السبت, مايو 4, 2024
السبت, مايو 4, 2024
Home » ماذا يمكن أن تقول الفلسفة عن معاناة كوكب الأرض؟

ماذا يمكن أن تقول الفلسفة عن معاناة كوكب الأرض؟

by admin

 

عندما تقع الطبيعة ضحية العبث البشري والتلوث والاحتباس الحراري والثورة التكنولوجية والجشع المالي

اندبندنت عربية / جمال نعيم أكاديمي لبناني

لم يعد بإمكان الإنسان المعاصر أن يتجاهل القضايا البيئية كالتغير المُناخي والتلوث والاحتباس الحراري، وأن لا يعيد النظر في الأنشطة البشرية التي يمكن أن تضر بالتوازن البيئي. فتغير المُناخ مثلاً قد يولد ظواهر جويةً متطرفةً غير مسبوقة. وهذا ما شهدته دبي منذ أيام، إذ تعرضت لواحدةٍ من أسوأ موجات الأمطار منذ 75 سنة، مع أنها من أشد مدن العالم حرارةً وجفافاً، مما أدى إلى شلل المدينة بالكامل، بعد أن غمرت المياه الشوارع والمنازل والمطار والطرق السريعة. لا مانع من أن تتكرر الكارثة مستقبلاً في حال لم نتدارك المشكلة ونعالج الأسباب التي أدت إليها.

لكن هل كانت هذه الأمطار بسبب تغير المناخ؟ أم كانت بسبب عمليات الاستمطار التي تجريها دولة الإمارات؟ هل كان لبرنامج حقن السحاب دورٌ في جعل الأمطار هذه أشد انهماراً وأوفر غزارةً؟ ما الدور الذي أداه التغير المناخي؟ لا ننسَ ما حصل منذ عامٍ في ليبيا التي تعرضت إلى عاصفة شديدة أدت إلى انهيار عدة سدودٍ، فتسبب انهيارها بفيضاناتٍ مدمرة قتلت الآلاف في مدينة درنة. كذلك علينا أن لا ننسى ما جرى في بكين منذ عامٍ عندما غمرت المياه أجزاء واسعةً من المدينة بعدما تعرضت العاصمة الصينية لأعظم هطول للأمطار منذ 140 عاماً. الكوارث الطبيعية هذه وغيرها تدفعنا إلى إعادة التفكير في أنماط الحياة والأنشطة البشرية التي من المحتمل أن تكون السبب الرئيس في حدوثها. لذلك علينا أن نهتم بيوم الأرض وما يعنيه وما يتخلله من نشاطاتٍ تستنهض البشر وتشحذ وعيَهم مصيرَ كوكبهم.

يحتفل العالم في 22 أبريل (نيسان) من كل عام بيوم الأرض، وهو حدثٌ سنوي يرمي إلى زيادة وعي المجتمعات الإنسانية القضايا البيئية من أجل الوصول إلى بيئةٍ صحية آمنة متوازنة. يجري الاحتفال بهذا اليوم في جميع أنحاء العالم من خلال المسيرات والمؤتمرات والنشاطات المدرسية وغيرها من الأنشطة كزراعة الأشجار وتنظيف الجداول المائية والاهتمام بالحدائق العامة.

 تاريخ يوم الأرض

تعود فكرة يوم الأرض إلى السناتور الأميركي غايلورد نيلسون الذي حض على تخصيص يومٍ للأرض والاحتفال به منذ عام 1970 بعدما شاهد بأم عينَيه التلوث البيئي الناجم عن تسرب النفط في سانتا باربرا بولاية كاليفورنيا عام 1969، مما هدد آنذاك حياة الأسماك والطيور المائية. تمكن نيلسون مع رفاقٍ له من حشد 20 مليون شخص في جميع أنحاء الولايات المتحدة في 22 أبريل 1970. لم يقتصر الاحتفال بيوم الأرض على الولايات المتحدة وحدها، إذ سرعان ما امتد خارجها. واليومَ تحتفل 184 دولةً بهذا اليوم، بحيث يجري التركيز على ظاهرة الاحتباس أو الاحترار الحراري وضرورة التخلي عن الوقود الأحفوري واللجوء إلى الطاقة النظيفة للحفاظ على الاستقرار البيئي.

