بأقلامهم حازم صاغية يكتب : عن الوعي السهل والوعي الصعب في أزمنة الحروب… by admin 8 أبريل، 2024 written by admin 8 أبريل، 2024 144 من مصادر الصعوبة في الوعي الصعب أنّ صاحبه، وهو يرى الشياطين في جبهة الأعداء، يفكّر أيضاً بالشياطين التي في داخله وداخل أهله. ففعل النقد والنقض، عنده، فعل نقد ونقض ذاتيّين أيضاً. و الشرق الاوسط / حازم صاغية مثقف وكاتب لبناني؛ بدأ الكتابة الصحافية عام 1974 في جريدة «السفير»، ثم، منذ 1989، في جريدة «الحياة»، ومنذ أواسط 2019 يكتب في «الشرق الأوسط». في هذه الغضون كتب لبعض الصحف والمواقع الإلكترونية، كما أصدر عدداً من الكتب التي تدور حول السياسة والثقافة السياسية في لبنان والمشرق العربي. يستلهم صاحبُ الوعي السهل الجنديَّ أو المقاتل. فهو مثله، قطعة واحدة منسجمة لا التواءات فيها. يقيم في متراسه ويعرف ما يستهدفه: إنّه عدوّ ماثل أمامه. لهذا فهو حين يفكّر يكون يخوض المعركة أو يستأنف الحرب. وكلّ وعي صافٍ، قوميّاً كان أو دينيّاً، قَبَليّاً أو طبقيّاً، يفكّر هكذا، «يفكّر» بمعنى «يقاتل». قد تنشأ ظروف معيّنة غير ملائمة لحربه تدفعه إلى عقد هدنة أو اعتماد تكتيك مداوِر، إلاّ أنّه يعود، بعد ذاك الفاصل الزمنيّ والحربيّ، إلى حيث كان في المتراس. استراحته الوحيدة استراحة المحارب. مقابل هذا الوعي السهل، المتجانس والصخريّ، ثمّة وعي صعب تتأتّى صعوبته من كونه ممزّقاً ومتفاوتاً، مُحيّراً ومتردّداً، عواطفُه تتضارب في إيقاع سريع أقوى ثوابته كراهية القتل، وعقله يجد ملاذه في المختبر، يجمع ويطرح ويركّب ويقارن ويراجع. والوعيان يختلفان حيال الزمن. فالوعي الصعب يهتمّ بالماضي بوصفه سبباً بعيداً، متعدّد الطبقات والمصادر، لكنّه أيضاً يهتمّ بالمستقبل وباحتمال أن تكون له قدرة على تجاوز البؤس الحاضر. أمّا صاحب الوعي السهل فتستحوذ عليه اللحظة الداهمة، لا يهمّه من الماضي إلاّ ما أنذر بحدوثها، بالمعنى الذي تقوله الأساطير عن إشارات الطبيعة، ولا يستوقفه المستقبل بوصفه احتمال وعد، أو شيئاً قابلاً لأن يحوّله تدخّلٌ إنسانيّ ما إلى وعد. نشيده «الآن الآن وليس غداً». وهما يختلفان في تصوّر المكان وتصويره. فللوعي السهل يلوح المكان أقرب إلى سهل يشاركه السهولة، وعلى امتداد السهل تنقشع رؤية لا يشوبها غموض، لكنّ خطّاً حادّ الترسيم يفصل بين جزئي السهل المتحاربين. أمّا للوعي الصعب فالمكان جبل مليء بالتضاريس، تتخلّله الكهوف والمغاور، ووحده المجهول يكمن وراءه، فيما صعوده هو الهبوط مقلوباً، والعكس بالعكس. والوعي الصعب تعيس. فهو يُزَجّ في الحرب كما لو كانت زيجةً مُدبّرة وقسريّة. وهو مُطالَب بأن يفرح ويحتفل بشيء يمقته، شيءٍ لا يكاد يرزح تحته حتّى يروح يتخيّل نهايته ويتمنّاها. أمّا الوعي السهل فوعي سعيد يرى في الحرب زيجة أنجبها الهيام والشغف. إنّها لحظة انتُظرت طويلاً، ولطالما سبق التدرّب عليها وعلى قيمها الممدوحة، كالبطولة والشهادة. والوعي هذا يفضّل لو أنّ تلك اللحظة تمكث معنا فتغدو طريقة حياة ومنطق تبادُل شامل. كذلك تنهل سعادة السعيد من شعوره بأنّ الحرب تجمعه بأهله وتجمع أهله به، هم الذين ورث عنهم، أو ظنّ أنّه ورث عنهم، معظم ما صار عليه قناعاتٍ وأفكاراً. وهم، في حبّهم العيش بالسيف، يردّون لابنهم دَين إقراره بهم فيرفعونه موضعَ افتخار ودليلَ أصالة. أمّا تعاسة التعيس فيعزّزها الشعور بالاختلاف عن الأهل والانكفاء عن حماستهم