنا، ولكن لا بد أن نشير إلى أن تلك الحيادية، التي كانت نسبية على أي حال، لم تعش طويلاً لدى توماس مان، بل اختفت ما إن اكتشف هذا الأديب أخطار الفكر النازي فكتب وكان لكتاباته تأثير كبير. آلام الكبار مصدر عظمتهم؟ في النقد كتب توماس مان أيضاً. وكانت له مساهمات أساسية ومهمة. غير أن الدراسات الأبرز التي كتبها في هذا المجال، تظل محصورة في كتاب عنوانه “ألم المعلمين الكبار وعظمتهم” نشر في برلين سنة 1935، أي بعد عام من مبارحة الكاتب بلاده الألمانية سالكاً دروب المنفى هرباً من النازية. واللافت أن هذا الكتاب يضم، في ما يضم، دراسة عن رواية “دون كيخوته” لسرفانتس، كتبها مان فيما كان في الباخرة التي تقله إلى المنفى سنة 1934. غير أن الدراسة الأجمل والأعمق في هذا الكتاب تظل تلك التي كان توماس مان كتبها ونشرها لمناسبة ذكرى مرور 50 عاماً على رحيل فاغنر. وكان عنوان الدراسة التي كتبها مان في جامعة ميونيخ، وألقاها أول الأمر في صورة محاضرة “آلام ريتشارد فاغنر وعظمته”، مما يعني أنها هي التي أعارت عنوانها إلى الكتاب الشامل الذي ضمها لاحقاً مع دراسات أخرى. منذ البداية يبدو لنا واضحاً أن توماس مان، بمقدار ما كان يكتب في هذه الدراسة، عن ريتشارد فاغنر، كان يكتب عن نفسه وعن معاناته، ذلك أن العنصر الأساس في هذه الدراسة يبدو في صورة اعتراف من الكاتب بكيفية التواجه مع الإنسان والفنان فيه. بكلمات أخرى لا يكشف هذا النص فقط عن “كيف يمكن أو تجب مواجهة الفنان والإنسان فاغنر؟”، بل عن “لماذا أواجهه على هذا النحو؟”. من هنا، يبدو واضحاً أن مان، من خلال كتابته عن فاغنر، إنما كان يكتب عن ذاته أيضاً. إن فاغنر الذي يقدمه لنا توماس مان هنا، إنما يقدم بصفته “التعبير الفني والإنساني الأفضل عن القرن الـ19”. فهو في الوقت نفسه: عملاق ومتألم، أسطوري ومبتذل، فوضوي ورجعي، وطني وأوروبي، رومنطيقي وواقعي، معقد وملتبس… باختصار هو، في صورة أساس، مأسوي وشخصية مسرحية. إن ما يريد مان أن يؤكده لنا هنا ومن دون أي التباس، هو أن “فاغنر عبقري تمكن على رغم ذائقته المعلنة المتجهة صوب كل ما هو مغاير على طريقة تريستان (الشخصية المحورية في أوبراه “تريستان وايزولت”) تمكن من أن يجسد موسيقياً مفهوم الإرادة الذي كان شوبنهاور خير المعبرين عنه، وأن يعبر بتألق وعبقرية، عن ذلك الظمأ إلى الحب الذي كان شوبنهاور نفسه يعده مصدر الإرادة وحاضنها الطبيعي”. بالنسبة إلى توماس مان، “عرف فاغنر كيف يصالح في فنه الموسيقي، القوتين المتناقضتين: قوة الأسطورة وقوة علم النفس”. ريتشارد فاغنر (1813 – 1883): قناع متماسك لكاتب مرتعب (غيتي) برسم القارئ النبيه لا شك في أن القارئ النبيه لهذه السطور كما وردت بقلم توماس مان، سيجد نفسه من فوره مرغماً على أن يرى في هذا النص كله، تبريراً لمحاولة جمع “الأسطورة بعلم النفس” التي عبر عنها توماس مان بكل وضوح في رباعيته “يوسف وإخوته”. والقارئ إذ يجد نفسه مساقاً إلى هذه الفكرة، يستنتج بالتالي أن ريتشارد فاغنر في هذه الدراسة إنما هو قناع لتوماس مان، الذي لا يحاول في نصه سوى الحديث عن نفسه وتبرير كتابته تلك الرباعية. أما الذي يبقى لديه بعض الشكوك في هذا المجال، فإن عليه أن يتابع تحليل توماس مان لحياة فاغنر و”آلامه” ونتاجات فنه. إذ بعد ذلك يصل مان إلى نقطة جوهرية أخرى، إذ يتابع تحليله منتقداً بعض “تلكؤ يجده لدى فاغنر تجاه