سمير الصايغ ثقافة و فنون مهى سلطان تكتب عن: “وأنا الآخر” للفنان والناقد سمير الصايغ… حوارٌ بين الفكر والقلب by admin 24 فبراير، 2024 written by admin 24 فبراير، 2024 206 في مبحث التجريد يتبدّى التماهي الوجداني في محورية عنوان الكتاب، حين يضيء الصايغ على مفهومه الشعري للتجريد فيقول بأنّ التجريد لا يسعى الى محو الصورة بل يسعى الى الجوهر، وهو ليس رمزاً ولا كلمات ولا هو لون، بيروت- النهار العربي – مهى سلطان كيف يبدو الفنان بعيني الناقد؟ ولماذا يحتاج الفنان الى النقد؟ هل ثمة دور للنقاد في حياة الفنانين؟ أسئلة مثيرة ومشكّكة ومقلقة شغلت مؤلفات العديد من الفلاسفة والأدباء والمؤرخين، خصوصاً أنّ التلازم بينهما صنع كل تاريخ الفن. وماذا لو اجتمعت الصفتان في شخص واحد؟ في هذه الحال أيهما يطغى على الآخر؟ هل من صراع أم تكامل؟ هكذا يضعنا الفنان والناقد سمير الصايغ أمام تجربة فريدة من الحوار بين القلب والفكر، وبين عمل اليد ومراقبة العين، وبين الكلمة والرسم، والرأي والرأي الآخر، في كتابه الذي صدر مؤخّراً بعنوان “وأنا الآخر: حوار بين الفنان والناقد” مرفق برسوم حبرية من دفاتر الفنان. الكتاب عبارة عن نصوص أدبية حوارية بين شخصيتين، فيها الكثير من المساءلة والاستنطاق والاستدراج والبوح والتنظير، على مستوى عالٍ من السردية المتأتية من قراءات متوغلة في بحر الفلسفات الروحانية التي تجمع بين الشرق والغرب. حروفيّ من زمن الكبار، مثقف كبير هو سمير الصايغ، وقامة من قامات جيل الحداثة العربية، أخذ الحروفية من مفاهيم الحداثة الى فلسفة المعاصرة. بدأ حياته كناقد، وحين جاء إلى الفن جاءه متأخّراً على نضج ومعرفة وتحكُّم، جاءه كاتباً حروفياً، وليس فناناً تشكيلياً تقليدياً، بل شاعراً متصوّفاً ومحترفاً مهنياً، وخبيراً متمرساً في تطويع ملكات الحروف التي تفتّحت مداركه عليها، لكونها أداة التعبير الوحيدة التي يمتلك فصاحتها ولسانها، كما يمسك بنواصيها ويعرف أطباعها وأحوالها وأنسابها، ويعرف كيف يروّضها ويحلّق بها إلى جماليات التأليف والتصميم الغرافيكي المعاصر. في مؤلفاته التي كتبها رمّم الجسور التي تفصل بين الفنون الإسلامية وبين الفنون البصرية الراهنة، واجداً سبلاً جديدة لاستلهام جمالياتها بوسائط وتقنيات ومحمولات معاصرة. بين بوح وإرشاد من ميزات الصايغ أنّه أعطى لكتاباته طرازاً خاصاً في أسلوب مغاير عن فناني جيله، بعدما أخذ الحرف من مجاله الأدبي إلى مجاله البصري- التشكيلي الاختباريّ، فحرّر الحرف من المعاني والألفاظ في استذكار القلقشندي: «الحروف دالّة على الألفاظ والألفاظ دالّة على الأوهام»، لذا كتب الحرف لذاته، لجماله المستقل، لغناه وتنوّع إيقاعاته وموسيقاه الداخلية، وهو الذي انتقل من عملية كتابة النص إلى الكلمة ثم الحرف بحضوره الهندسي الآسر، فوهبه شيئاً من الكينونة، فجعله كقطعة تنهض من زخرف برّاق أو كبنيان مستمد من الخيال ومن بتلات اللون المشبع القوي، أو كحلية من ذهب الكنوز وأزرق البحار. أعاد