الدكتور نزار الصياد الأستاذ بجامعة كاليفورنيا بيركلي ثقافة و فنون من دفاتر نزار الصيّاد وشغفه… حكاية “القاهرة مؤرّخة” وقاهرات أخرى by admin 17 ديسمبر، 2023 written by admin 17 ديسمبر، 2023 485 النهار العربي/ القاهرة – عبدالحليم حفينة في مدرسة ابتدائية بولاية أوكلاهوما بالجنوب الغربي، تفتحت أعين الطفل الصغير على أميركا، أحاطته حينها عناية أقرانه واهتمامهم؛ إذ كان اختلافه العرقي محط إعجاب البعض، وربما غيرة آخرين. لكنه في العموم كان سعيداً للغاية بالحياة الجديدة، ولم يستوعب العنصرية التي اشتهرت بها الولاية الجنوبية آنذاك. هذا الطفل المعجب بالمجتمع الأميركي في مطلع ستينات القرن الماضي، هو اليوم الدكتور نزار الصياد، أستاذ العمارة والتاريخ العمرانيّ في جامعة كاليفورنيا بيركلي. عمل لمدة عقدين رئيساً لمركز دراسات الشرق الأوسط (CMES)، وهو أيضاً قائد مشروع كتاب “القاهرة مؤرخة”، الصادر أخيراً عن “دار العين للنشر”، والذي أحدث زخماً كبيراً هذه الأيّام في أوساط المهتمين بتاريخ القاهرة. في عمر السابعة تقريباً، قادت الأقدار الصيّاد ليكون في صحبة والده الجغرافي المصري الشهير، الدكتور محمد محمود الصياد، عندما عمل وقتذاك أستاذاً زائراً في جامعة أوكلاهوما. كانت هذه هي رحلة الصيّاد الإبن الأولى للولايات المتحدة، حيث استمرت إقامته لعامين فقط، لكنها كانت بالغة الأثر في حياته الثرية بالمنجزات الأكاديمية والعلمية. في حوار شيق، يروي الدكتور نزار الصيّاد لـ”النهار العربي” حكايته مع القاهرة، التي يراها “قاهرات” عدة؛ إذ مرت علاقته بالمدينة بمحطات عدة، بداية من الانبهار في مطلع الشباب، مروراً بتطورات متلاحقة حيال نظرته إليها، وصولاً إلى المجيء إليها أخيراً، وقيادة حركة تأريخ جماعية، شُيّدت على عماد من عمل جماعي، يضم صفوة من الأكاديميين والباحثين المهتمين بالتراث القاهري. غلاف كتاب “القاهرة مؤرخة” انبهار بالقاهرة يقول الصيّاد إنّ رحلة الطفولة الأولى إلى الولايات المتحدة شكّلت تحولاً كبيراً في حياته؛ ففي سن صغيرة فتنته الحياة الأميركية، وأحب اللغة الإنكليزية، ثم أجادها بطلاقة في ما بعد خلال دراسته بمدرسة إنكليزية في مصر، فشغله مبكراً الحلم الأميركي، إذ كان دائماً ما يخبر أصدقاءه أنه سيسافر حتماً إلى الولايات المتحدة. لم يتعطل الحلم، وجرت الرياح بما تشتهي السفن، فبمجرد حصوله على بكالوريوس الهندسة المعمارية، وتعيينه معيداً بجامعة القاهرة، حصل على منحة لدراسة الماجستير في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بالولايات المتحدة. وبعد أسبوع واحد من نهاية الخدمة العسكرية، استقلّ الطائرة يوم 7 آب (أغسطس) عام 1979، وقطع المحيط نحو أميركا؛ ليبدأ رحلة علمية وإنسانية ثرية للغاية. ورغم أن الصيّاد قد غادر القاهرة مبكراً، إلا أن المدينة العتيقة لم تغادره أبداً، فكانت حاضرة دوماً في أميركا، بداية من إعداد أطروحة الماجستير التي صاغها في كتاب، وهو لم يتجاوز عمر الخامسة والعشرين، فأصدر كتابه الأول عن القاهرة تحت عنوان: “شوارع القاهرة الإسلامية”، ونُشر عام 1981 عن برنامج الآغا خان، ودار نشر معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في كامبردج. يقول الصيّاد: “في هذه المرحلة المبكرة من عمري، كنت لا أزال أعيش حالة انبهار بمدينة القاهرة، وعموماً كان لديّ اهتمام كبير بالمدن وتاريخها، نتيجة تأثري بمهنة والدي، وبمكتبته الجغرافية العامرة بأمهات الكتب، ومن هذا المنطلق تشكَّل شغفي الأول بالقاهرة”. تخرج الصياد من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا عام 1981 واقعية الرؤية عقب حصوله على درجة الماجستير في العمارة، عمل الصيّاد مهندساً معمارياً في الولايات المتحدة لوقت وجيز، قبل أن يلتحق عام 1981 بوظيفة جديدة في المملكة العربية السعودية؛ حيث عمل مدرساً مساعداً بكلية تصاميم البيئة الحديثة النشأة. في أثناء عمله الأكاديمي الجديد، ثمّة واقعة غيرت نظرة الصيّاد لمدينة القاهرة، وربما غيرت مجرى حياته أيضاً؛ إذ طُلب منه إعداد محاضرة عن تاريخ المدن الإسلامية، وأثناء الإعداد للمحاضرة، قارن خرائط المدن الإسلامية، واكتشف أنّ ثمّة نمطاً معمارياً للمدن الإسلامية، يتعلق بنوع المدينة، وطبيعة نشأتها وتوقيتها، ومن هنا رأى أن مصطلح “المدن الإسلامية” لا ينطوي على الدقة الكافية. يقول: “في هذه الآونة كان ثمة اتجاه صاعد يتبنى استخدام مصطلح “المدينة الإسلامية” في الكتب والمؤتمرات العلمية، لكن بالنظر إلى النمط المعماري لهذه المدن التي قارنتها بعضها ببعض، لا نستطيع أن نقول مثلاً إن مدينة مثل دمشق “مدينة إسلامية”، كونها رومانية النشأة والثقافة، وكذلك الحال مع حلب، كما أن مدينتي القاهرة وبغداد كانتا مجرد قصور خلافية في بداية النشأة، وظلتا هكذا طويلاً قبل أن تتحولا لمدينتين، إلى جانب أن الكوفة والبصرة كانتا معسكرات للمحاربين العرب القادمين لغزو بلاد فارس”. عبر هذا الطرح أيضاً، نفى الصيّاد مركزية المسجد، مشيراً إلى أن المسجد نُحّيَ إلى الهامش مع تطور أنظمة الحكم السياسية لدى المسلمين، التي تحولت مع الوقت إلى أنظمة إمبراطورية بالأساس. صاغ الكاتب هذا الطرح في مقالة علمية نشرها في دورية علمية بالولايات المتحدة. وللمفارقة كانت المقالة مدخلاً لإعداد أطروحة الدكتوراه بعد عامين، إذ قرأها سبيرو كوستوف، المؤرخ المعماري الشهير، والأستاذ بجامعة كاليفورنيا بيركلي، وعرض عليه إعداد الدكتوراه في الجامعة، مقترحاً أن تكون هذه المقالة هي موضوع الأطروحة. بالفعل عاد الصيّاد من السعودية إلى جامعة كاليفورنيا بيركلي، وعلى مدار ثلاث سنوات عكف على دراسة الدكتوراه، وإلى جانبها، التحق بوظيفة جزئية كمحاضر بالجامعة. يقول موضحاً: “أثناء إعداد أطروحة الدكتوراه، كانت عيني على أن تكون مادة الأطروحة صالحة لتصير كتاباً”، وبالفعل صدر الكتاب عام 1991 بعنوان: ”Cities and Caliphs: On the Genesis of Arab Muslim Urbanism” أو “مدن وخلفاء: عن نشأة وتطور العمران العربي الإسلامي”. مثّل الكتاب زاوية رؤية جديدة للقاهرة، اتّسمت بالموضوعية، إذ اعتبر الصيّاد أن مرحلة الانبهار لديه بالمدينة العتيقة قد انتهت، فقدم الكتاب القاهرة الفاطمية في صورة مختلفة عن الدارج، فوصفها باعتبارها مجمعاً ملكياً شبه استعماري، منفصلاً عن حياة معظم المصريين الذين عاشوا في مدينة الفسطاط. كَلّلَ الصياد جهده البحثي عن القاهرة في حقبة التسعينات، بإنتاج محاكاة بصرية للقاهرة الفاطمية ترصد التغيرات التي حدثت من نهاية العصر الفاطمي وحتى بداية العصر العثماني، وتُبيّن المدينة من أعلى، ومن منظور الإنسان الذي يمشي في شوارعها. وقد استخدمت هذه المحاكاة بعد سنوات عدة لإخراج فيلم وثائقي للتلفزيون الأميركي العام، أظهر التطورات التي طرأت على مدينة القرون الوسطى عبر 500 عام. بعد إصدار هذا الكتاب المهم في مطلع التسعينات، لم يتوقف الصياد عن التأليف في مجال التأريخ العمراني، لكنه لم يتناول القاهرة في كتاب منفرد. كان يفكر دائماً في أن الاضطلاع بهذه المهمة أمر يصعب الإقدام عليه، لكنه أخيراً قرر العمل على كتاب Cairo: Histories of a City “القاهرة: تواريخ مدينة”، وصدر قبل أيّام من ثورة 25 كانون الثاني (يناير) 2011، وللمفارقة تناول الفصل الأخير منه تاريخ ميدان التحرير. ومع أن الكتاب ترجم للعربية عام 2017، إلّا أن الكاتب أعاد صياغته، وخرج للنور في ثوب جديد عام 2022 تحت عنوان: “القاهرة وعمرانها… تواريخ وحكام وأماكن”. الصيّاد وفي خلفيته ميدان طلعت حرب وسط القاهرة الخديوية تأريخ جماعي اللافت في مسيرة الدكتور نزار الصيّاد قيادته لحركة تأريخ جماعية أخيراً، اشتغل خلالها على توثيق تاريخ مدينة القاهرة من جوانب عدة، وأشرك فيها عدداً من الأكاديميين والباحثين، فضلاً عن المنشغلين بإرث المدينة. الصياد الذي أتى من بيئة علمية راسخة، انتهج ثقافة العمل الجماعي، وفرض قواعد المنهج العلمي للخروج بمنتج رصين ومتناغم، إذ أعدّ حلقات نقاشية للباحثين المشاركين في كتبه، لا سيّما من لم يتدربوا على الكتابة العلمية، وأدار على مدار سنوات ورش عمل تستعرض جهود الباحثين، وتناقش الأفكار والرؤى بصورة جماعية، حتى أثمرت هذه الجهود كتابين. الدكتور نزار الصيّاد رفقة بعض الكتّاب المشاركين في كتاب “القاهرة مؤرخة” تمثلت الثمرة الأولى في كتاب “القاهرة سينمائية”، الصادر عام 2022، الذي وثق تاريخ القاهرة من واقع السينما، شارك في إعداده 16 كاتباً وطالب دراسات عليا، وأشرف عليهم الصياد، رفقة الدكتورة هبة صفي الدين. واللافت أنّ هذا الكتاب جاء أشبه بعملية تمصير لكتاب الصياد نفسه الصادر بالإنكليزية “Cinematic urbanism”، والذي عرض تاريخ المدن من خلال عدسة السينما. الثمرة الثانية جاءت هذا الخريف، مع الإعلان عن كتاب “القاهرة مؤرخة”، بجزءيه الأول والثاني، والذي شارك في إعداده 21 أكاديمياً وباحثاً يشملهم جميعاً الشغف بتاريخ القاهرة؛ ويعد هذا الكتاب تمصيراً أيضاً لكتاب بالإنكليزية جمع فيه الصياد نخبة من الأكاديميين المرموقين. فكَّكَ الجزء الأول من كتاب “القاهرة