الخميس, ديسمبر 12, 2024
الخميس, ديسمبر 12, 2024
Home » سامر أبو هواش يكتب قصيدة ما بعد غزة متحررا من عبء الذاكرة

سامر أبو هواش يكتب قصيدة ما بعد غزة متحررا من عبء الذاكرة

by admin

 

ديوان “من النهر إلى البحر” يمثل أحد فصول “التراجيديا” في ما آلت إليه من شعرية الاستحالة

اندبندنت عربية / عبده وازن

يمثل ديوان الشاعر سامر أبو هواش “من النهر إلى البحر” (دار المتوسط – 2024) أحد فصول “التراجيديا” الفلسطينية في ما آلت إليه أخيراً من حال مأسوية قصوى، بعد غزو غزة وتدميرها، والإبادة المفتوحة، وعقب حركة النزوح الرهيبة التي لا تخفي مواصفات “الترانسفير” الوجودي، ولكن في هذا الفصل التراجيدي الفلسطيني الجديد الذي يمثله الديوان، لا بطولة ولا رموز ولا وقائع، كما في التراجيديات الإغريقية، بل ضحايا، لم يقعوا في ساحة حرب أو مواجهة، إنما تحت القصف العنيف، بين الخرائب، في الأحياء، وعلى الطرق، في مشهد مقتلة شاملة لا توفر كل ما هو حي، وكل ما هو جماد وحجر، أمام أنظار العالم، وخصوصاً العالم الأول الذي ما برح يرفع، بلا خجل، شعارات مثل حقوق الإنسان وحقوق المثليين وحقوق الحيوانات… “أبطال” ديوان أبو هواش، هم الأطفال والأمهات والعجائز الذين يواجهون القدر الغادر، بأيدٍ عارية وأعين مجروحة، يقفون في العراء ويتشردون جائعين، معدمين، أو يرقدون تحت التراب ويهجعون بين الأنقاض.

يكتب سامر أبو هواش القصيدة الفلسطينية الجديدة، ليس في كونها فقط قصيدة الضحايا الذين غلب على أمرهم، وبات لا بد من الاعتراف بهم مغلوبين على أمرهم، ولا فقط قصيدة الأرض الخراب التي قضت عليها جحافل الجراد، ولا قصيدة اليأس الوطني العام والحداد، بل في كونها قصيدة البداية التي تقوم على شفير النهاية، قصيدة المأساة التي قلبت ملهاة دامية، قصيدة العودة التي تؤكد اللاعودة. يقول الشاعر: “أعرف أننا وصلنا إلى حيث لا شيء يعود. نسميها نقطة اللاعودة أو نقطة اللاذهاب”.

ديوان “من النهر إلى البحر” (دار المتوسط)

لقد تحرر سامر أبو هواش من العبء الذي ورثه عن شعراء فلسطين، شعراء القضية، القدامى والجدد، مثلما تحرر من هالة الأيقونة الأزلية وصورة الفارس الذي هو العاشق والشهيد والحالم، ومن سحر التراجيديا الفلسطينية نفسها التي أضحت تمثالاً لا بد من الانحناء أمامه. وقد تكون قصيدته “لم يعد مهماً” هي قصيدة فلسطين الجديدة، القصيدة التي تتحقق في إمكان النفي المطلق، والعبث الممكن، قصيدة الخروج إلى أقصى الألم النفسي والجسدي والمعنوي.

معارضة محمود درويش

وعلى رغم مأسويتها لا تتخلى القصيدة عن الألفة والعفوية، بل تبدو ظاهراً كأنها اعتراف وجداني، بعيداً من أي خلفية أيديولوجية أو تداعٍ ثقافي. حتى معارضته المعلنة لمقولة الشاعر محمود درويش “على هذه الأرض ما يستحق الحياة” التي ترددت وتتردد كثيراً على ألسنة القراء الكثر، بصفتها مثلاً سائراً أو حكمة، لم تبد معارضة ثقافية، ولم تسع إلى مناقشة فكرية، مقدار ما هي ابنة اللحظة الوجدانية و”العاطفية” ورد الفعل الإنساني التلقائي الذي يعيشه الفلسطيني في ذروة الجحيم الغزاوي، خصوصاً، وفي توالي الخسائر الشاملة والموجعة. يعرب أبو هواش عن انتفاء الحياة على هذه الأرض، الحياة الفلسطينية، الحياة التي لا يبدو أن الفلسطينيين وعدوا بها أصلاً، مستخدماً “ليس” النافية، قالباً المقولة الدرويشية على عقبها. وقد تكون هذه القصيدة بمثابة بيان عن قصيدة أو شعر ما بعد غزة، شعر فلسطين والعالم العربي، الشعر الجديد، الذي كان لا بد أن يترسخ بعد مجازر غزة وسواها، ولا شك في أن غزة تمثل ذروة المأساة.

معارضة الشاعر محمود درويش (سوشيل ميديا)

هذا الشعر، يجسده ديوان “من النهر إلى البحر” خير تمثيل ويرسم له طريقاً يفضي إلى شعرية جديدة، ترتكز إلى استحالة مواصلة كتابة القصيدة الفلسطينية السابقة، بعد بلوغ المأساة أوجها. وفي هذا القبيل يعبر الشاعر عن الاستحالة التي تبدو الكتابة إزاءها ضرباً من العبث، ويغدو الكلام حالاً من اللاجدوى: “هذا وقت الجثث ولست مضطراً إلى قول شيء ليس عليك سوى أن ترمي بصرك في أي اتجاه وسترى جثة أخرى”.

انطلاقاً من هذا المأزق التعبيري الوجودي، يكتب سامر أبو هواش القصيدة التي تشعرن الاستحالة، ناقضة إياها، بلغة الممكن والواقعية القاسية واللاغنائية، وبالنفس الرثائي الخفيض، واللعبة المشهدية والصورية. ولا يعارض أبو هواش مقولة درويش هذه ألا ليتبنى من وجهة أخرى صرخته التي قال فيها “أنقذونا من هذا الحب القاسي”، معلناً: “لم يعد مهماً بعد اليوم أن يحبنا أحد”. ويمضي أبعد وأعمق في رفض هذا الحب المستعار ونقضه، مانحاً موقفه بعداً ميتافيزيقياً وروحياً ومقداراً من الهتك أو السخرية السلبية والإيجابية في وقت واحد، كأن يقول: “يكفي أن يحبنا الملاك العظيم/ في سمائه الناصعة”، هذا الملاك الذي “يراه أطفالنا واقفاً في البعيد/ ضاماً يديه في رسم قلب/ فيبتسمون”، والذي “تراه نساؤنا… فيغمضن عيونهن مرة/ وإلى الأبد” و”يرى رجالنا أجنحته الزرقاء… فتنخطف قلوبهم/ ويشدون الرحال إليه”.

 سيزيف الفلسطيني

الشاعر سامر أبو هواش (صفحة الشاعر- فيسبوك)

يجعل أبو هواش من مفتتح القصيدة هذه “لم يعد مهماً بعد اليوم أن يحبنا أحد”، جملة فاصلة (لا يتموتيف) تتكرر بين مقطع وآخر، ليطور القصيدة ويفتح أفقها وعمقها على التفاصيل التي ترسخ الرغبة في هذا الرفض، ومنها أن الطائرات “حررتنا من آذاننا/ التي كنا نسمع بها كلمات الحب”، وأن “القذائف حررتنا من عيوننا/ التي كنا نرى بها نظرات الحب”، وأن “الكلمات السود حررتنا من قلوبنا/ التي كنا نرعى فيها تعاويذ الحب”. ويقع الشاعر في هذه القصيدة على مقولة رائعة وصارخة وصامتة هي “التعب من فكرة الأرض”، وهو لئن ينسبها إلى الشيوخ أو العجائز المتعبين، فهي تستحق أن تكون عنواناً للشعرية الجديدة، شعرية ما بعد غزة. فهي تمثل “التعب الفلسطيني العام” من كل أمر وكل وعد وكل مستقبل. التعب من “كلمات تقال ولا تقال/ ومن أيدٍ تمتد ولا تمتد/ ومن عيون ترى ولا ترى…/ تعبنا من تشبث أمهاتنا/ بما بقي من منا”… ولا يني أن يمنح التعب صورته السيزيفية التي تصيب كنهه قائلاً: “تعبنا من صخرة نحملها على ظهورنا/ لعنة أبدية/ نمضي بها من هاوية إلى هاوية/ ومن موت لموت/ ولا نصل”.

وعقب السيزيفية تظهر صورة “التيه الأخير” و”التقدم في صحراء العالم”، “لا يرافقنا أحد في جنازة أنفسنا”. هذه القصيدة التي تبدو خادعة في بساطتها وهدوئها، هي القصيدة التي تفترضها، بل وتؤكدها مأساة غزة، التي يجب على الشعر بعدها أن يكون مختلفاً، بل شعراً آخر. وفي قصيدة أخرى يبلغ اليأس مبلغاً مما يحمل الشاعر على نقض حكايات الوعد الخرافية، هذه الحكايات التي تغلف الأسطورة الصهيونية المؤسسة، معترفاً: “لم يعدنا رب بشيء”، و”أهملت ذكرنا الكتب/ تركنا نطارد أشباحاً تطاردنا”. يسقط الشاعر الهالة التي طالما أحاطت بالأرض الفلسطينية مجازاً، في كونها أرض التوحيد، جاعلاً من الفلسطينيين، على اختلاف طوائفهم، ضحايا مستثنين من حصة الخلاص.