الحروف إلى بساطتها الأولى، إلى عالم الرؤية وحلم النقطة وامتشاق الألف، وسفر الواو وعين القلب، وحسن التدبّر… هكذا وصل مساره إلى منطق التفكيك (فلسفة جاك دريدا) للكلمات وللسياقات اللغوية بحثاً عن الحقائق أو أوهامها. لكأنّ الصايغ يغوص متعمّقاً في مكوّنات الحرف نفسه، بتفاصيله وأجزائه، فيأخذ قبساً من ناره، ويحيطه بظلال ليست إلاّ ظلاله، إذ ما بين القوس اللين والشكل الهندسي، وزوايا النقطة تذوب الفروقات، كما تذوب لطخات الحبر في ضربات الفرشاة العريضة وتشف عن بياضها وتتراجع أمام حضرة الأسلوب الذي يُعنى ليس بالحرف وحده، بل برشاقة حضوره وحركته في الفضاء المجرّد. في كتابه “وأنا الآخر” ثمة ازدواجية ظاهرة بحضور الأنا التي تلعب دورين لكأنّهما منفصلان، غير انّهما متصلان برابط واحد، هو الرابط الفكري والفلسفي الآتي من منبع صوفيّ واحد، فيغدو مثل حوار الأنا للأنا، وحوار الصوت للصدى. صورتان في مرآة واحدة، تتناقضان وتتناغمان في بوحٍ منبثق من القناعات الذاتية، في حال من الطوباوية والتنظير والاستذكار والتقييم. وهو حوار مُختلق من انسجام ضمنيّ واستفهامي، كي يعبّر الناقد بلسان الشاعر والمنظّر والفيلسوف والحكيم والمُرشد، ليعلن عن مواقفه إزاء إشكاليات فنية لطالما أثارت الجدل والنقاش والانقسام في الرأي بين النقاد والفنانين أنفسهم طوال حقبة الحداثة. وهي قضايا متصلة بماهية التجريد والمطلق ومفاهيم الأصالة والهوية والتراث والحروفية (وجذورها في المقدس الدينيّ وامتدادها في الفنون الإسلامية وفن التدوين) وجدلية المعنى واللامعنى اللغوي في الكتابة الحروفية، وتأثيراتها العميقة في التجريد الغربي. تلك المسائل التي كان سمير الصايغ جزءاً منها وشاهداً عليها، في كتاباته النقدية منذ الستينات والسبعينات من القرن العشرين، حتى انّ كتاباته لو جُمِعت لشكّلت ذاكرة مهمّة ومحورية في الصراع ما بين الشرق والغرب، الذي عاشه جيل المحدثين العرب. ليس ذلك فحسب، بل يطرح الصايغ على نفسه في كتابه “أنا الآخر” أسئلة صعبة متعلقة بالاشتغال بالعمل الفني، وهي تراود جميع الفنانين، أسئلة لا تخلو من الشك والقلق واليقين. كل ذلك يأتي في سردٍ كثيراً ما يتجرّد ويسمو عن عالم الواقع، كي يرتمي في رحاب الكتابات الروحانية للمتصوفين وهي في أوج لمعاناتها الشعرية. التجريد هو التوحيد تقف شخصية سمير الصايغ الاستثنائية في توجّهاتها الثقافية، امام مرآة النفس قبل أن تصل إلى عيون القراء، وتضعنا أمام أسلوب خاص في أدب المحاورات وهو صنف بين صنوف الأدب قديم التجليات (منذ مدرسة الفلسفة اليونانية إلى الحقبة الرمزية والرومنطيقية، ومحاورات المتصوفين كفريد الدين العطار في “منطق الطير” وصولاً إلى كتاب النبيّ لجبران خليل جبران والمحاورات التي دارت بين الفنانين والشعراء العرب)، غير أنّ كتاب الصايغ يأتي من مقترب غير اعتيادي كونه يجمع خميرة التجارب وبين الشعري الصوفي وبين البوح أو الاعتراف، وما يساور النفس من شكوك وخيبات وحالات إحباط وشعور بالغربة على نحو