بأقلامهم جهاد الزين يكتب من بيروت عن : في الانتقال المستمر بين الكتاب الورقي والكتاب الديجيتالي: قراءات بعد منتصف الليل by admin 21 يونيو، 2023 written by admin 21 يونيو، 2023 58 لا بد من إيجاد طريقة ما للعودة السهلة إلى المكتبة الديجيتال فلا تختلط المواد التقريرية أو المقالات والدراسات المؤرشَفة مع عناوين الكتب على الإنترنت مما يخلق فوضى تشبه أو لعلها تشبه المكتب – المكتبة التي تتناثر فيها الأوراق المختلطة بنسخ الكتب بما هو دون الحد الأدنى من التعايش المنظّم. النهار اللبنانية – جهاد الزين لم يكن الكتاب عن الصين لباحثة أميركية والذي راجعته مؤخرا في حلقتين، الكتابَ الأول الذي أقرأه على الإنترنت (pdf) بعدما أصبحَتْ نسخ الديجيتال من الكتب الغربية والعربية شائعة اليوم ومعها تتغيّر عاداتنا من استصعاب هذا النوع من القراءة إلى استسهاله. فقد غيّرتنا التكنولوجيا أو ما أسمّيه دائما “عضة التكنولوجيا” تيمُّناً بفيلم جاك نيكولسون الرائع الذي يلعب فيه دور مدير دار النشر الذي تُغيِّر حواسَه عضّةُ ذئب وتحوِّله تدريجيا إلى ذئب. لكن كتاب إليزابيت إيكونومي عن الصين هو الكتاب الأول الذي أشتريه وأقرأه على kindel بينما قراءاتي السابقة للكتب المطبوعة إلكترونيًا كانت مجانية. فقد صار من أجمل اللحظات عندي، هي اللحظة عندما أتلقى كتابا من صديق مع عنوانه الإلكتروني ومضمونه. وهذا لا يعني مطلقاً أنني فقدت متعة قراءة الكتب الورقية التي لا يزال يُشعرني وصولُ أحدها إلى مكتبتي المنزلية أو أشتريها حين تتاح لي فرصة زيارة مكتبة تجارية أو معرض، بأن “ثروتي” الصغيرة لا تزال تكتنز، خصوصا إذا كان ذلك من الكتب التي أعتبرها ضرورية للاطلاع عليها ضمن دائرة اهتماماتي السياسية والفكرية والفنية والأدبية، وتحديداً الكتب ذات الحرف الطباعي الكبير المريح للقراءة. وألاحظ بالمناسبة تزايد توزيع الكتب ذات النسخ الإلكترونية أو التي حوّلَتْها جهود معلنة أو غير معلنة إلى نسخ ديجيتال لاسيما ما لاحظته مؤخرا في مصر ولبنان وأوسع من ذلك في العالم العربي، تحويل عدد من كتب الكلاسيكيات إلى نسخ على الإنترنت وأسعدني ذلك كثيرا رغم أني لا أعرف من هم هؤلاء الجنود المجهولون الذين يقومون بهذا العمل المهم “الأنتي تجاري” في إتاحة المجال لتعميم المعرفة وتسهيل قراءتها. المشكلة التي أواجهها اليوم هي ليست في القراءة بل في تنظيم المكتبة الجديدة الديجيتال التي تتراكم كتبها على “الأي باد” وال “أي فون” الآن بشكل فوضوي بينما أبحث عن طريقة لتنظيمها للعودة إليها حين يلزم الأمر، وفي مهنتي كصحافي يعطي حيزا واسعا من عمله لمراجعة الكتب أو الاتكاء على معلوماتها في مواضيع مختلفة، وهذا مختلف عن المراجعة كأحد فنون المقالة. الانتقال كان طويلاً من المخطوطة إلى الكتاب. مرت مراحل تاريخية كان الاحتفاظ بالكتاب – المخطوطة جزءا من علامات السلطة وأهلها ومرت مرحلة في العهد الروماني كان من أهداف الغزو العسكري السطو على المخطوطات وتجميعها. بعد الانتقال إلى المسيحية ستصبح الأديرة لقرون المركز الأهم لتجميع الكتب المخطوطة وسيكون عمل الرهبان، إلى الزراعة، مركَّزاً على نسخ المخطوطات. ستقضي الثورة الطباعية، اختراع المطبعة، تدريجياً على أي احتكار سلطوي أو ديني للكتب مع تعميمها على الطبقات المختلفة، مع العلم كما يلاحظ ويسرد كتاب أندرو بيتيغري وآرثر در ويدوون الرائع (الصورة للغلاف) تحت عنوان “المكتبة” – وهو تأريخ لمسار الاحتفاظ بالكتب في مختلف أشكالها اليدوية والطباعية في التاريخ الروماني والمسيحي الأوروبي – ستصبح الجامعات تدريجيا مركز المكتبات الأهم وتحسم هذا