ثقافة و فنونعربي المدفون حياً يلتقي حبيبته ويعود في رواية “صاحب السر” by admin 3 أكتوبر، 2021 written by admin 3 أكتوبر، 2021 16 عمار علي حسن يمعن في السرد التخييلي إنطلاقاً من وقائع شعبية اندبندنت عربية \ محمد السيد إسماعيل مثلما اهتم النقد الأدبي الحديث بدلالات العنوان والإهداء وشكل الغلاف في ما يُعرف بعتبات النص التي لفت الناقد الفرنسي جيرار جينيت الأنظار إليها ووجّه إلى ضرورة الاهتمام بها بوصفها مداخل مهمة لقراءة النص، فهو اهتم أيضاً بدلالات أسماء الشخصيات السردية. وهذا ما نلاحظه في مجمل أعمال الكاتب المصري عمار علي حسن الروائية والقصصية، ومن ذلك اسم بطل روايته الأحدث “صاحب السر” (الدار المصرية اللبنانية) مرزوق الحر. فلا شك في أن لقب الحر هو سبب مأساة هذا الرجل، لأنه لم يقبل ظلم “العمدة” وفساده، ما جعل الأخير يقوم بدفنه حيّاً، مستغلاً إصابة الأول بغيبوبة مؤقتة من جراء اعتلال كبده. وعندما يفيق مرزوق، يجد نفسه راغباً بالثأر، الذي لا سبيل إلى تحقيقه سوى الخروج من القبر لينشر في قريته والقرى المجاورة ما يخفيه من أسرار العمدة. الرواية تدور بين الموت والحياة، إذ يتمكّن مرزوق من الحديث مع الأموات، بخاصة حميدة حبيبته التي اختطفها الموت. إنه على بعد خطوة من الموت لكنه ما زال حياً يصارع الفناء. وكما كانت نهايته في هذه الحالة البينية، كانت حياته – أيضاً – قريبة من هذه الصورة. فهو طالب حقوق لم يكمل تعليمه ومات والداه وأخوه بالتبني. وعلى الرغم من يتمه، فإنه كان محل ثقة الكثيرين، يحكون له أسرارهم كأنهم يمارسون طقس “الاعتراف” أمام أحد القساوسة. وكان السر المزلزل الذي حكته له زوجة العمدة يتلخص في أن ابنها ليس من صلب زوجها، وأبوه الحقيقي هو لص هاجم البيت وعندما رآها نائمة شبه عارية اغتصبها واستسلمت له بسبب حرمانها ومعاناتها من عجز العمدة. بين الحياة والموت هذا السر كان سبب وجود مرزوق في القبر بين الحياة والموت… “أنا حي إذن لكن ليس كالأحياء، ربما في منتصف المسافة بين الموت والحياة وبين الحضور والغياب وحتى لو كنتُ في المنتصف فهذا معناه أنني حي لأن الميت يكون قد ذهب إلى النهاية؛ تزحزح حتى الطرف الأخير من الحياة ثم سقط في الفراغ الذي لا يمكن الرجوع منه”. والمصري عامة – منذ الحضارة القديمة – يرى الموت بداية حياة أخرى أكثر نوراً وبراحاً؛ لأنها حياة الأرواح التي تحررت من سجن الأجساد. يقول السارد معبّراً عن هذا المعنى: “أنا في غرفة تتسلل الحياة إليها من هذا الثقب الذي يحمل نور الدنيا إلى الآخرة. آخرة الروح. نور مبهر وبراح بلا نهاية. لكن آخرة الجسد ضيق وعتمة”. الرواية المصرية (الدار المصرية اللبنانية) ينظر المصري إلى الموت بوصفه نوماً عميقاً، ولهذا لم يكُن غريباً أن يعتبر المقابر “منامات”. ولأن الأموات في نومهم العميق يدركون ما يدور حولهم في عالم الأحياء، فقد تعامل معهم ذووهم كما لو كانوا يدبّون على الأرض فيقدمون لهم ما كانوا يحبونه. وهنا يقفز إلى ذهن مرزوق بعض المواقف الطريفة مثل مشهد المرأة التي كانت تدس لأبيها السيجارة في ثقب القبر ثم تشعلها وتقول: كان يحب التدخين”، وتلك التي كانت تصب ماء وهي تقول: “مات عطشاناً وحين صببنا الماء في جوفه كان السر الإلهي قد خرج”. ويتوازى مع تلك المعتقدات ما يشيع في القرى من عادات شعبية مثل تذكر الموتى في تأبين يتكرر سنوياً. كشف المستور ولا شك في أن وجود مرزوق داخل القبر يجعل حضور الموت مهيمناً، فيسلي نفسه بتذكّر الموتى وترتيبهم أبجدياً وتحديد صفاتهم والتأكيد على أن بعضهم سيكون قبره “حفرة من جهنم” بسبب ما اقترفوه من ذنوب. إن مرزوق يحكي وهو يدرك أنه مقبل على الموت. لذلك فإنه يحاول فضح كل من عرفهم سواء كانوا أمواتاً أو أحياء. والحكي في هذه الساعات المتوترة يذكرنا بمالك بن الريب الذي رثى نفسه وهو ينزف دمه. كما ترد على ذهنه – أقصد السارد – ذكرى أحب الناس إليه، حميدة، التي لم يستطِع الزواج منها… “ذكرى حميدة هي الشيء الوحيد الذي أريد ألا تذهب عني حتى بعد أن أصير عظاماً نخرة مثل هذه التي تراني الآن وأنا أتقلب بينها كأن الجمر تحتي”. إن كل ما سبق يؤكد شوع تقنية الاسترجاع بحيث يعود مرزوق – وهو الذي يقوم بدور السارد الداخلي بضمير