السبت, أبريل 12, 2025
السبت, أبريل 12, 2025
Home » إيلاري فورونكا شاعر الأخوّة الإنسانية المجهول

إيلاري فورونكا شاعر الأخوّة الإنسانية المجهول

by admin

 

حبه لبشرية يتعذر إصلاحها دفعه إلى الانتحار

المجلة / أنطوان جوكي

صحيح أن رومانيا تحتل موقعا هامشيا على خريطة أوروبا الجغرافية والسياسية، لكنها تحتل على خريطة الحداثة الشعرية والفنية موقعا لا يمكن إنكاره، نظرا إلى الدور الرئيس الذي لعبه شعراؤها وفنانوها طوال القرن الماضي داخل أبرز الحركات الطلائعية، ومن بينهم تريستان تزارا وقسطنطين برانكوزي وبنجامين فودان وأوجين يونيسكو وفيكتور برونر وجاك هيرولد وغيراسيم لوقا وإيزيدور إيزو ومارسيل جانكو وباناييت إيستراتي.

إلى هذه القائمة الطويلة يجب أن يضاف اسم يجهله معظمنا، وهو إيلاري فورونكا (1903 – 1946)، ليس فقط لأنه كان رفيق درب هؤلاء العمالقة الذين تدين الحداثة لهم بالكثير في بلورة مفرداتها، بل لأنه كان أيضا، بمنأى عنهم، صاحب مشروع كتابي باهر أثمر 30 مجموعة شعرية وعددا مماثلا من الكتب النثرية التي تتراوح بين تأمل وسرد، من بينها رواية “ذكريات من كوكب الأرض” (1945) التي كتبها في نهاية حياته، ونغتنم فرصة إعادة نشرها حديثا في باريس عن دار “أرفوين”، للتعريف بها وبمسيرة صاحبها الذي تصلح لوصفه عبارة أندره بروتون: “متفوق مجهول”.

بدايات فورونكا في الكتابة كانت بقصائد ذات صبغة رمزية ونبرة معتمة سيتخلص بسرعة منهما في مجموعته الشعرية الأولى، “مِحَن” (1923)، التي زيّن فيكتور برونر نصوصها برسوم رائعة، وفتح لصاحبها أبواب الطلائع الفنية الرومانية، إثر تأسيسه معه مجلة “75 HP”، الشهيرة ليس فقط بجرأة إخراجها، بل أيضا بكونها الحاضنة الأولى لما يعرف بـ”الشعر الصوري” (Pictopoésie)، الذي يقوم، بحسب فورونكا، على “تنضيد سطوح هندسية، متباينة وفقا إلى الألوان والنتوءات، تعزز معناها التشكيلي، بإيقاعاتها، كلمات مخطوطة في فضائها”.

التكاملية

بصمة الحركة الدادائية على إخراج هذه المجلة ومضمونها لا لبس فيه، لكن فورونكا سيتجاوز هذا التأثير بسعيه إلى الجمع بين مختلف أطروحات الحركات الطلائعية، فارضا نفسه منظّرا لما سمّاه “التكاملية” (Intégralisme). وفي معرض تحديده هذا المفهوم، كتب: “الكلمة الصائبة لم ينطق بها أحد بعد: التكعيبية، المستقبلية، الدادائية، البنائية، كلها أفضت إلى النقطة الجسورة نفسها: الحصيلة”. في موازاة عمله التنظيري هذا، نشر 12 مجموعة شعرية، قبل الفرار عام 1933 من “الظلمات البلقانية” إلى باريس حيث جذبه “مصهر السوريالية المنير”. مدينة كان سبقه إليها معظم رفاقه المذكورين أعلاه، لكن ذلك لم يحُل دون اختباره فيها الحقائق القاسية لحياة المهاجر، التي تناولها بألمعية في مجموعته الشعرية “تصريح إقامة” (1935).

خطوة حاسمة تتمثل في نزعه عن مشروعه الشعري صفته الفردية من منطلق اقتناعه بضرورة أن يكون الشاعر صوت جميع أخوته البشر

لكسب قوته في العاصمة الفرنسية، عمل فورونكا في شركات تأمين. لكن القصائد التي لم يتوقف عن كتابتها حصدت إعجاب الأوساط الشعرية، كما يشهد لذلك صدورها في أبرز مجلات الشعر الفرنسية آنذاك، وفي مقدمها “دفاتر الجنوب”. لكن يجب انتظار عام 1936، الذي صدرت خلاله مجموعته “الشعر المشترك”، كي يقدم على خطوة حاسمة تتمثل في نزعه عن مشروعه الشعري صفته الفردية، من منطلق اقتناعه بضرورة أن يكون الشاعر صوت جميع أخوته البشر. خطوة لم تؤثر سلبا على مستوى شعره وإيقاع كتابته، إذ بقي فورونكا “شاخصا بالمخفي” في قصائده، ومع حلول عام 1938، كان ارتفع عدد إصداراته الشعرية إلى 23.

غلاف كتاب “ذكريات من كوكب الأرض”

 

في موازاة هذا العمل الشعري المحموم، وضع فورونكا كتبا نثرية كثيرة، أبرزها صدر خلال الحرب العالمية الثانية: “لورد دوفين” (1941)، “المقابلة” (1944)، “هنريكا” (1945) و”ذكريات من كوكب الأرض” (1945). وحتى أثناء وجوده في جبهات القتال كضابط احتياط في الجيش الفرنسي، لم يتوقف عن الكتابة، بل تأمل في أهوال الحرب، شعرا ونثرا: “تمشي الريح مثل ضرير/ تبحث عن سنابل قمح/ ولا تجد سوى حِراب”. وحين سُرِّح من الجيش، توجه إلى جنوب فرنسا حيث التحق بالمقاومة، ثم عاد إلى باريس فور تحريرها من قبضة النازيين. لكن بما أن اليأس كان تغلب داخله على الأمل، أقدم على الانتحار عام 1946 بابتلاعه أنبوبا كاملا من الحبوب المنومة داخل شقته.