التفوق في عصر النهضة عندما كانت مكتبات بعض الجامعات تربط كتبها بسلاسل منعا لسرقتها… إلى أن تبدأ الثورة الطباعية بالتعميم غير المسبوق للكتب. بين سلاسل الذهب في مكتبات الأريستوقراطية الأوروبية لتزيين كتبها وبين سلاسل الحديد في الأديرة والجامعات لحمايتها، سيستمر نمو المكتبات وتعميمها إلى الوصول للمكتبة التجارية. لكن التاريخ الاستعماري كما يُظهِر كتاب بيتيغري و ويدوون ليس مفصولا عن اتساع وتركيز دور المكتبة العامة عندما كان الجيش البريطاني ينشئ المكتبات لجنوده كما في الهند، وتحديدا في بومباي وكالكوتا وينظّم عمليات قراءة محتوياتها. لكن، حسب الكتاب، ارتبط اقتناء الكتب وتعلّمها لدى المستعبَدين في بعض مناطق إفريقيا، بالتحرر من العبودية، ولذلك كان بعض المبشرين البروتستانت يشجعون العبيد في بعض المستوطنات لتشجيعهم على التحرر، وهذا ما كان يحصل فعلا في العديد من الأحيان. لقد كان الحرص على “التنوير” والثقافة بين الجنود عبر نشر الكتب في بعض المستعمرات،يتناقض بوضوح مع السلوك الاستعبادي للسكان الأصليين. جهل بعض الرهبان (كجهل بعض العمائم)، إذْ يمكن أن تسلِّمهم الأقدار إرثاً ثقافياً ثميناً لا يعرفون قيمته حتى وهم ينسخونه كما يشير كتاب بيتيغري و ويدوون المذكور. أعني هنا الصلة بالمضمون لا القيمة الفنية الشكلية للكتاب أو المطبوعة بدءاً من الغلاف. ليس من حضارة كبيرة بلا شكل ما أو أشكال من المكتبات. خلفاء المسلمين مثل أباطرة الهند والصين ثم ملوك أوروبا جمعوا الغالي والنفيس لتجميع مكتبات. هذا معروف ولا تزال الحضارات كضباط المباحث تتناقل أخبار وتهم سرقات المكتبات الكبيرة، وبينها السطو الحرفي للاحتلال الإنكليزي للهند على مكتبة الأمبراطور المغولي المعزول. لا زلت في الكتاب، وواحدة من ألطف الصور في الكتاب مشهد باعة الكتب المتجولين في بعض الولايات الأميركية يمتطون أو يمتطين الأحصنة حاملين معهم أو حاملات معهن إلى تجمعات سكنية ريفية أو قصية مجموعة من الكتب للبيع. هذه هي الطريقة الأميركية التي تطورت في نيويورك في أوائل القرن العشرين إلى توزيع مجموعات من الكتب للبيع في مراكز البريد، أما الطريقة الفرنسية، حسب الكتاب، فلم تلجأ إلى “مكاري” الكتب (وأستعير التعبير من فلاحي بلادنا)، بأنها أتاحت باكرا لمواطنيها استخدام مكتبات المدارس. مكتبتي بعد منتصف الليل أوغل الليل، والأهل نيام، وأنا مثل ملايين بل مليارات البشر، محظوظ بأني أعيش عالم الإنترنت. هل كنتُ سأكون محظوظاً بالنسبة المدهِشة والمدهَشة نفسها لو عشت عصر الانتقال من المخطوط إلى المطبوع، وهو انتقال تأخر كثيرا في أصقاع متخلفة من العالم (ورثتُ في مكتبة جدي وعمليا جد جدي كتبا قليلة مخطوطة باليد كانت لا تزال تُستعمل حتى أوائل القرن العشرين ووجدتها موضوعة في المكتبة إلى جانب الكتب المطبوعة). أجد نفسي حاليا أمام خليط من التحديات تفرضها القراءة: حجم الحرف الطباعي والذوق الشكلي الذي يجعل الكتاب التقليدي في مكتبتي، وأي مكتبة صغيرة أو كبيرة، جزءا من نسيج جمالي يشبه نسيج السجادة المحاكة يدوياً، تترامى أطرافها في مساحة ليست مساحة سوى في تشكّل عقد غير مرئية تطلق ذرات ضوئية هادئة في القلب والعقل. الصمت الذي ينبعث من مكتبة هو كالورد الذي يشع من سجادة يدوية، عميق ومتماسك وساحر. رغم عملي المتزايد ساعات طويلة وراء مكتبي داخل المكتبة، أحب أن أزور غرفة مكتبتي بعد منتصف الليل فأنتقل من غرفة نومي إليها وأدخلها كما يدخل زائر إلى صومعة بعيدة هجرها رهبانها. مكتبتي بعد منتصف الليل احتفال دائم يعج بالمفاجآت. المكتبة هي جرار المعرفة لرعيان الثقافة. وهي أيضا مخبؤهم