لوحة وزعت في يوم الأرض (سوشيل ميديا)

 

نحتفل بيوم الأرض لرفع مستوى الوعي البيئي الفردي والمجتمعي. فبعد خمسة عقود ونيفٍ من إطلاق يوم الأرض ما زالت القضايا البيئية تشغل الرأي العام، وبات النضال من أجل بيئةٍ نظيفة أشد إلحاحاً من ذي قبل. ولعل مهمتنا الأولى اليومَ أن نكافح ونناضل من أجل أن تبقى الأرض كوكباً صالحاً للعيش.

بسبب نشاطات الإنسان تعاني الأرض آثارَ تلوث خطيرٍ متنوعٍ يتسبب بوفاة الملايين سنوياً. كان لتلوث الهواء الأثر الأفدح في هذه الوفيات. يليه تلوث المياه، ومن ثم تلوث التربة، وتلوث أماكن العمل. يؤدي تلوث التربة مثلاً إلى تلوث المحاصيل الزراعية والمنتجات الحيوانية كالحليب واللحم والبيض، الأمر الذي يؤدي إلى الإضرار بصحة البشر الذين يتغذون عليها.

شهدت أوروبا الغربية خلال القرن الثامن عشر نهضةً علمية شاملة كانت السبب المباشر في قيام الثورة الصناعية خلال القرن التاسع عشر كعمليات التصنيع الكيميائي وإنتاج الحديد وازدياد استخدام الطاقة البخارية والمائية وتطوير الآلات وظهور نظام المصنع الميكانيكي. بدأت الثورة الصناعية في بريطانيا العظمى. ومنها انتقلت إلى القارة الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية أوائل القرن التاسع عشر، وقد استثارت تحولاً خطيراً في التاريخ، إذ أثرت تأثيراً بالغاً في أنماط الحياة اليومية، سواءٌ في أوروبا أو خارجها، بدءاً من ارتفاع متوسط الدخل بشكلٍ مستدام إلى نمو السكان نمواً غير مسبوق. من جراء الثورة الصناعية حلت المكنَنة محل العمل اليدوي الذي كان يتمركز في غالبيته في العمل الزراعي.

تغير المناخ والاحتباس الحراري 

يشير تغير المناخ إلى التحولات الطويلة الأمد في درجات الحرارة وأنماط الطقس، إما بسبب عوامل طبيعيةٍ كنشاط الشمس أو الانفجارات البركانية الكبيرة، وإما بسبب الأنشطة البشرية لا سيما في القرنَين الأخيرَين. يرجع ذلك أساساً إلى حرق الوقود الأحفوري مثل الفحم والنفط والغاز. ينتج من هذا الحرق انبعاثات وغازات تؤلف غطاءً يلف الأرض، مما يؤدي إلى حبس حرارة الشمس ورفع درجات الحرارة. وهذا ما يُعرف بظاهرة الاحتباس الحراري أو الاحترار العالمي. وهو يعني تحديداً ازدياد درجات الحرارة السطحية المتوسطة في العالم مع زيادة كمية ثاني أوكسيد الكربون، وغاز الميثان، وبعض الغازات الأخرى في الجو. تُعرف هذه الغازات بالغازات الدفيئة لأنها تسهم في تدفئة جو الأرض السطحي. يؤدي ارتفاع درجات الحرارة هذا إلى ارتفاع منسوب سطح البحر وتغير كمية هطول الأمطار ونمط هطولها وتوسع الصحاري المدارية. كما قد يؤدي إلى انحسار الأنهار الجليدية، والأراضي الدائمة التجلد، والبحر المتجمد، مع تأثر منطقة القطب الشمالي بصورة خاصة. تشمل الآثار المحتملة الأخرى انكماشَ غابات الأمازون والغابات الشمالية، وزيادة حدة الأحداث المناخية المتطرفة، وانقراض بعض الأنواع، والتغيرات في المحاصيل الزراعية. لظاهرة الاحتباس الحريري إذاً أخطار كارثيةٌ على كوكب الحياة والإنسان.

يدا الإنسان هما الأرض (سوشيل ميديا)

 

أظهر علماء المناخ أن البشر مسؤولون فعلياً عن كل الاحترار العالمي على مدار الـ 200 عام الماضية، إذ تتسبب الأنشطة البشرية بانبعاث الغازات الدفيئة التي تؤدي إلى ارتفاع درجة حرارة العالم بشكل أسرع مما عرفناه في العصور الغابرة. ذلك بأن التغييرات في منطقة معينةٍ من الأرض تؤثر في التغييرات في جميع المناطق الأخرى.

تشمل عواقب تغير المناخ، من بين أمور أخرى، الجفاف الشديد، وندرة المياه، والحرائق الشديدة، وارتفاع مستويات سطح البحر، والفيضانات، وذوبان الجليد القطبي، والعواصف الكارثية، وتدهور التنوع البيولوجي. أما الناس فيعانون من تغير المناخ بطرق شتى. يمكن أن يؤثر تغير المناخ في صحتنا وقدرتنا على زراعة الغذاء والسكن والسلامة والعمل. وعليه، فإن كل زيادة في ظاهرة الاحتباس الحراري قد تؤدي إلى كوارث غير مسبوقة. لذلك على الجميع اتخاذ إجراءات مناخية، لا سيما الدول الكبرى التي تتسبب صناعاتها بالجزء الأكبر من الانبعاثات والغازات الدفيئة، مع أن آسيا كانت من أشد مناطق العالم تضرراً من الكوارث المناخية في عام 2023 بحسب الأمم المتحدة. من هذه الإجراءات خفضُ الانبعاثات، والتكيف مع تأثيرات المناخ، وتمويل التعديلات المطلوبة. في مقدمة هذه الإجراءات يأتي تحويل أنظمة الطاقة من الوقود الأحفوري إلى مصادر الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية أو طاقة الرياح، حتى يجري تقليل الانبعاثات التي تؤدي إلى تغير المناخ.

أدى انهيار الاتحاد السوفياتي إلى توحش الرأسمالية لا سيما الرأسمالية الأميركية التي كرست سياساتها وأدواتها الليبرالية لفرض الخصخصة وفلسفة السوق المطلقة المتوحشة، أي السوق-الغابة بحيث يكون البقاء للأقوى. تنطلق سياسة الرأسمالية المتوحشة من اختلاق الأزمات أو توظيفها وتحويلها إلى فرصةٍ من أجل تحقيق مصالحها الخاصة في الثراء الفاحش والسيطرة على العالم، حتى لو كان ذلك على حساب ملايين الفقراء والجَوعى. لا ننسَ أن غالبية رجال السياسة في البلدان الرأسمالية متورطون في مجتمع الشركات، بحيث تكون السياسة امتداداً للاقتصاد. الرأسمالية النيوليبرالية المتوحشة هذه تعاني أزماتٍ دوريةً تعيد من خلالها إنتاجَ نفسها. لذلك فإن الرأسمالية تتجدد عبر الأزمات المالية والاقتصادية وافتعال الحروب. لكن يُلاحظ في السنوات الأخيرة أنها باتت تستنفد قدرتها على تجاوز أزماتها البنيوية التي لم تَعد دورية، مما دفعها إلى مزيدٍ من التوحش وخلق التوترات الطويلة في العالم كله كحرب أوكرانيا التي ما زالت مشتعلةً من سنتَين ونيف وحرب غزة التي ما زالت مستمرة منذ أكثر من 200 يوم. علينا أن لا ننسى أمراً جوهرياً: لا شيء في عالم الاقتصاد والسياسة في عالمنا المعاصر يحصل بالمصادفة.

الإنسان المعاصر ومسألة التقنية

الحفاظ على الأرض (اليونسكو)

 

يزداد طغيان التقنية وسيطرتها شبه التامة على حياة الإنسان المعاصر لا سيما بعد تسارع تطور تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. فالمشروع التقني يتعاظم ويزداد قوةً يوماً بعد يوم، بل ساعةً بعد ساعة. والإنسان الذي سعى من خلال التقنية إلى تحسين وضعه البشري والعيش برفاهية وحماية نفسه من كوارث الطبيعة وجنونها، يكتشف اليومَ أكثر فأكثر خطورة النسق التقني الراهن. وعليه ما زالت مسألة التقنية مسألةً راهنةً، بل تزداد راهنيةً كلما تطورت التكنولوجيا وتعولمت وانتشرت في جميع أرجاء الكوكب.