بين النهر والبحر

إنها مأساة الأرض التي تقع بين النهر والبحر، والتي لم يتح لها في العصر الجديد، أن تدرك معنى أن تكون فسحة بين ماءين رمزيين، وبين شواطئ وضفاف متعددة الهويات، زهرة المتوسط، أيقونة مقدسة، أرض زيتون وعنب وملح. ولعل اختيار أبو هواش هذا العنوان، هو بمثابة رد على المقولة الخرافية “من النيل إلى الفرات” التي ما برحت سائرة، على رغم عن حقائق الجغرافيا والتاريخ، بل ضد العصر الحديث الذي يشهد سقوط فكرة التخوم أصلاً عقب يقظة العالم الجديد. إنها الأرض التي جردوا الفلسطينيين منها، فلم تعد سماؤها سماءهم، ولا بيوتها بيوتهم كما يقول في قصيدة: “هناك فوق أرض – قيل لنا – ليست أرضنا/ تحت سماء – قيل لنا – ليست سماءنا/ يعيش أهلي موتهم”. ويواصل حال النفي هذه، شاملاً الحياة نفسها، قائلاً: “حياة قيل لنا إنها – هي الأخرى – ليست لنا”، وكأن الفلسطينيين كما يعبر، مقتلعو الجذور والماضي: “لم نأتِ من جهة ولا من مكان/ تساقطنا كالغبار من نجمة ميتة”.

يعلن الشعر في الديوان انحيازه إلى بطولة الطفولة، في كل ما يحيط بها من معجم العائلة، الأخت والأم والجدة والأخ والأب والجد، ناهيك بالمكان الذي كان، والذي أضحى أنقاضاً وأرضاً خراباً. وشاء الشاعر أن يدون الكارثة هنا تدويناً مشهدياً يومياً أليفاً بوحشيته، ناقلاً تفاصيل التفاصيل، التي لا تهمل يداً مقطوعة ووجهاً مشوهاً وعيناً مفقوءة وابتسامة مذبوحة. تغلب المشهدية على القصائد، وكأن غزة “شاشة” سوداء وبيضاء، تنعكس عليها الوقائع الفظيعة، كما في عرض “مسرح الظل”. وقد رافق الشاعر فصول الكارثة “جالساً أمام التلفزيون”، مثله مثل مواطني العالم، هذا التلفزيون الذي بات شاشة القتلة والقتلى، الجزارين والضحايا، مهما سعى بعض المزورين إلى تزييف صوره، لكن جلوسه يدفعه إلى أن يكون “الواقف منذ الأزل”، في طباق وجودي سوداوي، وأمام هذا التلفزيون. ويضيف، “أردت أن أقول”، وما يقوله حيال لحظات الإبادة، هو سيل من المفردات التي تنتمي إلى معجم الكارثة: الجريمة والجنون والصرخة واللعنة والخذلان واليأس والتاريخ والألم. ويضيف، “أردت أن أقول السكاكين وليس الدماء التي تسيل ولا اللحم الذي يقطع”، منتهياً في القول كما في الرمق الأخير: “هذا العالم مسلخ آخر”. يتخطى الشعر في مثل هذه المقاطع دوره في كونه شاهداً على المجزرة وفاضحاً لها إلى كونه مادة لها، مادة لغوية وصورية. ولعل بعض التعابير والصور تسترجع قسوة المجزرة كما جسدها رسام العصر، البريطاني فرنسيس بيكون، الذي تفيض لوحاته بالأجساد المشرحة واللحم المقطع.

تحتل المشهدية “الطفولية” ببعدها الأبوكاليبسي والكابوسي، قصائد عدة في الديوان حتى ليبدو الشعر احتفالاً مأسوياً بـ”الطفولة” الفلسطينية، وما تستتبع من أمومة وأبوة وأخوة. مشهدية نظرات الأطفال بين الخرائب، نظرات “دائماً شاخصة/ دائماً ثابتة/ دائماً واضحة”، لكنها موجهة “صوب نهايات لم يرها أحد”، وكأنما النهاية عماء تام. وفي هذا المشهد القاسي والحاد، تمتد يد طفلة “من بين الشقوق”، أو “تلوح يد دامية/ من تحت الأنقاض”، وينبت “وجه طفل وشعره وأسنانه، وربما ابتسامته في “ذراع طفل آخر”. لقد انقلب مشهد القتل والتقطيع، وتداخلت الأشلاء بعضها ببعض، وارتسمت ملامح أجساد جديدة وبشر جدد: “أرى قدماً في موضع اليد وقبضة تمتد من الفم وأرى الأجساد جذوع أشجار مقطوعة”. لم تبق أسماء ولا وجوه، بل أرقام مدونة على الأيدي والسيقان، أو على أكفان النيلون.

