السروة وسهل القمح والسماء بريشة فان غوغ (متحف الرسام) ثقافة و فنون مهى سلطان تكتب عن: فان غوخ الرسام العاشق الذي استوطن الحدائق by admin 4 أكتوبر، 2024 written by admin 4 أكتوبر، 2024 46 معرض وكتاب وقصص مجهولة ومقاربات لمسار لم يتم اكتشافه كاملا اندبندنت عربية / مهى سلطان إن الإغراء يكمن عادةً في رؤية الجنون في عمل فان غوخ، أو “الطاقة الهوسيّة” التي وصفها بول غوغان، حين تقاسم معه لفترة وجيزة البيت الأصفر في آرل، بأنها “قطار ينطلق بسرعة قصوى”. لكن القيميين على المعرض فضّلوا الابتعاد عن محاكاة النواحي المأساوية المرتبطة بحياة فان غوخ ومرضه العقلي، ليتم التركيز على النواحي الخيالية والشعرية التي انعكست على مرحلة مضيئة من أعماله قبيل رحيله. إنها المرحلة التي تلت قطع جزءٍ من أذنه اليسرى، والتي قضاها في آرل وسان ريمي في جنوب فرنسا (1888-1890)، وشكلت بطبيعتها وأمكنتها مصادر إلهاماته وموضوعاته، ومساحات مثالية تفجرت فيها عبقريته لا سيما تجاربه مع الألوان قوله: “أنا أؤمن بالضرورة المطلقة لفن جديد قائم على الألوان”، كما كتب إلى شقيقه ثيو في عام 1888. أنهما سنتان عظيمتان تمتدان من فبراير (شباط) 1888، حين وصل فان غوخ إلى آرل، قادماً من باريس، طلباً للدفء وحرارة الشمس بناءً على نصيحة صديقه تولوز لوتريك الذي قاسمه شغفه بالفن الياباني. وفي الفترة التي تلت ذلك وبين نوبات صحية وانهيارات عصبية كان يعالج نفسه بالفن، أنتج ما يقرب من 200 لوحة وعدداً لا يحصى من الرسوم، لا سيما وأنه أمضى 12 شهراً في مصح سان بول دي موسول في سان ريمي القريبة من آرل. كان فان غوخ مفتوناً بقوة الضوء واللون الأصفر الشمسيّ وجمال مناظر الطبيعية المُلهمة التي اكتشفها في سان ريمي، ليغادر بعدها المصح، ويعود شمالاً إلى أوفير سور واز، بالقرب من باريس، حيث مات منتحراً (وقيل مقتولاً لأسباب غامضة) في يوليو (تموز) 1890، وكانت آخر الكلمات التي قالها لأخيه ثيو: “إن الحزن يدوم إلى الأبد”. الحدائق مقر العشاق فان غوخ أوتو بورتريه (متحف فان غوخ) بلا شك إن عنوان المعرض “شعراء وعشاق” محفزّ ومشوق للغاية، ولكنه زائف و”مُربك إلى حدٍ ما” بحسب تعبير صحيفة “الغارديان”، لأن فان غوخ لم يكن في الفترة التي يغطيها المعرض، يقضي وقته مع الشعراء، بل كان يتردد على بيت دعارة، ولم يكن له شريكة أو عشيقة، بل رسم الحقول والحدائق والأشجار على أنها الأمكنة التي تجمع الأحبة والعشاق. لذا فقد رسمهم ليس بهيئاتهم بل كمتنزهين أو كأشباح ظليّة في كنف الطبيعة التي كانت المبتغى الأهم لريشة فان غوخ في ثورتها وقلقها واندفاعاتها الحلزونية ودواماتها المضطربة. لعل الجديد في تيمة المعرض يكمن في البحث عن الأعمال غير المعروفة للفنان، فضلاً عن القطع المتحفية المشهورة، التي أنجزها فان غوخ بعد أن دخل طوعاً إلى مستشفى سان بول دي موسول في سان ريمي، حيث تخيّل حديقة المصح المليئة بالنبات والأعشاب كمكان منعزل للعشاق. ورسم تركيبات مذهلة تصور مناظر للأرض والأشجار والمتكآت. يُظهِر المعرض كيف يتناقض هذا الاستكشاف المثالي والمبهج لحديقة المصح بشكل كبير مع الأعمال التي رسمها في الخريف عندما ربط فان غوخ المكان نفسه بمعاناته ومعاناة زملائه المرضى. ويستعيد المعرض فكرة فان غوخ حين خطط في أواخر صيف عام 1888، لتزيين منزله الأصفر في آرل بـ “حديقة الشاعر” و”عباد الشمس” و”الشاعر” و”العاشق”. كانت هذه اللوحات في تَصوُّره تشكل مخططاً متمماً لرؤيته الفنية وكان يأمل بعرضها معاً كمجموعة متماسكة، في المعرض العالمي في باريس عام 1889، إلى جانب أعمال زملائه الفنانين الانطباعيين. لوحة