الأمين لممارسة ترهاتهم النبيلة. أسمع أصواتهم هنا. لا يتسامرون فقط، بل يطلقون صيحات لم أفهمهما جيدا بل لم أفهمها. إنهم ولو جلسوا معا فهم من عصور مختلفة. يطلقون ضحكاتهم ليس علينا بل على بعضهم البعض في جلال التهكم وعبثيته المهيبة. ما أجمل الطبعة الأولى القديمة من أي كتاب. تماما كما يمكن القول ما أروع صور الجَدّة في ثياب عرسها. الطبعات الأولى هنّ أميرات لوحات عصر النهضة وبينهن الأعجوبة “الجوكوند”. الغلاف القديم، السجادة القديمة، يعطيهما الزمن بدل الصدأ والإهتراء والتمزق إذا نجيا منها، يعطيهما مهابة الزمن القديم نفسه. أنا لا أريد أن أظلم مِتَعَ مهنة الطباعة الحديثة المستمرة كمتع للآن، وقد عشت ما يكفي وما لا يكفي لأشاهد متعة الطباعي، وأكاد أقول نشوته، وهو يشاهد كتابا جميل الإخراج ونظيف الطباعة خارجاً للتو من المطبعة أو كما يحب أن يقول المطبعيون على اختلاف طبقاتهم، من الحرفي، إلى المخرج، إلى الناشر: نظيفة! لدى المصريين ما يسمونه الطبعة الشعبية كما لدى الفرنسيين “كتاب الجيب”, هذه وذلك يمنحهما الزمن نبالَتهما وأناقتهما وطبعا عراقتهما. أكاد أقول الغبار الناعم وأحيانا الخفي هو جزء من نظافة النسخة القديمة وسحرها. صحيح أنني ورثت مكتبة أو جزءا من مكتبة صغيرة متواضعة، لكن، أُقْسِم بالآلهة، لو لم تكن مكتبتي تضم الكتب التي قرأتها وأحيانا تعبتُ في الحصول عليها كما في قراءتها، لما عنت لي أكثر من كون كتبها القديمة مجرد أثاث قديم مهما تألّق منظره. الكتب التي عليها آثاري من عرق يدَيْن وبصمات وحبر وتفتيش وتفكير واستغراب واستمتاع وضجر ويأس وتشجيع هي مكتبتي التي تشبه حاليا ملجئي الحصين والعميق والهادئ الذي حفرته بعينيّ الناعستين ثم المتِّقدتين بين فكرة وفكرة. لا بد من إيجاد طريقة ما للعودة السهلة إلى المكتبة الديجيتال فلا تختلط المواد التقريرية أو المقالات والدراسات المؤرشَفة مع عناوين الكتب على الإنترنت مما يخلق فوضى تشبه أو لعلها تشبه المكتب – المكتبة التي تتناثر فيها الأوراق المختلطة بنسخ الكتب بما هو دون الحد الأدنى من التعايش المنظّم. فمكتبتي الكلاسيكية المطبوعة عزيزة عليّ، أكرِّر، لأن لي علاقة تعب ومجهود، أي قراءة وتسطير، مع معظمها. عليها سهر الليالي و”سهر” النهارات وعليها التشويهات بالحبر الناشف أو الرصاصي التي كما تقول زوجتي العزيزة وشريكتي في كل شيء أنها، هذه التشويهات الحبرية الضرورية لتنظيم ذاكرتي، “تجرح” الكتاب وتؤلمه وأن الأفضل وضع أوراق صغيرة منفصلة على وبين الصفحات المراد تذكرها. … (من كتاب جديد لي) jihad.elzein@annahar.com.lb Twitter: @ j_elzein 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post نوفا سكوشا: وفاة مريض في مستشفى لعدم وجود طبيب next post Province expands financial support for small businesses impacted by wildfires You may also like ساطع نورالدين يكتب عن: “العدو” الذي خرق حاجز... 24 نوفمبر، 2024 عبد الرحمن الراشد يكتب عن: شالوم ظريف والمصالحة 24 نوفمبر، 2024 حازم صاغية يكتب عن: لبنان وسؤال الاستقلال المُرّ 24 نوفمبر، 2024 مها يحيى تكتب عن: غداة الحرب على لبنان 24 نوفمبر، 2024 فرانسيس توسا يكتب عن: “قبة حديدية” وجنود في... 24 نوفمبر، 2024 رضوان السيد يكتب عن: وقف النار في الجنوب... 24 نوفمبر، 2024 مايكل آيزنشتات يكتب عن: مع تراجع قدرتها على... 21 نوفمبر، 2024 ما يكشفه مجلس بلدية نينوى عن الصراع الإيراني... 21 نوفمبر، 2024 غسان شربل يكتب عن: عودة هوكستين… وعودة الدولة 19 نوفمبر، 2024 حازم صاغية يكتب عن: حين ينهار كلّ شيء... 19 نوفمبر، 2024