كل فن من الفنون” مع أنه لا يتوانى على الدوام عن ترسيخ ما يسميه مان بتوليفة معينة تتعلق بهذه الفنون وبالعلاقة القائمة في ما بينها. ومن الجلي أن ما يريد مان أن ينبه قراءه إليه هنا إنما هو محاولاته الخاصة لتوضيح العلاقة بين الفنون والقول إنه، إن كان ممكناً ومنطقياً وضع توليفات ما تتعلق بكل فن، فإن الأفضل أيضاً إقامة العلاقات بين هذه التوليفات، ما يعني أنه هو، توماس مان، يرسم مثل هذه العلاقات، ليس في أبعاد نظرية فحسب، بل كذلك في بنى عملية، بحيث يصبح كل فن من الفنون مندمجاً في صلب الفنون الأخرى. إن ما يشكل نقيصة لدى فاغنر، في رأي مان، يكفي القارئ أن يلتفت إلى نتاجات هذا الأخير ليجده ماثلاً. وفي هذا السياق نفسه تمكن المتابعة، مع دارسي تلك العلاقة الغريبة بين فاغنر ومان، والتي عبر عنها هذا الأخير في هذا النص المدهش: إن توماس مان، الأمين دائماً لمبدأ تبجيل العالم البورجوازي الذي لم يكف أبداً عن وصفه والثناء عليه – بل حتى النواح على اختفائه، في أعماله – يهتم هنا بأن يحدثنا عن الكيفية التي بها انكب ريتشارد فاغنر الذي كان ثورياً حقيقياً في سنة 1848، على كتابة أعمال بورجوازية، مع أن تلك الثورة إنما قامت أصلاً كي تندد بعيوب البورجوازية. سر مخاوف فاغنر ويقول لنا مان هنا إن خوف فاغنر من انسداد الأفق البورجوازي، إنما يجد التعبير عنه في تشاؤميته الشوبنهاورية الواضحة. لقد حارب فاغنر، في رأي مان، ما كان يخشى زواله. ترى، أفلم تكن هذه حال توماس مان نفسه… في مجمل أعماله؟ أولم تكن هذه حاله، بخاصة في روايته الكبرى “آل بودنبروك”؟ إن الإجابة الصادقة عن هذه الأسئلة إنما تضعنا في صلب ما نسميه عادة “لغة الذات”، بحيث نجد أن الكاتب الكبير، أي كاتب كبير، إنما يكتب في نهاية الأمر عن نفسه، مؤيداً أو منتقداً أو مبرراً أو مفسراً، حتى ولو كانت كتابته تبدو موضوعية إلى الحدود القصوى. ولم يكن منطقياً أن يشذ عن هذه القاعدة كاتب مثل توماس مان (1875 – 1955)، كان حين كتب دراسته عن فاغنر يعيش أعمق لحظات تمزقه بين عالمين: عالم مثل عليا كان يراه يختفي أمام عينيه تحت وقع حوافر خيول الحثالة الفاشية النازية، وعالم جديد يولد من رحم تلك الحثالة. ولئن كان توماس مان عبر، إبداعياً، عن ذلك التمزق في معظم أعماله، فها هو هنا في هذا النص عن فاغنر، يعبر عنه من خلال كتابته عن فنان كان يرى فيه – أيضاً – مثلاً أعلى. المزيد عن: توماس مانآلان روب غرييهريتشارد فاغنرآرثر شوبنهاور 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post عندما تولد الفضيحة بعد الموت next post توضيح من وزير الهجرة بشأن اعتقال أجانب في السجون في قضايا هجرة You may also like فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم... 24 نوفمبر، 2024 قصة الباحثين عن الحرية على طريق جون ميلتون 24 نوفمبر، 2024 عندما يصبح دونالد ترمب عنوانا لعملية تجسس 24 نوفمبر، 2024 الجزائري بوعلام صنصال يقبع في السجن وكتاب جديد... 24 نوفمبر، 2024 متى تترجل الفلسفة من برجها العاجي؟ 24 نوفمبر، 2024 أليخاندرا بيثارنيك… محو الحدود بين الحياة والقصيدة 24 نوفمبر، 2024 مهى سلطان تكتب عن: الرسام اللبناني رضوان الشهال... 24 نوفمبر، 2024 فيلمان فرنسيان يخوضان الحياة الفتية بين الضاحية والريف 24 نوفمبر، 2024 مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024