ازهار عباد الشمس (متحف الرسام) يستكشف المعرض كيف تطور الخيال الشعري والأفكار المرتبطة بالحب إلى موضوعات مركزية بالنسبة للفنان (بحسب ما جاء في كتيب المعرض). ففي آرل على سبيل المثال، خصص فان غوخ الحديقة العامة أمام البيت الأصفر (حيث استأجر أربع غرف في عام 1888) كحديقة للشعراء، متخيلاً الشاعرين الإيطاليين في عصر النهضة بترارك وبوكاتشيو يتجولان هناك. وترتبط بعض أروع لوحات ورسومات فان غوخ في ذلك الوقت بهذه الفكرة، ويظهر أزواج العشاق في لوحات مثل “ليلة مرصعة بالنجوم”، وهي إحدى اللوحات الليلية التي رسمها عام 1888 على ضفة نهر الرون، الذي كان على بعد دقيقة أو دقيقتين فقط سيراً على الأقدام من البيت الأصفر الذي يقطنه في ساحة لامارتين. البارز في هذه اللوحة ليس رسم العاشقين اللذين يهمان بالخروج من الإطار المشهدي، بل المجموعة النجمية التي تشع في سماء اللوحة وعلى سطح المياه، وهي تنم عن رؤية فلكية أكثر مما هي واقعية (مجموعة الدب الأكبر التي لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة من موقع الرسم). يضم المعرض ما لا يقل عن 61 لوحة (بينها رسوم ورقية)، غالبيتها مستعارة من متاحف ومجموعات خاصة حول العالم، بما في ذلك لوحات مهمة من متحف كرولر مولر في أوتيرلو بهولندا، ومتحف فان غوخ في أمستردام، ومتحف أورسيه في باريس. يخبئ المعرض بعض المفاجآت منها لوحة “صورة وجه فلاح” (1888)، وهي لوحة لبستاني عجوز، (اسمه باسيانس إسكالييه)، بلحية خضراء، لم تخرج قط من مجموعة نورتون سايمون في باسادينا بولاية كاليفورنيا. ويُذكر أن متحف فيلادلفيا للفنون قد أرسل لوحة “عباد الشمس” ذات الخلفية الزرقاء (1889)، التي تم تعليقها إلى جانب النسخة الثانية من اللوحة ذات الخلفية الداكنة (1888) العائدة إلى الغاليري الوطنية، وبينهما لوحة “التهويدة” (1889)، المجلوبة من متحف الفنون الجميلة في بوسطن. تشكل هذه اللوحات ثلاثية، كما كان الفنان يرغب دوماً أن يراها. ومن بين العديد من اللوحات المُعارة من مجموعات خاصة، لوحة “أشجار في حديقة المصح” (1889)، وهي ذات تأليف مغلق بشكل رائع، تجسد جذوع الأشجار المقصوصة من كلا الطرفين، تنم عن إعجاب فان غوخ بالمطبوعات الخشبية اليابانية. كرسي فان غوخ مع الغليون (متحف الفنان) من بين لوحات البورتريه الذاتية للفنان تم اختيار اللوحة (1889) التي عُلقت في قاعة وينفيلد هاوس، المقر الرسمي للسفير الأميركي في لندن عام 1959، قبل أن تنضم إلى مقتنيات المتحف الوطني للفن في واشنطن عام 1998. ومن بين الأعمال المميزة لوحة “أشجار الدلب الكبيرة” المرسومة في 26 نوفمبر (تشرين الثاني) 1889 على قماش مناشف الشاي القطنية التي تسمى بالفرنسية بالتورشون، لأنه كان يفتقر حينها لقماش الرسم، وفيها بعض المناطق مطلية بشكل رقيق ويمكن رؤية أشكال ماسيّة حمراء بين الأحجار المرسومة في مقدمة اللوحة. أما لوحة ورود فان غوخ (أبريل/ نيسان 1889) فهي من مقتنيات الدكتور غاشيه الطبيب الذي اعتنى به في أوفير سور واز، وقد باعها ابنه في عام 1923 ثم اشتراها جامع فن ياباني وانتهى بها المطاف في متحف طوكيو. من القطع الأساسية في المعرض لوحة “العاشق”، هي واحدة من اثنتين من البورتريهات التي أعطت للمعرض عنوانه الفرعي، وهي تحمل شعار فوج المُلازم “بول أوجين ميلييه” بطريقة خاطئة. وكما يوضح كتاب المعرض، فإن الهلال كان ينبغي أن يشير إلى اليمين وليس اليسار، علماً أن فينسنت رسمه بشكل صحيح في رسالة إلى أخيه ثيو. لماذا رسمه بشكل خاطئ؟ الأرجح لأسباب فنية لخلق تركيبة أكثر توازناً ولكن الواضح أن الشعار أضيف بعد وقت قصير من جلوس ميلييه أمام الفنان. ولو كان يعلم، لكان المُلازم قد اعتبر تشويه رمز فوجِه إهانة. ازهار عباد الشمس وأشجار السرو وجه فلاح- زيتية (متحف الرسام) ارتبطت شهرة فان غوخ بشكل أساسي بأزهار عباد الشمس، رمز التفاني والفرحة العابرة. وقد وصفها بأنها “المكمِّلة والمكافِئة” لأشجار السرو الخاصة به، التي كانت تمثل الصمود والأبدية. في رسالة إلى أخيه ثيو (25 يونيو/ حزيران 1889) كتب فان غوخ يقول: “ما زالت أشجار السرو تشغلني، أود أن أستخدمها مثل اللوحات الزيتية لزهور عباد الشمس؛ لأنه يدهشني أن أحداً لم يرسمها كما أراها” وعن طريقة رؤيته لها يضيف: “إنها البقعة المظلمة في منظر طبيعي مشمس، لكنها واحدة من أكثر المناطق المظلمة إثارة للاهتمام، وأصعب ما يجسد تصوُّري بالتحديد”. يعكس الظلام الذي أدركه فان غوخ الصلة التقليدية لأشجار السرو بالموت والخلود. غالباً ما كانت تُزرع أشجار السرو في المقابر، وتستخدم أخشابها في التوابيت. في كتابات المؤلفين الكلاسيكيين مثل أوفيد وهوراس، ظهرت في سياق الحداد، واستمر ربطها بهذه الفكرة عبر قرون، وعادت إلى الظهور في مسرحيات شكسبير وروايات فيكتور هوغو، المؤلفيَن اللذيْن عرفهما فان غوخ وأعجب بهما. لذا ربط فان غوخ منذ البداية أشجار السرو، بالسماء والنجوم والقمح، والتي كانت مجازاً حقيقياً للخلود ودورات الحياة السرمدية. “إن أشجار السرو هي رمز لصمود فان غوخ نفسه” على حد تعبير الناقدة الأميركية الشهيرة جرترود شتاين، لأنها ارتبطت بشخصيته القوية وإصراره على الاستمرار، وقدرته على مواجهة التحديات التي مرّ بها، إذ كانت تمنحه القوة أثناء ضعفه. رآها فان غوخ كمسلات واقفة منذ آلاف السنين لحراسة الريف من الرياح الشمالية العاتية، كما رآها طواطم عملاقة ترمز إلى قوة الطبيعة. سيطرت أشجار السرو على عمله، فكانت بمثابة نوع من الإمضاء ورمز للمكان الذي أحبه، متجسداً في أكثر من منظر طبيعي ليليّ ونهاري مثل حقل القمح مع أشجار السرو (يونيو 1889) حيث تبدو الأشجار بألسنتها المتطاولة مثل شعلة اللهب. ما زال التنقيب الفني في حقول فان غوخ جارياً لاستجلاء الغموض في سيرته وأعماله التي غيرت مجرى الفن منذ أواخر القرن التاسع إلى القرن العشرين، كذلك أسهم أسلوبه التلويني في الخروج من الانطباعية إلى التعبيرية، وما زال حتى الآن من أكثر الشخصيات المؤثرة على الفن. ولئن كان الفضل يعود بداية إلى زوجة ثيو الهولندية جوانا بونر التي صنعت بذكائها التجاري أول أسطورة لفان غوخ، ولكن يبدو أن الفنان كان موقناً من أنه سيصيب شهرة بعد موته. ذلك ما نقرأه في رسالة كتبها إلى صديقه أنطون كيرسيميكرز (في نوفمبر عام 1885) يقول: “من المؤكد أنهم سيتعرّفون على عملي لاحقاً وسيتحدثون عني عندما أموت وأرحل. سوف أتأكد من ذلك إذا كنت لا أزال قادراً على العيش لفترة من الوقت”. المزيد عن: فان غوخرساممعرضالحدائقالطبيعةالحداثةالمدرسة الإنطباعيةمراسلةلوحاتالتخييل 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post “تريسترام شاندي” رواية لورانس ستيرن تؤسس للحداثة الأدبية next post أي يسار جديد يسعى اليه فواز طرابلسي نظرياً وسياسياً؟ You may also like المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024 عبده وازن يكتب عن: فيروز تطفئ شمعة التسعين... 21 نوفمبر، 2024 “موجز تاريخ الحرب” كما يسطره المؤرخ العسكري غوين... 21 نوفمبر، 2024 فيلم “مدنية” يوثق دور الفن السوداني في استعادة... 21 نوفمبر، 2024 البلغة الغدامسية حرفة مهددة بالاندثار في ليبيا 21 نوفمبر، 2024 من هي إيزابيلا بيتون أشهر مؤثرات العصر الفيكتوري؟ 21 نوفمبر، 2024