ما نقرأه على لسان الناقد قوله: “أشعر بفقدان الاهتمام، أشعر انّ الآخر غير مهتم إذا كان موجوداً أو لا، إذا كان صديقاً أو عدواً. أشعر أنّ الآخر فقد الاهتمام بي وأنا فقدت الاهتمام به” (ص: 226). وفي الوقت نفسه تلتبس الحقائق على الفنان الذي يرغب دوماً التحرّر من أي عين تراقب عمله، فتربك يده وتشوش خياله. فالفن كما يراه يسبق اسماءه وصفاته واهدافه: “عليه أن يجيء بلا مهمّات ولا أهداف، مثل فيض بعد امتلاء، مثل ضوء بعد ليل، مثل الانتباه، مثل النضج، مثل طلوع النبع” (ص. 231). الكتابٍ مؤلف من مباحث تنقسم الى عدة ثيمات عدة على اسشهادات هي بمثابة مفاتيح المعرفة. في مبحث المطلق يسأل الفنان: “هل الذهاب إلى المطلق ذهاب الى التجريد؟ يجيب الناقد: “في المطلق لا علامات ولا إشارات بل حقائق، وفي العمق، المطلق جوهر هذه الحقائق… إنّه جوهر كل حقيقة، انّه جوهر الحق” (ص.ص. 16-17). في هذا السياق، يذهب الصايغ إلى تعريف المطلق من خلال المقترب الصوفي التوحيدي الذي سار على نهجه كبار الخطاطين العرب، بمنطق مغاير للمطلق بالمفهوم الغربي الذي طرحه أساتذة فناني التجريد الأوائل (كاندينسكي وماليفيتش وموندريان) في ربط التجريد بالروحانية أو العدمية أو اللاشيئية. ينتقل الصايغ بعدها الى تعريف المراتب الثلاث للحضرة الالهية، مستشهداً بما أورده إبن عربي في الفتوحات المكيّة، ثم ليمضي في إبداء وجهة نظره إزاء تيمات اخرى متعلقة بالتجديد والموسيقى وأسئلة الفن الكبرى معطوفة على استشهادات اخرى: أفلاطون وإبن سينا والملا صدرا عن الشيرازي ونجم الدين كبرى، جان لوك تولا عن فلسفة الزن… وسواهم). وفي مبحث التجريد يتبدّى التماهي الوجداني في محورية عنوان الكتاب، حين يضيء الصايغ على مفهومه الشعري للتجريد فيقول بأنّ التجريد لا يسعى الى محو الصورة بل يسعى الى الجوهر، وهو ليس رمزاً ولا كلمات ولا هو لون، بل التجريد صمت ولمعان كالذهب، والتجريد هو توحيد بمعنى التّوحد مع كل موجودات الكون، يقول الفنان “الآخر أنا” ليجيب الناقد :”وأنا الآخر”. 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post شهر سيء لهادي العامري، رئيس “منظمة بدر” next post ما قصّة القبلة الأولى؟ You may also like براعة باخ في كونشرتوات براندنبورغ وأثرها الدائم 19 نوفمبر، 2024 في روايته الجديدة… أوبير حداد يصوّر الحرب بعيني... 19 نوفمبر، 2024 16 فيلم رعب تسببت بصدمة نفسية لممثليها 19 نوفمبر، 2024 العداوة والعدو كما فهمهما الفلاسفة على مر العصور 19 نوفمبر، 2024 قصة واحدة من أكبر الأكاذيب في تاريخ حكايات... 19 نوفمبر، 2024 أول ترشيحات “القلم الذهبي” تحتفي بالرعب والفانتازيا 17 نوفمبر، 2024 شعراء فلسطينيون في الشتات… تفكيك المنفى والغضب والألم 17 نوفمبر، 2024 “بيدرو بارامو” رواية خوان رولفو السحرية تتجلى سينمائيا 16 نوفمبر، 2024 دانيال كريغ لا يكترث من يخلفه في دور... 16 نوفمبر، 2024 جاكسون بولوك جسد التعبيرية التجريدية قبل أن يطلق... 16 نوفمبر، 2024