المفترضة. لهذا يُصوَّر صاحب الوعي الصعب صعلوكاً لفظتْه القبيلة، ويُستمع إلى كلامه كأنّه هذيان، فيما لا يكفّ اختلافه عن إثارة القلق والريبة. وإذ يميل الوعي السهل إلى اللغة الحربيّة، يميل الوعي الصعب إلى اللغة السياسيّة التي تُصالحه مع أهله بعد قطيعة وتؤكّد، من جهة أخرى، أنّ الحرب انتهت. وبالمعنى نفسه، يلوح التاريخ للأوّل ملحمةً تضجّ لوحاتها بالبطولات ولا تنتهي إلاّ بانتصار ماحق يمهّد لمعركة أخرى يتلوها انتصار لاحق. وبدوره فإنّ الثاني، الصعب والتعيس، يرى إلى التاريخ بوصفه روايةً يخسر فيها الكلّ وتكون نهايتها مأزقاً وانسداداً جديدين هما من أحوال الدنيا. ومن مصادر السهولة في الوعي السهل أنّ صاحبه يملك كلّ الحقّ، وكلّ الخير والجمال، وأنّ المظلوميّة حكر عليه، بينما من يحاربونه مجموعة سلب خالص. وهو مسبقاً عارفٌ تمّت له المعرفة، صُلْبٌ في ماهويّة تحدّد له الفضيلة والرذيلة الأبديّتين. والماهويّةُ لا يفاجئها جديد ولا تجدّ عليها مفاجأة أو صدفة أو حتّى حركة، فكلّ ما يحمله الغيب عودٌ على بدء أو خِدَع وحِيَل ظاهرها غير الباطن. لكنّ من مصادر الصعوبة في الوعي الصعب أنّ صاحبه، وهو يرى الشياطين في جبهة الأعداء، يفكّر أيضاً بالشياطين التي في داخله وداخل أهله. ففعل النقد والنقض، عنده، فعل نقد ونقض ذاتيّين أيضاً. وبدل أن يحصر تفكيره في مكان بعينه، هو ساحة المعركة وظلالها المباشرة، يحاول أن يمدّ نظرته إلى أمكنة كثيرة أخرى، مرئيّة أو غير مرئيّة، تكيّفها الحرب. بيد أنّ هواجسه تقوده إلى تساؤلات عن العنف والبشر وما تنطوي النفس عليه. هكذا نراه يطالب بارتفاع كلّ الأصوات، علّنا نقع على فكرة أو اقتراح أو تأمّل، مقابل رغبة الوعي البسيط في إسكات سائر الأصوات لأنّ الأمور واضحة ومعروفة، والمعرفةُ التي تزيد عن اللازم تُربك وتشتّت. فإذا سأل الوعي الصعب، وهو وعي مثقل بالأسئلة: ما الذي ينبغي فعله، أجابه الوعي البسيط، المُتخم بالأجوبة: قاتلْ واصمت. ولماذا السؤال، بل لماذا الكلام، طالما كلّنا أخصّائيّون في وصف العدوّ، نصفُه ملايين المرّات فنقتل المفاجأة ونسهّل التوقّع لكنّنا، مع هذا، نستمرّ في الوصف الذي لا يضيف إلاّ تبديل مواضع النقاط والفواصل في نصّ مقدّس. فالعبارة تضيق بالتعارض والتفاوت، ولا تتّسع إلاّ لقول بسيط لا يلبث أن ينحسر إلى إيماءة وجه أو غمزة عين. وفي أغلب الظنّ سوف نمضي على هذا النحو، مقدامين راسخين، إلى قيام الساعة. 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post التغذية الحدسية… دعوة إلى الثقة بالجسد next post الجيش الإسرائيلي يقيم «خط بارليف» على حدود لبنان You may also like رضوان السيد يكتب عن: ماذا جرى في «المدينة... 15 نوفمبر، 2024 عبد الرحمن الراشد يكتب عن: ترمب ومشروع تغيير... 15 نوفمبر، 2024 منير الربيع يكتب عن..لبنان: معركة الـ1701 أم حرب... 15 نوفمبر، 2024 حميد رضا عزيزي يكتب عن: هل يتماشى شرق... 15 نوفمبر، 2024 سايمون هندرسون يكتب عن.. زعماء الخليج: “مرحبًا بعودتك... 15 نوفمبر، 2024 الانتخابات الأمريكية 2024: وجهات نظر من الشرق الأوسط 15 نوفمبر، 2024 نادية شادلو تكتب عن: كيف يمكن لأميركا استعادة... 14 نوفمبر، 2024 جهاد الزين يكتب من بيروت عن: تأملات ثقافية... 12 نوفمبر، 2024 نبيل فهمي يكتب عن: وماذا بعد؟ 12 نوفمبر، 2024 ماري ديجيفسكي تكتب عن: لماذا تفادى الناخبون الأميركيون... 12 نوفمبر، 2024