من المرجح أن تكون القصة قد بدأت مع العصور الحديثة، وتحديداً مع ديكارت الذي سخِر من انفعال الاندهاش أمام الطبيعة بعدما كان هذا الاندهاش الباعثَ الأول على الفلسفة والتفلسف عند أرسطو. دعا فلاسفة الإغريق إلى احترام الطبيعة وعدم انتهاك قوانينها. وكذلك دعا لاهوتيو القرون الوسيطة إلى التأمل في الطبيعة وجمالها، في حين أن الفلسفة الحديثة التي أنشأت حضارةً مختلفةً عما وجدناه عند الإغريق وفي القرون الوسيطة، نظرت في الطبيعة نظرةً مغايرةً تماماً. فلم تعد الطبيعة تحمل أسراراً خاصةً كما لم تعد مسكونةً بآلهةٍ تُخيف الإنسان. لقد نظرت فيها بوصفها آلةً معقدةً بإمكان الإنسان أن يفك رموزها وألغازها ويعرف قوانينها التي تُسيرها. تناولتها كتاباً مفتوحاً يمكن قراءته. ومن ثم، بعدما اكتشف ديكارت الكوجيتو ويقين الذاتية وآمن بقدرة العقل البشري على الوصول إلى اليقين والحقيقة انطلاقاً من النور الطبيعي الموجود في كل واحدٍ منا بالتساوي، إذ جاء في كتابه مقالة الطريقة: “العقل أعدلُ الأشياء قسمةً بين الناس”، طفق يدعو إلى السيطرة على الطبيعة وتسخيرها لخدمة الإنسان وصنع آلاتٍ تُساعد الإنسان في سيادته على الطبيعة وتحقق مزيداً من الرفاهية. في هذا السياق يقول المفكر والأكاديمي مشير عون في كتابه “الإنسان في رعاية الكينونة: هايدغر في المتناول الفلسفي العربي”: “يستهل دِكارت (1596-1650) الانحجاب الثالث حين يعرف الحقيقة باليقين. مثل هذا التعريف لا يَصح إلا حين يستغرق الإنسانُ في تمثله الواقعَ وإخضاعه الأشياءَ وإقحامه الكائناتِ في مقولاته العقلية. فالإنسان غدا الذاتَ العاقلةَ صاحبةَ القرار الأخير في استنطاق الكائنات والموجودات والأشياء. بما أن يقين الكوجيتو الدكارتي (أفكر فأنوجد) هو الحقيقة المطلقة التي تقهر كل أصناف الشك، فإن الذات الإنسانية العاقلة التي تعتصم به تتقدم على كل الموجودات، وتتقدم على العالم بكليته، وتتقدم على كل فكرةٍ لتضحي المركزَ القطبَ الذي يأتي إلى الوجود من تلقاء ذاته، ويستجمع كل شيء في بصيرته، ويحكم على كل شيء وفاقاً لمرجعيته المعيارية. الذات المتيقنة من حقيقتها المعرفية تغدو مُقومَ جميعِ الكائنات الأصلي، بواسطتها يمكن الكائن أن يتحقق فيُظهِر كائنيتَه” (ص425).

شجرة الحياة (سوشيل ميديا)

 

هكذا بِتْنا إزاءَ حضارةٍ مختلفةٍ ودخلنا بقوةٍ في دوامةِ التقنية التي انطلقت من حضارةٍ تسعى إلى التغيير باستمرارٍ حتى وصلنا إلى النسق التقني الأخير الذي بدأ بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. في الكتاب عينه هذا، يقول مشير عون: “في صميم هذا الانقلاب يعاين هايدغر نشوءَ العقلانية الحسابة الحديثة التي تستند إلى ميتافيزياء اليقين الذاتي، وتُشرع الأبواب لهيمنة المعرفية الكونية الشاملة التي تُخضع الكائنات كلها لمخططها العلمي القاهر. إنه تخطيطٌ علمي شاملٌ يَقرن الكائنات بالذات الإنسانية، فيَسلبها قوامَها الخاص ويَنسبها إلى الحقل الذاتي، مستحضراً هذه الكائنات في صورة الوضع الإلزامي في قُبالة الذات الإنسانية حتى تصبح قابلةً أداءَ الحساب والخضوع المستكين. وعليه، فإن مثل العقلانية الديكارتية الميتافيزيائية هذه تُصور الطبيعةَ كلها في هيئة الآلة الضخمة التي تعمل وفاقاً لنظامٍ صارمٍ من الدقة والانضباط والائتمار الوظيفي التلقائي” (426).