المتكلم – إلى طفولته المبكرة… “كان يمكن أن أستعرض حياتي أنا. كل ما أتذكره منذ أن كان عمري خمس سنوات وحتى اللحظة التي أكابدها الآن”. الروائي عمار علي حسن (الدار المصرية اللبنانية) وعلى الرغم من محطات الألم الرهيب التي مرّ بها، يظل ابتعاد حميدة عنه هو الأمر الأكثر إيلاماً. يتذكر اللحظات التي كان يقضيها معها خلف بيتهم، ويبدو الوصف – بخاصة وصف المكان – تعبيرياً، لا تقريرياً، لأنه يوضح مشاعر الذات وإحساسها بما يحيط بها. يقول في وصف قبره: “كانت العتمة قاتمة والصمت شاملاً. امتلأ أنفي بالروائح الكريهة وذرات الغبار الخانقة. فتحت عينيّ وأغلقتهما غير مرة، فلم أرَ غير السواد الحالك”. جماليات القبح وهناك ما يمكن أن نسمّيه بتحولات المكان، حين يرى السارد نوراً يكشف أمامه مساحات شاسعة من الأرض، فيرى “أشجاراً مصفوفة يجلس على أغصانها رجال يرتدون جلابيب بيضاء وتحلّق حولهم طيور زاهية الألوان. فجأة اختفى كل هذا وانبسطت أرض كالبلّور تلمع في النور الساطع”. ولعلنا نلاحظ المفارقة الواضحة بين أجواء القبر المعتمة المقبضة وهذا المكان بأشجاره المصفوفة وانبساطه كالبلور الذي يلمع في النور الساطع. ويستغل السارد ثنائية النور والظلمة في رسم صورة سينمائية تتراءى له على جدران القبر الرطبة… “بدا – يقصد الرجل الذي دُفن من يومين – وكأنه يرقص بينما انبعث نور مبهر من كومة عظام الطفل ثم راح يخفت تدريجياً. انجلى المكان وبانت على الجدران المشبّعة بالرطوبة خيالات تتحرك بلا توقف ثم لم تلبث أن صارت حركاتها رقصاً منساباً في براعة”. وعلى النقيض من هذا، نجد ما يُسمّى بجماليات القبح، حين يتفتت كبد مرزوق وبعد أن يتقيأ يرى فوق جسده دماً ملوثاً متخثراً، فيتركه ليتلهّى فيه الدود قليلاً قبل أن يبدأ مهمته في نهش جسده. هذه المفارقات بين صور المكان تبدو في صورة أخرى داخل نفس السارد الموزعة بين أمل في حياة قصيرة ويأس سببه موت سيأتي في وقت أقصر. وهكذا ظلّ مقسوماً بين يومه العصيب وغده الذي لن يراه. وفي بعض المواضع، يوظف السارد تقنية الفلاش باك حين يستحضر مشهد معاصر مشهداً ماضياً… “رأيت نفسي هناك في قلب الصحراء أقف محاذياً لزملائي، وكل منّا يضع في يده ماءه منتظراً أوامر الصول عبد الجواد”. صورة غرائبية إن دفن السارد حيّاً يجعله يستدعي إحدى قصص القرآن الكريم: “لستُ مجرماً، فأنا لا أفعل شيئاً سوى الثأر ممن ألقوا بي هنا. إنهم أسوأ من إخوة يوسف الذين ألقوا به في غياهب الجُب”. بل يرى نفسه متآلفاً مع أصوات الذئاب… “فعلى الأقل هي كائنات حية هنا في هذا المكان الموحش”. ولعله يستدعى معنى قول الشاعر “عوى الذئب فاستأنستُ بالذئب إذ عوى / وحين سمعتُ صوت إنسان كدتُ أطير”. وإذا كان الموت قد شُبّه قديماً بالوحش الذي ينشب أظفاره في جسد الإنسان، فإن ساردنا يراه “كائناً هائلاً لا تعرف أوله من آخره. له رأس أضخم من جبل. وله عينان وسيعتان جاحظتان لا قعر لهما. وله أذنان مفرطحتان تتدليان طويلاً”. ولا شك في أن نبوءة العرّافة التي أطالت النظر ذات يوم في كف مرزوق، ثم قالت: “نهايتك لا مثيل لها في بلدكم والمكتوب على الجبين لازم تشوفه العين”، قد ثبتت صحتها. وفي مقابل صورة الموت السابقة، نجد الحلم الذي يرى السارد نفسه فيه حافياً يسير في طريق طويلة ترابها ناعم، لونه أخضر داكن كالحناء. وأخيراً يتمكن مرزوق الحر من الخروج من قبره ويمضي في طريقه غير عابىء سوى بالأسرار التي تملأ رأسه وينوي نشرها على الملأ. وهكذا تظل نهاية الرواية مفتوحة على الاحتمالات كافة. المزيد عن: روائي مصري\رواية\تخييل\سرد\الراوي\الذاكرة الشعبية\خرافات 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post وجه أميركا المعتم تكشفه عين المصورة فيفيان مايير next post الشاعر قاسم حداد يبحث عن نفسه في صور الأصدقاء You may also like أليخاندرا بيثارنيك… محو الحدود بين الحياة والقصيدة 24 نوفمبر، 2024 مهى سلطان تكتب عن: الرسام اللبناني رضوان الشهال... 24 نوفمبر، 2024 فيلمان فرنسيان يخوضان الحياة الفتية بين الضاحية والريف 24 نوفمبر، 2024 مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 Leave a Comment Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment.