الأحد, نوفمبر 24, 2024
الأحد, نوفمبر 24, 2024
Home » مهى سلطان تكتب عن : حليم جرداق في ذكراه الثّالثة… قطوفٌ من ثمرات التّجارب

مهى سلطان تكتب عن : حليم جرداق في ذكراه الثّالثة… قطوفٌ من ثمرات التّجارب

by admin

 

ليس من السهل الإحاطة بفن حليم جرداق، فهو في هذا المعرض يتجلى كشاعر أشكال، وكرسام وملوِّن لعوالم الفرح والقلق والطمأنينة. فكان الوحيد بين فناني جيله الذي عرَف كيف يظل طفلاً لعوباً ومثقفاً وكاتباً حكيماً وبدائياً حقيقياً وغرائبياً في ممارسة طقوس الفن كحالة شعرية

 بيروت- النهار العربي / مهى سلطان

في الذكرى السنوية الثالثة لرحيل الفنان حليم جرداق (1927- 2020)، يقيم متحف نابو في الهري – شمالي لبنان – معرضاً لمختارات متنوعة من رسومه بالأقلام الملونة والباستيل والمائيات والزيتيات، فضلاً عن أعمال الكولاج والحفر، ونماذج من أروع أعماله في المحفورات النحاسية والصفائح المعدنية المطعجة وقاماته التي تزيّح الفضاء بخطوط من أسلاك دقيقة.

الفنان حليم جرداق في محترفه

يترافق المعرض (يستمر حتى حزيران/ يونيو 2024) مع إصدار ثلاثة كتب من مؤلفاته الشعرية والفنية والفلسفية، منها ما يُنشر للمرة الأولى، وهي “كل الأيام أعياد: ثلاثة أصوات في 40 مشهداً” و”عين الرضا” و”أفراح الضوء”.

رسام وحفّار ومفكر وكاتب يُعتبر من طليعة فناني جيل الحداثة، عُرف بأنه مجدّد لفن الغرافور سابقاً لعصره في اختبار مختلف التقنيات والخامات، فكان من أكثر المحدثين جرأة ومغامرة في السطو على الخيال الآتي من عبقرية الطفولة وسحرها ومن قوة الانفعالات الخطوطية واندفاعاتها. لم يكتف بمساحة القماش وصفائح المعدن والورق، بل راح يرسم أشكاله وزيوحه في الفضاء بأسلاك معدنية بعدما أخرج جنيّاته من كهوفها وجعلها تستسلم لبداهة يديه وقريحته في الارتجال.

كان يمكن أن يتوسع المعرض (وهو الأول بعد رحيله) كي يأخذ طابعاً استعادياً، لكنه اقتصر على مقتنيات المتحف وقوامها سبعون عملاً، تكشف عن منعطفات بارزة من مساره الفني، كما يلقي الضوء على محطات من ينابيع عوالمه الاختبارية، يعود أقدمها إلى مرحلة الدراسة الأكاديمية في بيروت (1953-1956) وتتمثل بمجموعة من اللوحات الزيتية التي رسمها بالأسلوب التكعيبي لتيمة المرأة الجالسة، فضلاً عن مختارات من المحفورات والرسوم واللوحات التي تعكس شغفه بالتجريد في المرحلة الباريسية (1957-1965)، منذ التحاقه بالمدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة في باريس عام 1957، كما تعكس المنطلقات الأولى لشغفه بعالم الخطوط والأشكال والموديل العاري.

تكوين من نحاس مطروق من أعمال عام 1994

 

الزيح كصوت والزّيح كحلم

يتذكر حليم جرداق أنه عندما ذهب إلى باريس في عام 1957، كان منفتحاً تلقائياً على فنون الحداثة، كما لو أن هناك رابطاً خفياً يجذبه إليها، وجعله بالتالي يتفهم أسرارها خلال سنوات الدراسة في محترفَي أندريه لوت وهنري غوتز (في أكاديمية الغراند شوميير). فاكتسب من الأول طاقة التلوين ومن الثاني طاقة التعبير، لكنه تفوّق في فن الحفر الطباعي على النحاس، ما أهّله لنيل الجائزة الأولى للحفر في المدرسة الوطنية العليا في باريس (1961).

اختبر جرداق الوحشية والتكعيبية والسوريالية، ثم التعبيرية والتجريد، وصولاً إلى الكوبرا COBRA التي اختصرت كل فنون القرن العشرين، في عودتها إلى عبقرية التلقائية من خلال المزج ما بين الفن واللعب.

هذا بالإضافة إلى اكتشاف الخامات والمواد والتقنيات وأشكال التعبير الحرّ في فن الطفولة والفنون الشعبية والبدائية.

عقد جرداق في حينها صداقات مع بعض فناني الكوبرا، الذين أعجبوا بفنه، ما زاده يقيناً بقدرته على إطلاق العنان للفضاء الحلمي الذي يمتلكه واكتشاف الينابيع الفوارة لحدْسِه وبواطن قريحته، والطبيعة الأصيلة الصحيحة لثقافة الزيح واللطخة اللونية المنبثقة من منطلقاتها الشعورية العفوية واللاواعية.

منذ عودته إلى بيروت عام 1966 استطاع حليم جرداق أن يتبوّأ سريعاً مكانته المرموقة في مشهدية الحداثة التي ظهرت كحركة ثورية رائدة، انطلقت بوادرها مع مجموعة من الأدباء والفنانين والشعراء المجددين. في تلك المرحلة حملت رسومه مناخات شعرية في مقارباتها لمسائل التعبير الحر بين الخيال والارتجال، وصفها جرداق بأنها “أثلام الذاكرة” المليئة بالسحر والغموض، ونشرها في مجلة “مواقف” التي أنشأها أدونيس، كما شكلت رسومه الغرائبية ذات الطابع الشرقي، مناخات معرضه الذي أقامه عام 1967 في “غاليري وان” التي أنشأتها هيلين الخال (منذ عام 1963).

وصف أنسي الحاج أعمال تلك المرحلة معتبراً أن “أهمية حليم جرداق لا تكمن في ألوانه العادية بقدر ما تكمن في خطوطه”.

عن تلك المرحلة يقول جرداق: «صرت أحس كأني أستفيق على شيء كنت قد نسيته. صرت أتحرر من التعامل مع الأشياء وفق الرؤية المعتادة والمتفق عليها، وصار يتراءى لي واقعٌ آخر يولد في أحضان العالم الفني الجديد». هكذا اكتشف جرداق طاقة الحرية المرتبطة بالتراث الخفائي للطخاته اللونية وزيوحه وأشكاله التي تنم عن دخائلها المشرقية، وبالتالي أخذت تمارين رسومه التي كانت تحمل مسحة سوريالية وتعبيرية وتجريدية، تتحول كي ترتد إلى أصواتها الداخلية، وتعود مادة لهبيّة سديمية تعطي نفسها من جديد إلى نزوات التخطيطات السريعة للفنان وقواه اللونية الابتكارية المتفاعلة مع الحياة والكون.

كان جرداق صديقاً حميماً لكوكبة من الشعراء أبرزهم: خليل حاوي وأدونيس وأنسي الحاج وجورج شحادة، وقد ساهم الأخير مع زوجته بريجيت شحادة في تنظيم معرض له في غاليري سنتر دار (عام 1973)، حيث عرض للمرة الأولى الصفائح النحاسية التي لم يسبق أن شاهدتها بيروت من قبل في المعارض الفنية، فقدّمها كأعمالٍ فنية بحد ذاتها وليست كوسائط طباعية. معتبِراً حينها أن تجاربه الفنية: «تعكس فلسفة لغة الأشكال، التي تخاطب أعماق النفس البشرية، أي لغة الحركة الشعرية القادمة من “قصيدة الأزياح”، أي الزيح كصوت والزيح كحلم».

حليم جرداق – لغة الأشكال – أسلاك معدنية ومواد مختلفة

 

الرسم موسيقى من نوع آخر

تتميز من بين المعروضات مرحلة رسوم “الأنوثة الخالدة”، التي قدمها حليم جرداق في سلسلة معارض أقامها في غاليري دامو (1982 – 1986)، وكذلك في غاليري رانكونتر الذي أقيم بعنوان “الموديل في دفتر رسم حليم جرداق” (1995)، وفي غاليري جانين ربيز (1998). كتبت الشاعرة إيتيل عدنان عن هذه المرحلة تقول: “إن حليم جرداق يبحث في التلوين عن سر الفن ومعنى الحياة”.

وكتب الشاعر أدونيس من وحي عاريات جرداق قصيدة بعنوان “جسد المرأة مرسوماً”، يقول فيها: “الشكل تجسيد الصوت، الشكل ارتجاج أصوات. الألوان أصوات ثانية، والرسم موسيقى من نوع آخر”.

ثمة أعمال أخرى من مرحلة “الفوضى الفهيمة”، والعنوان أطلقه حليم جرداق على معرضه الذي أقامه في غاليري جانين ربيز (1998)، وضم أعمالاً مسحوبة على ماكينات اللايزر والطباعة الحديثة، استخدم فيها تقنيات الكولاج والميكسد – ميديا، في اختباراتٍ تجسّد “فن النّغم” في التلوين الحديث، أو ما أسماه جرداق باللون – اللّهب. فقد سعى من خلال اللون لإيجاد روابط بين التأليف الفني والتأليف الموسيقي بأصوات تسلسلية متعددة.

أدرك حليم جرداق أهمية علاقته بالمعادن كحفّار في أكثر من إطلالة فنية تعود إلى عام 1973، كما أن فضول المعرفة لديه جعله على صلة وثيقة بإنجازات النحت المعاصر، لا سيما أعمال النحات العالمي سيزار.

ولفرط إعجابه بالأشكال المطعجة والمضغوطة، أقام معرضاً لنحاسيات دهسها وحفرها على طريقته. إذ إن أحلامه اتجهت إلى دخول الفن حقول الصناعة الميكانيكية، والابتكارات التكنولوجية. وفي هذا السياق تظهر في مجموعة مقتنيات متحف نابو، نماذج من مرحلة الأشكال الصافية التي تعكس جاذبية المواد المُهمَلة الخام ومفاهيمها في فنون الحداثة وما بعدها.

عمل طباعي للفنان حليم جرداق العام 1967

 

مرحلة “المواد – كشكل، الشكل – كمواد”، التي جاهر فيها بجماليات الصفائح النحاسية والعُلب المسحوقة والمطروقة، والرسم بشرائط الأسلاك المعدنية على سطوح الصفائح بطريقة البارولييف، تلك الأسلاك التي يصنع منها أيضاً قامات نصبية منمنمة ومنحوتات تجريدية مبتكرة مزينة بحليّ مزيفة من خرز أزرق أو أزرار أو نوى بعض الثمار. وفي ذلك كان حليم جرداق يبتغي تأكيد قدرته على القيام بحرفة يدوية، من شأنها أن تعكس ما للفن من وظائفية جمالية تزيينية مستلهمة من مواد بسيطة وجاهزة أحياناً، ولكنه في دمجه لكل ما هو هجين، كان يبحث عن طوطمية لها إطلالة شعائرية وبدائية. فالتفتيش لديه لم يقتصر على الشكل والقامة فحسب، بل عن موقع اللون من الزخرف المعدني.

قد يبدو هذا الاتجاه الزخرفي والميل لاستخدام الألوان الذهبية على وجه الخصوص، بمثابة استعادة ما، لأشكال الشمعدانات ونقوشها، التي كانت تفتن مخيلة حليم جرداق، حينما كان طفلاً يتردد على كنيسة القرية (من مواليد عين السنديانة – من أعمال الشوير عام 1927) يستمع إلى الألحان البيزنطية ويتأمل فخامة ملابس الكهنة، من دون أن يدرك أنها ستشكل يوماً عالماً سحرياً طقوسياً من الإشارات والرموز والزخارف، التي ظل يرنو إليها من بعيد ذاكرته.

ليس من السهل الإحاطة بفن حليم جرداق، فهو في هذا المعرض يتجلى كشاعر أشكال، وكرسام وملوِّن لعوالم الفرح والقلق والطمأنينة. فكان الوحيد بين فناني جيله الذي عرَف كيف يظل طفلاً لعوباً ومثقفاً وكاتباً حكيماً وبدائياً حقيقياً وغرائبياً في ممارسة طقوس الفن كحالة شعرية، رادماً الهوة بين التصوير واللاتصوير والرسم والنحت والحفر والتنصيب والجمع ما بين المواد النبيلة والمواد الفقيرة وما بين الغنى والتقشف، واصفاً نفسه بأنه المجنون الذي يحكي والعاقل الذي يسمع.

 

You may also like

Editor-in-Chief: Nabil El-bkaili

CANADAVOICE is a free website  officially registered in NS / Canada.

 We are talking about CANADA’S international relations and their repercussions on

peace in the world.

 We care about matters related to asylum ,  refugees , immigration and their role in the development of CANADA.

We care about the economic and Culture movement and living in CANADA and the economic activity and its development in NOVA  SCOTIA and all Canadian provinces.

 CANADA VOICE is THE VOICE OF CANADA to the world

Published By : 4381689 CANADA VOICE \ EPUBLISHING \ NEWS – MEDIA WEBSITE

Tegistry id 438173 NS-HALIFAX

1013-5565 Nora Bernard str B3K 5K9  NS – Halifax  Canada

1 902 2217137 –

Email: nelbkaili@yahoo.com 

 

Editor-in-Chief : Nabil El-bkaili
-
00:00
00:00
Update Required Flash plugin
-
00:00
00:00