واليومَ، لا سيما في السنوات الأخيرة، نعيش في نسقٍ تقني ما زال في طور الولادة والنشوء، إذ نلحظُ، في العقدَين الأخيرَين، تسارُعاً هائلاً في تطور التكنولوجيا وسيطرتها على الكوكب بأكمله ودخولها حياةَ كل إنسانٍ لا سيما بعدما تم صنع الهواتف الذاتية التي باتت رفيقةَ كل واحدٍ منا فلا تفارقه إلا عند نومه. وعليه، دخلت البشرية على الأرجح في عصرٍ تقني جديدٍ هو عصر الذكاء الاصطناعي التقني كما كنا دخلنا حديثاً في عصر الفضاء الافتراضي، بحيث طغت الحياةُ الافتراضيةُ على الحياةِ الواقعية، بل ولعل ما هو افتراضي طغى على ما هو حقيقي وصار هو “الحقيقي” بمعنًى من المعاني، في حين أن العيني والحقيقي صار هو الافتراضي، وبحيث طغى الاقتصاد الافتراضي على الاقتصاد العيني والحقيقي. تَرافق ذلك كله مع تعاظم شركات التكنولوجيا الكبرى من أمثال أبل ومايكروسوفت وإنفيديا التي زادت قدرتها على التحكم في حياةِ البشر وباتت قوةً ماليةً كبرى (تجاوزت مثلاً القيمة السوقية لشركة أبل التريليونات الثلاثة من الدولارات الأميركية منذ مدةٍ قصيرة، وإنْ تراجعت حالياً بعض الشيء). كما تَرافق ذلك مع قفزةٍ كبيرةٍ في الرأسمالية، أراها سلبيةً جداً، بعد انهيار مجموعة الدول الاشتراكية، فدخلنا مرحلة الرأسمالية المتوحشة التي سيطرت على مقدرات الأرض من خلال حفنةٍ قليلةٍ من البشر، ساعدتها التكنولوجيا في ذلك. في رأيي، باتت مكتسبات عصر الأنوار على المحك وصارت سيادة الدول وحرية الإنسان أمراً يكاد يكون من الماضي.

الأرض الأم (اليونسكو)

 

في ظل هذا الوضع الصعب والمعقد الذي ينذر بكوارثَ هائلةٍ ومتلاحقةٍ، سواءٌ في الاقتصاد (الأزمة المالية العالمية في العام 2008 كمثال)، أو على صعيد البيئة بحيث بات التوازن البيئي نفسُه مهدداً لا سيما بعد انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من اتفاقيات المُناخ، أو على صعيد السياسة، إذ خف منسوب القيم إلى درجةٍ مخيفةٍ في أداء السياسة اليومي لا سيما بعد حرب الإبادة في غزة، أو على صعيد الحياة الخاصة، بحيث انتشرت وسائل التواصل الاجتماعي وسادت وأدمن البشر على استعمال الهواتف الذكية، لا بد من إعادة طرح مسألة التقنية أو مشكلتها وإيقاظ البشرية من سباتِها التقني بعدما اعتقد الجميع أن التقنية باتت قدَراً محتوماً. وعليه، لا بد من إعادة طرح مشكلة التقنية طرحاً فلسفياً والتذكير دائماً بأن الإنسان هو الغاية، حتى لو تحول في فترةٍ من الفترات إلى مجرد وسيلةٍ ودخلت جسمَه عناصرُ تقنية ذكيةٌ جداً، وبأن التقنية مجردُ وسيلة حتى لو تحولت حالياً إلى غاية. كذلك لا بد من التذكير بأحقية الفلسفةِ وقدرتها على إعادة طرح هذه المشكلة ومعالجتها لا سيما بعدما سادت طوال العصر المنصرم مقولاتٌ ثرثارةٌ ولاغيةٌ عن موت الفلسفة ونهايتها ونهاية الميتافيزيقا، وبعدما أُعلِن عن موتِ الله وموتِ الإنسان وموتِ الذات وموتِ المؤلف وتراجع المذهب الإنسي أو الإنسانوي، وإنْ كان الإنسان يشهد حالياً إحياءً لافتاً.

يحاول الدكتور حسن الحاج، في كتابه الصادر منذ سنوات بعنوان الإنسان المعاصر وإشكالية التقنية، “رصد مظاهر التقنية المعاصرة في العقلانية التقنية والسلطة وتأثير ذلك في السياسة والدين والأخلاق، ومن ثم في مصير الإنسان المعاصر” (ص5). ويعرف التكنولوجيا بما يلي: “إن التكنولوجيا هي العلم الإنساني الذي يتخذ الإنسان والتقنية موضوعاً مشتركاً له” (ص48). لا شك في أن هناك أخطاراً تتهدد الإنسان المعاصر من جراء انغماسه في عالم التقنية التي غزت حياة الإنسان في جميع تفاصيله وباتت تسيطر عليه بعد أن كانت مجرد وسيلةٍ تساعد الإنسان في السيطرة على الطبيعة واستخراج خيراتها للعيش برفاهيةٍ افتقدناها في العصور السابقة. لكن ما كان مجرد وسيلةٍ صار غايةً في ذاته. والإنسان الذي كان غاية الغايات من السعي البشري يبدو اليومَ وكأنه صار مجرد وسيلةٍ في خدمة التقنية المتعاظمة مع الذكاء الاصطناعي وولادة الإنسان الجديد أو الإنسال.

ميتافيزياء التقنية

وعليه، هناك أفكارٌ، هناك أنظومةٌ فكريةٌ ميتافيزيائية تقف خلف التقنية وتؤسسها. وعلينا أن نذهب بالتحليل إلى المستويات العميقة هذه حتى نعرف إلى أين يسير بنا المشروع التقني الذي بات يهدد وجود الإنسان ذاته ويستنزف الطبيعة بطريقةٍ وحشيةٍ، مما أخرج الأرض عن طورها وجعلها تضرب في كل مكان. ما جرى في دبي، ومن قبلُ في ليبيا والصين وتركيا، ما هو إلا عينة من الظواهر الطبيعية المتطرفة التي نتجت من الفساد الذي أحدثه الإنسان في الطبيعة في سعيه إلى أن يكون سيدها. من جراء التقنية تغير عالم الإنسان بالكامل، وبات الإنسان رهينَ الأدوات التقنية التي يستعملها.

لا يمكننا أن نعالج مسألة التقنية من دون أن نعرج على هايدغر الذي تناول ماهية التقنية وتنبه إلى الميـتافيزياء التي تقف خلف المشروع التقني. في هذا السياق نقرأ في كتاب الدكتور حسن الحاج ما يلي: “ينطلق هيدغر في دراسته “مسألة التقنية” من التساؤل حول ماهية التقنية لأن التقنية وماهية التقنية ليستا الشيء نفسه” (ص112). وفي مكانٍ آخر نجد: “في الواقع إن هيدغر يعتبر أن مهمة الفلسفة هي إعادة التفكير بالكينونة وذلك بعد أن سادت الميتافيزيقا لقرونٍ عدةٍ فحولت العالم إلى مجموعة تأملاتٍ وغرقت في البحث عن الموجود ولم تستطع الولوج إلى كينونة الموجود. على ذلك فإن نسيان الكينونة يشكل العلامة البارزة في تاريخ الميتـافيزيقا، مما أدى إلى تكريس طبقاتٍ من التأويلات حجبت الكينونة عبر العصور […] من هنا يغدو العالم مجرد تأويل” (ص111).

وعن نسيان الكينونة بحسب هايدغر يقول مشير عون في كتابه: “كان مقصد هايدغر أن يُظهر أن جميع الفلاسفة الغربيين، ما خلا بعض الاستثناءات النادرة، أهملوا سؤالَ الكينونة وسؤالَ معناها، واكتفَوا بمساءلة كائنية الكائن die Seiendheit des Seienden. فنشأ من جراء هذا نوعان من الإشكال: إشكال الانحراف عن إصابة سؤال الكينونة، وإشكال نسيان الكينونة ونسيان النسيان” (ص418). في مكانٍ آخر من الكتاب يقول عون: “أعلن هايدغر أن معنى الكينونة ساقطٌ اليوم في النسيان، وأن الفكر الجديد ينبغي أن يَقف ذاتَه على خدمة الاستذكار الوحيد الذي يليق بكرامة الكائنات، عنيتُ به استذكار حقيقة الكينونة التي بواسطتها تنبسط الكائناتُ في حقول تجلياتها الحيوية الحرة. بيد أن بلوغ حقيقة الكينونة لا يتسنى للفكر الجديد إلا إذا تأول تاريخَ الميتافيزياء الغربية تأولاً يبلغ بها حدودَها القصوى أو أصولهَا الأوائل، إذ الفكرُ عينُه لا يصبح فكرَ الذات الإنسانية المتسلطة، بل فكرَ الكينونة نفسها” (ص415).

