رافع الناصري ثقافة و فنون مهى سلطان تكتب عن: 10 سنوات على رحيل العراقي رافع الناصري… الفن خلف أبواب الحزن by admin 24 ديسمبر، 2023 written by admin 24 ديسمبر، 2023 611 تبوّأ رافع الناصري مكانته كواحد من أهم الفنانين العراقيين المحدثين. بيروت- النهار العربي / مهى سلطان عشر سنوات مرّت على رحيل الفنان العراقي رافع الناصري، وما زال مكانه مصاناً في القلوب، وإرثه الفني باذخاً نابضاً بالعطاء، كفنان من كبار المبدعين العرب، لا سيما في فن الغرافيك، وكواحد من كبار المثقفين المنتمين إلى عالم الشعر والحب والحرية والخيال. عشر سنوات مرّت ولم تتغير مواقع الحزن عن اللحظة التي فارق فيها الحياة، بل ازدادت في غيابه الصورة قتامة ووحشة وظلمة، لا سيما مع الأحداث المستجدة في الساحة العربية الراهنة في ظل طوفان الأقصى في فلسطين المحتلة. وكأن الناصري في استشعاره للزمن بما يحفل به من مآس وغربة واشتياق للعودة إلى حضن الأرض الأم، كان يُحضّر أطراً جديدة لصورته في عيون ناظريه في الزمن المقبل. الأعمال التي أنجزها في السنوات العشر الأخيرة من حياته، كانت- برغم المرض العضال- زرعاً في حقل جديد، من تداعيات المشاعر وعبث الوجود. هذا النوع من العبث الذي يتحول سيلاً عارماً يمحو ويجرف الأثر لكنه لا يبرح مقيماً في الذاكرة. تتحدث زوجته ورفيقة دربه الشاعرة والناقدة مي مظفّر عن السنوات العشر الأخيرة من حياته (توفي في كانون الأول/ ديسمبر 2013)، فتقول إن “رافع كان يستنجد بما يمدّه بالصبر ويأخذ بيده نحو آفاق التسامي على الواقع المرّ، إكراماً للعراق الساكن في وجدانه. فوجد في تقصي خزين الذاكرة ملاذاً يجمع بين غنى المراجع وبهجة الروح. فقد كتب في مقدمة دليل معرضه الشخصي الذي أقامه في عمان 2010 تحت عنوان “ما بعد الزمن”: “في الغربة، ومع تقدم سنوات العمر، يتداخل الزمن تلقائياً ما بين ماضٍ وحاضر، وبين قديم وحديث، حينها تتوالى الصور والذكريات والأحداث الكبيرة والصغيرة لتشكل الملامح الرئيسة لكل حالة إبداعية. وفي الفن تمتزج الأفكار والألوان والأشكال مع ذلك الزمن، فتُكوّن حالةً واحدة تستمد حياتها من تلك التجليات الإنسانية لتصبح لوحة. في السنوات الأخيرة، ومنذ 2006 تحديداً، بدأ يظهر في لوحاته خطوطٌ من الأحمر والأسود والأزرق الغامق تسيل من الأعلى منحدرة عمودياً على السطح. في البداية كانت تغطي مساحة صغيرة منه، كما لو أنها حركة عفوية نابعة من اللاوعي، ثم ازداد السائل كثافة ليشكل ما يشبه ستارة تغطي معظم ما بَنى من المشهد بأناةٍ ودقة، كما لو أنه يمارس لعبة البناء والمحو. سألتُه عن مغزى هذه الحركة وما الدافع لها، فأشار بيده وقال: لا أعرف، هكذا أرى”. تكوين حروفي – حفر على النحاس 1968 – لشبونة تلاقي الشرق بالغرب ما من مصدر محددٍ تنبع منه إلهامات رافع الناصري، ولعلّ اللغز الذي يميز إنتاجه الفني، يتراءى في تقشفه وبساطته وروعته الجمالية المتأتية من مخزونه الفكري وخبرته التقنية وتلاقي ثقافات الشرق والغرب في مَعين أفكاره، ونظرته للحياة وللمكان والذكريات والوجود. شبكةٌ معقدة من نسيج الحضارات والأمكنة والثقافات المتعددة الجذور والمنجزات، تتكشف معالمها في “الدفاتر الفنية” التي تضمنت تجربة الناصري منذ شبابه، والأسئلة الكبيرة التي كانت تلحّ عليه حول الحياة والموت والحرب، وكيف واجه العلاقة بين الفن والحياة عقب ثلاث حروب هي: العراقية – الإيرانية، وحرب الخليج، والاحتلال الأميركي لوطنه. تبوّأ رافع الناصري مكانته كواحد من أهم الفنانين العراقيين المحدثين. ولد في تكريت (عام 1940)، درس في معهد الفنون الجميلة في بغداد (1956 ـ 1959) وفي الأكاديمية المركزية للفنون الجميلة في بكين – الصين (1959 ـ 1963) وتخصص في فن الغرافيك (الحفر على الخشب)، وفي عام 1963، أقام أول معرض لأعماله في هونغ كونغ. يقول الناصري: “أحببت الرسم الصيني التقليدي وأدركت بأنه يختلف عن الفن الأوروبي، فهو يمتلك ببساطة كل العناصر الأساسية للفن الأصيل بمعنى أنه يقوم ويستند بقوة إلى روحية الإنسان وإلى عنصر المكان والزمان، ويتوافق كلياً مع فلسفة الحياة الشرقية وطرق رؤيتها للطبيعة والكون وانسجامها مع الحساسيات البصرية بكل مفرداتها”. يجاهر الناصري بعمق تأثره بالفن الصيني الذي تعلم منه كيفية الرسم بالفرشاة العريضة والرفيعة واستخدام الحبر والألوان المائية في عمل واحد، واختزال ضربة الفرشاة لعالم الكائنات والأشكال في الطبيعة، فضلاً عن تأثره بفن رامبرنت (في لوحاته ومحفوراته)، لجهة فهم حساسية الانتقال بين درجات الضوء والظل، فضلاً عن إعجابه بالعلاقات اللونية المدهشة التي أبدعتها ريشة الفنان الإنكليزي تورنر، في رسمه للمنظر الطبيعي الذي كان يجرّده من ملامحه الواقعية وصولاً إلى المعنى الحقيقي للمكان والزمان في آن معاً. تكوين حروفي – حفر على النحاس 1968 – لشبونة بعد عودته إلى بغداد، درّس رافع الناصري في معهد الفنون الجميلة في بغداد. كانت زيارته لبيروت سبباً في تعرفه إلى مؤسسة غولبانكيان التي أوفدته في بعثة فنية إلى البرتغال عام 1967، فدرس الحفر على النحاس في «غرافورا» لشبونة. كان فنّه في تلك الفترة واقعياً تشخيصياً، كما جاء في كتاب “رافع الناصري: رسام المشاهد الكونية” الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، للشاعرة والناقدة مي مظفّر، لكنه عقب رحلته إلى برشلونة، حيث أصبح على تماس مع الأساليب الفنية الغربية الحديثة، وتعرف على أمزجتها وثورة مفاهيمها وتحطيم الشكل والخروج على التقاليد المتوارثة، بدأ يتساءل من أنا؟ وماذا أريد؟ وكيف ألمس جوهر نفسي؟ فكانت القطيعة مع مرحلته السابقة حادة وحاسمة. هذه الأسئلة سرعان ما قادته لاكتشاف جماليات الحرف العربي، الذي أدخله في تكوينات تجريدية، كما اكتشف الأكريليك واستعمله بدلاً من الألوان الزيتية. وجد الناصري أن الغرب يمرّ في مرحلة تحوّل ثقافي كبير، خصوصاً في ما يتعلق بالتجريد، وكانت الحروفية شائعة آنذاك، ومن بين هؤلاء الحروفيين تميز الفنان الفرنسي جورج ماتيو الذي كان يستخدم الحروف اللاتينية والشرقية بطريقة حرة تماماً: “كان هذا الفنان أول من أثّرَ بي عندما بدأت أفتش عن خصوصية أسلوبي وهويتي، وهو الذي نبّهني إلى مصدرين مهمين من مصادري البصرية وهما الخطوط العربية والخطوط الصينية. وهكذا بدأت عندي مرحلة استخدام الحرف العربي في لوحاتي التجريدية التي استمرت طوال حياتي”. بعد عودته إلى بغداد في 1969، أسس جماعة «الرؤية الجديدة» مع عدد من الفنانين العراقيين، منهم: ضياء عزاوي وهاشم السمرجي ومحمد مهر الدين وصالح الجُمَيعي، بهدف جمع الفن والتراث برؤية جديدة، أكثر تحرراً، وتبنّي قضايا سياسية واجتماعية تهمّ المجتمع العراقي والعربي. كما شارك في تأسيس تجمّع «البعد الواحد» مع شاكر حسن آل سعيد. ثم أسس عام 1974 فرع الغرافيك في معهد الفنون الجميلة في بغداد، وتولى رئاسته حتى عام 1989، وتفرغ فيه لعمله الفني بعدما أنشأ «المحترف». ترك بغداد في عام 1991، ودرّس في جامعة إربد في الأردن، حيث ساهم في عام 1993 بتأسيس محترف الغرافيك في دارة الفنون في عمّان، وأشرف عليه لبضع سنوات. وفي عام 1997 درّس في جامعة البحرين وأصبح مديراً لمركز البحرين للفنون الجميلة والتراث. أقام في المنامة عام 1999 معرضه المتميز الذي حمل عنوان: «عشر سنوات… ثلاثة أمكنة». ضوء من العتمة – مواد مختلفة وأكريليك على قماش – عمان 2007 مقام الحرف شغلت أعمال الناصري مكانتها البارزة بين سائر أعمال الحروفيين العرب، مع صعود موجة العودة إلى التراث والأصالة في استنهاض الهوية العربية، طوال حقبة الستينات والسبعينات من القرن العشرين. لكنّ الناصري بعد انتهاء هذه الموجة التي فرغت من محتواها العاطفيّ ودوافعها وإشكالياتها، لم يتوقف عن اكتشاف الوظائف الجمالية الجديدة للحرف العربي. وفي هذا السياق كتب الناقد جبرا إبراهيم جبرا، بأن الناصري “يمتاز بقدرته الخاصة على الدمج بين إمكانيات الحرف الشكلية وإمكانيات الغرافيك والتلوين على نحو لا نخطئ فيه نظرته الصوفية، ولكن لا بد من القول إن تجربة رافع الناصري الأساسية هي تجربة المطلق، إنها محاولة الإمساك بما هو بعيد ومتغلغل في المجاهل الذهنية”. في لوحاته ومحفوراته استخدم الناصري الحرف العربي مجرداً من معناه اللغوي في نوع من التماهي الشكليّ ما بين الطبيعة والإنسان، وما بين المكان والزمان. “إنه ـ حسب قوله – نوع من الممارسة الروحية والذهنية للخلق الفنيّ اليومي للحياة”. ظل الحرف العربي واحداً من الرموز الأثيرة إلى نفس الفنان، يتجلى لديه في حالات مختلفة، فهو وإن لم يعد يشكل العنصر الرئيس في اللوحة، إلا أن ظهوره ظل يتكرر بين حين وآخر في ثنايا التكوين من بين إشارات أخرى ذات دلالة إلى الوجود الإنساني. وقد اعتبرت مي مظفّر بأن خصائص الحرف العربي تجعله قابلاً لتمثيل لوحة يكون الحرف فيها ذا طابع تعبيريّ مرن ومتنوع، لا مجرد عنصرّ تزييني مُضاف، حيث جعله الناصري عنصراً مركزياً بقوة تعبيرية أخّاذة، تنجذب إليه كل عناصر العمل الفني الأخرى، وهذا ما خَلّص الحرف العربي من أن يكون مجرد قيمة زخرفية جمالية، بل جعله عنصراً قادراً على تحقيق مزاج متنوع، يؤدي فيه اللون دوراً أساسياً. بعد الحرب الأميركية على العراق عام 2003، يقول الناصري إنه أخذ يفتش عن مصادر بصرية جديدة تعبّر عن آلامه ومعاناة شعب العراق وعذاباته، فلجأ إلى الشعر، متلمّساً طريقه عبر قصائد للمتنبي والجواهري ومحمود درويش وإيتل عدنان ومي مظفّر، وصولاً إلى مشروعه الفني الذي كرّسه لقصيدة مختارة من أعمال الشاعر الأندلسي ابن زيدون، وهو مكوّن من ثماني لوحات بأحجام جدارية، مستلهمة من قصة عشق ابن زيدون لحبيبته ولّادة بنت المستكفي (نادرة زمانها حسناً وأدباً) ومزج فيها بين الرسم والطباعة، كما بين الزمان والمكان (قرطبة الأندلسية) والشعر والموسيقى. نشر رافع الناصري عدداً من المِلفات الفنية هي: تحولات الأفق (1980)، ما بعد الأفق (1982)، الخماسية الشرقية (1989)، تحية إلى بغداد (1989)، الخماسية الشرقية 2 (1994)، تحية إلى المتنبّي (2006)، من تلك الأرض النائية (2007)، مكتبة أضرمت بها النار (2007)، وله ثلاثة كتب منشورة. تنتشر أعماله في العديد من المتاحف العربية والعالمية. 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post حلمي موسى يكتب عن: العدو يريد “نصرا”، لكن غزّة لن تقدّمه .. next post رضوان السيد يكتب عن: اللغة العربية بين المعرفة والهوية والمشكلات You may also like سامر أبوهواش يكتب عن: “المادة” لكورالي فارغيت… صرخة... 25 نوفمبر، 2024 محامي الكاتب صنصال يؤكد الحرص على “احترام حقه... 25 نوفمبر، 2024 مرسيدس تريد أن تكون روائية بيدين ملطختين بدم... 25 نوفمبر، 2024 تشرشل ونزاعه بين ثلاثة أنشطة خلال مساره 25 نوفمبر، 2024 فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم... 24 نوفمبر، 2024 قصة الباحثين عن الحرية على طريق جون ميلتون 24 نوفمبر، 2024 عندما يصبح دونالد ترمب عنوانا لعملية تجسس 24 نوفمبر، 2024 الجزائري بوعلام صنصال يقبع في السجن وكتاب جديد... 24 نوفمبر، 2024 متى تترجل الفلسفة من برجها العاجي؟ 24 نوفمبر، 2024 أليخاندرا بيثارنيك… محو الحدود بين الحياة والقصيدة 24 نوفمبر، 2024