مؤرخة”، مدينة القاهرة التي نعرفها اليوم إلى “قاهرات” عدة، فاستعرض الفسطاط، والقطائع، والقاهرة الفاطمية، ثم بصمة المماليك والعثمانيين من بعدهم على القاهرة، وحال المدينة في العصر الحديث. كما ناقش الكتاب التوسع العمراني، وأثر العاصمة الإدارية الجديدة على جغرافية المدينة، وناقش أيضاً أوجهاً مختلفة للقاهرة، مثل شكل حياة المسيحيين في عصر المماليك، وطبيعة تأمين المدينة في القرن التاسع عشر، وكذلك تاريخ التنقل في القاهرة. الجزء الثاني من الكتاب، اتخذ بعداً آخر يميل إلى التنقيب عن القاهرة في شتى أنواع الآداب والفنون، فتجد فصلاً يتناول أقدم الصور المعروفة عن القاهرة وآثارها الإسلامية، وجانباً آخر يستعرض أوجهاً مختلفة للمدينة في كتابات أدباء ورحالة ودبلوماسيين أوروبيين، فضلاً عن استعراض قاهرة الأولياء في المخيلة الشعبية. إحدى الصور التي ضمها الكتاب (للمصور: كريم بدر) لا يتوقف الدكتور الصياد عن الحركة الدؤوبة، ففي الوقت الذي انتهى فيه من الإعلان عن كتاب “القاهرة مؤرخة”، تدور عدسات الكاميرات بسرعة، في مسعى جديد ومختلف لإنتاج فيلم تسجيلي جديد عن المدينة، وبالتوازي يعكف على تأليف كتاب آخر يتضمن توثيق رحلاته لمدة عام في دول حوض النيل. يقول الصيّاد مختتماً حديثه لـ”النهار العربي”: “لديّ هدفان رئيسان من كل هذه الأنشطة؛ الأول هو إعادة صياغة ما كتبته في مجال العمران، وتبسيطه، حتى يصبح مستساغاً للعامة من غير المتخصصين، أمّا الهدف الآخر فيتمثل في نقل كل ما تعلمته وما كتبت عنه إلى الجيل الجديد من المؤرخين، والعمرانيين، والمعماريين. لعل هذا يؤدي إلى إثراء المكتبة العربية، وابتكار منهجية بحثية جادة، تركز على جودة الأسئلة التي نسألها، وليس فقط على محاولتنا صنع إجابات حقيقية وعميقة”. المزيد عن: مصر القاهرة الدكتور نزار الصياد كتب القاهرة المؤرخة كتاب القاهرة مؤرخة 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post Weather statement calls for another round of wind, rain in Nova Scotia next post مهى سلطان تكتب عن : معرض لرائدَي الفن في لبنان: مصطفى فرّوخ وعمر الأنسي You may also like بودلير وهيغو… لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم... 27 نوفمبر، 2024 شوقي بزيع يكتب عن: شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد... 27 نوفمبر، 2024 محمود الزيباوي يكتب عن: ماجان القديمة …أسرارٌ ورجلٌ... 27 نوفمبر، 2024 «سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد 27 نوفمبر، 2024 محمد خيي ممثل مغربي يواصل تألقه عربيا 27 نوفمبر، 2024 3 جرائم سياسية حملت اسم “إعدامات” في التاريخ... 27 نوفمبر، 2024 سامر أبوهواش يكتب عن: “المادة” لكورالي فارغيت… صرخة... 25 نوفمبر، 2024 محامي الكاتب صنصال يؤكد الحرص على “احترام حقه... 25 نوفمبر، 2024 مرسيدس تريد أن تكون روائية بيدين ملطختين بدم... 25 نوفمبر، 2024 تشرشل ونزاعه بين ثلاثة أنشطة خلال مساره 25 نوفمبر، 2024