أما عن ميـتافيزياء التقنية بحسب تحليل هايدغر، فيعلن مشير عون: “يمكن القول إن التقنية تنطوي على أبعادٍ غير الأبعاد المادية الآلية الإنتاجية التي نختبرها فيها اختباراً ظاهرياً. فأين إذاً يقع معنى التقنية أو مضمونها الأعمق الناشب في ماهيتها؟ أوَفي الإتقان؟ كلا. أوَفي الصناعة؟ كلا. أوَفي الإنتاج؟ كلا. أوَفي الرغبة الابتكارية الساعية إلى الرخاء والهناء وإدامة الملذة وإطالة العمر؟ ربما. غير أن هذه الغاية لا تسوغ نشوءَ التقنية الحديثة على هذا النحو من الإسراف في استنزاف الأرض، واستنفاد الكائنات، واستخراج الطاقات. أصلُ التقنية، بحسب هايدغر، يكمن في الميتافيزياء التي تُعيِن للأشياء شروطَ تصورها، وأحكامَ انعقادها، وقواعدَ انبساطها، ومبادئَ أدائها، وقوانينَ فاعليتها. ومن ثم، يعلن أن تواطؤ هذه الأشياء على إنشاء العالم كلاً متماسكاً بات يخضع لسلطان العقل الميتافيزيائي الذي أباح لإرادة القوة والتسلط أن تفعل فعلَها في الكائنات” (ص413-414).

خلاصة القول إن التقنية صارت جزءاً لا يتجزأ من حياة الإنسان، تسهم بهمينتها المتعاظمة في استنزاف ما تبقى من موارد الأرض وخيراتها، مما يسهم في إفساد الأرض وفسادها. لذلك، حفاظاً على الحياة، تلجأ الأرض إلى نوعٍ من الجنون والعنف في التعامل مع الإنسان. في رأيي أن الأرض “مكلفةٌ” نوعاً من التكليف بالحفاظ على الحياة، وليس بالحفاظ على الأفراد الأحياء. بـ”كوارثها” (براكين، أعاصير، زلازل، إلخ) وجنونها، تبذل الأرض كل ما بوسعها لتحافظ على الحياة ولتبقى كوكب الحياة الفريد من نوعه في هذا الكون المذهل الشاسع بمسافاتٍ ضوئيةٍ لا يمكن تخيلها. لذلك ما نحسَبَه ونظنه بمنزلة كوارث تصيب الإنسان (حتى الضعفاء والأطفال يموتون بمئات الآلاف بسببٍ من هذه الكوارث) إنما هو مجرد وسائل تستعملها الأرض لحفظ الحياة وديمومتها. ومن ثم، إذا أردنا العيش بسلامٍ على كوكب الأرض، وَجَب علينا أن نحترم الطبيعة مجدداً ونحترم قوانينها في نوعٍ من العودة إلى الحكمة الإغريقية، وأن نحد من النشاطات البشرية التي تؤدي إلى تلوث الأرض وجنونها.

المزيد عن: يوم الأرضالتلوثالتصحرالاحتباس الحراينظرة فلسفيةالثورة التكنولوجيةالجشع الماليالفسادالبشرية

 

 

You may also like

Editor-in-Chief: Nabil El-bkaili

CANADAVOICE is a free website  officially registered in NS / Canada.

 We are talking about CANADA’S international relations and their repercussions on

peace in the world.

 We care about matters related to asylum ,  refugees , immigration and their role in the development of CANADA.

We care about the economic and Culture movement and living in CANADA and the economic activity and its development in NOVA  SCOTIA and all Canadian provinces.

 CANADA VOICE is THE VOICE OF CANADA to the world

Published By : 4381689 CANADA VOICE \ EPUBLISHING \ NEWS – MEDIA WEBSITE

Tegistry id 438173 NS-HALIFAX

1013-5565 Nora Bernard str B3K 5K9  NS – Halifax  Canada

1 902 2217137 –

Email: nelbkaili@yahoo.com 

 

Editor-in-Chief : Nabil El-bkaili