مرثية الفتى

يكتب أبو هواش في قصيدة “اسم في متاهة” ما يمكن أن يسمى مرثية الفتى الفلسطيني الذي يسميه “إسماعيل”، وعبرها يسترجع الغنائية الشفيفة والخفيضة النبرة من شدة وهجها الداخلي، وهي تخرج بـ”المرثي” إسماعيل إلى مرتبة الشهادة الإنسانية. وتبدو القصيدة على مقدار من الألفة التي تليق بـ”إسماعيل” الذي لم يبق منه سوى اسمه، والذي قفز في صوته واختفى، كما يعبر الشاعر، مثل “أغاني رعاة ضلوا السبيل/ فسكنوا الهواء”. “إسماعيل” الذي بقي “اسماً بغير شاهدة/ بغير صوت”، والذي لم يعش عمره ولم يمته، بل الذي لم يكن “سوى ولد يلهو/ في بساتين حيفا”… قصيدة أشبه بنشيد، ينسال بإيقاعاته وتناغماته وصوره وتفاصيل الحياة التي هي حياة “إسماعيل”، اليومية.

ولعل إحدى مفاجآت الديوان قصيدة غير طويلة عنوانها “عن قاتل لا أريد ذكر اسمه”، هو شارون مرتكب المجازر، شارون السفاح، الذي رقد في غيبوبة قبل موته. والمفاجأة هنا تكمن في أن يكتب شاعر فلسطيني قصيدة عن موت ديكتاتور إسرائيلي هو في موقع العدو التاريخي، والقصيدة هجائية، ولكن خافتة النبرة، لا صرخة فيها، حتى لتغدو كأنها قصيدة ضحايا هذا الجزار، الذين يجعل الشاعر نفسه واحداً منهم، ضحية الرعب الكابوسي الذي يمثله هذا السفاح. فالشاعر – الضحية يصلي كي يبقى السفاح راقداً في غيبوبته الطويلة وقابعاً إلى الأبد “بعينين مفتوحتين/ في تلك الظلمات”، بل يصلي كي لا تفارق نوم السفاح “أطياف القتلى/ ونظراتهم وأناتهم…”. ويصلي أيضاً “لكي تخرج من رأسي/ ومن كوابيسي/ ومن لغتي/ حتى اندثرت أخيراً”. لعلها من أقوى القصائد التي تكتب عن السفاح، بمثل هذا الصوت الخفيض، صوت الضحية نفسها التي تفضح جزارها وتهجوه.

ديوان من “الماء إلى النهر” محطة في مسار الشعر الفلسطيني، أي العربي الراهن، على رغم أنه لا يكاد يبلغ المئة صفحة، فهو يحمل ملامح ولادة قصيدة فلسطينية جديدة، بل معالم شعرية فلسطينية غير مألوفة بجرأتها وانكشافها ورقتها بصفتها منحازة انحيازاً تاماً إلى الضحية التي هي فلسطين وإلى الضحايا الذين هم أهل فلسطين أطفالاً وأمهات وآباء وعجائز… عطفاً على البيوت والأحياء والحقول، وعطفاً أيضاً على الذاكرة.

المزيد عن: شاعر فلسطينيقصائدمجموعة شعريةغزةشعرية الاستحالةالذاكرةالهالة التاريخيةالنشيدالغنائية

 

 

You may also like

Editor-in-Chief: Nabil El-bkaili

CANADAVOICE is a free website  officially registered in NS / Canada.

 We are talking about CANADA’S international relations and their repercussions on

peace in the world.

 We care about matters related to asylum ,  refugees , immigration and their role in the development of CANADA.

We care about the economic and Culture movement and living in CANADA and the economic activity and its development in NOVA  SCOTIA and all Canadian provinces.

 CANADA VOICE is THE VOICE OF CANADA to the world

Published By : 4381689 CANADA VOICE \ EPUBLISHING \ NEWS – MEDIA WEBSITE

Tegistry id 438173 NS-HALIFAX

1013-5565 Nora Bernard str B3K 5K9  NS – Halifax  Canada

1 902 2217137 –

Email: nelbkaili@yahoo.com 

 

Editor-in-Chief : Nabil El-bkaili
-
00:00
00:00
Update Required Flash plugin
-
00:00
00:00