جسد غريب

أرشيف فورونكا الذي عُثر عليه حديثا، ويتضمن دفتر يومياته، مراسلاته ونصوصا غير منشورة، سمح بإعادة الاهتمام إلى جميع أعماله التي وقعت في طي النسيان جورا. أعمال نكتشف من خلالها مسيرة شاعر كبير عانى طوال حياته القصيرة من شعور بعدم فهم الآخرين له، ويقع كل شعره في تلك الفضاءات التي تتحدث منها نفس مضطربة وحائرة تشعر بأنها سجينة جسد غريب، وتتحضر لهجرانه. شعر تارة احتفائي، وطورا كئيب، يرتفع داخله صوت فورونكا مثل نشيد كائن تائه لم يعد لديه مسكن، بل فقط ملاذات يتوقف فيها، في انتظار ساعته.

Robert_Delaunay الشاعر والكاتب الروماني إيلاري فورونكا

 

شاعر ملعون إذن، لم تمنعه هذه اللعنة، التي ارتدته مثل معطف حتى رحيله، من البقاء مرسخا في الأمل: “سيجب علينا أن نتخلص من قناع الألم/ ونعلن زمن الإنسان والخير/ زمن الضحك والسكينة/ سنسير بفرح نحو الاختبار النهائي/ الجبهة في الضوء، ذبيحة الأمل”. لم تمنعه أيضا هذه اللعنة من خط نصوص باهرة تكمن قيمتها خصوصا في عدم استحضارها إلى أذهاننا نصوص أي شاعر آخر، قديم أو جديد، وإن قورنت لاحقا بشعر والت ويتمان وأوسكار ميلوس. نصوص تشتعل بحس فورونكا الإنساني، الأخوي، وتتطور على مستوى المضمون من “تكاملية” مفاهيمية إلى “تكاملية” عملية، أو ما سمّاه “الشعر المشترك” الذي تحييه ضرورة “الاختلاط بالناس، وتقاسم حياتها”.

أعمال نكتشف من خلالها مسيرة شاعر كبير عانى طوال حياته القصيرة من شعور بعدم فهم الآخرين له

كذلك الأمر بالنسبة إلى أعماله النثرية التي تتطور داخل عالم “تكاملي” توارت فيه الحدود بين المرئي والخفي، بين الواقع والحلم، بين الرجل والمرأة، بين الإنسان والحيوان والنبات والمعادن، بين الأشياء الحية والأشياء الجامدة. وهو ما يتجلى بقوة في رواية “ذكريات من كوكب الأرض” التي وضع فورونكا فيها خلاصة تأملاته في عالمنا، مما يمنحها طابع الوصية. رواية لم تنل ما تستحقه من اهتمام لدى صدورها، ولم يُعَد نشرها بعد رحيل صاحبها، على الرغم من قيمتها الكبيرة، شكلا ومضمونا، واستكشافها بشكل استباقي مدهش علاقتنا السلبية ببيئتنا الطبيعية، طارحة في هذا السياق سؤالين أساسيين: ما هو مكان الإنسان الصحيح داخل كوكب الأرض؟ وهل هو سيد فيه، أم عبد مرتهَن؟

بحث وجودي

للإجابة عن هذين السؤالين، يلجأ فورونكا في هذه الرواية إلى شخصية رئيسة واحدة تدعى إيف وتؤدي دور الراوي الذي يستحوذ عليه بحث وجودي تلخص الفقرة التالية ماهيته وطبيعة هذا الكائن: “كان يعتقد حقا أنه مسافر أتى من كوكب آخر، أو من عالم مجهول، ويسعى لفهم الكائنات والأشياء التي يلتقي بها. (…) أمر واحد بدا له غير قابل للنقاش: هؤلاء البشر ليسوا سادة هذا المكان. صحيح أنهم يتصرفون في ما بينهم ومع الكائنات والأشياء الأخرى كأنهم أسياد تحق لهم الطاعة الكاملة. لكن في نظره كغريب، هؤلاء البشر هم أشبه بنمل يعيش في عش عملاق، وينخرط بشكل أعمى في عمل مجهد”.

Prodan Romanian Cultural Foundation / الشاعر والكاتب الروماني إيلاري فورونكا

 

كي يتأكد إيف من صواب نظرته هذه، ويفهم النظام الذي يتحكم بعالمنا، والعذابات العميقة التي تعاني منها كل الممالك التي تعيش فيه، ينطلق في عملية استجواب للنباتات أولا، ثم الحيوانات، فالحجارة وحتى الآلات، مستحضرا في ذلك إلى أذهاننا روايتي “أليس في بلاد العجائب” للويس كارول، و”الأمير الصغير” لأنطوان دو سانت إكزوبيري. لكن بما أن بحثه هذا لا يفضي إلى أي نتيجة مرضية، ينتهي به الأمر إلى حسده الحيوانات والنباتات وسائر الأشياء الجامدة على الطمأنينة التي تتمتع بها وتجعلها تعيش حياة ناجزة وهنيئة.

تمكن في سرديته الأخيرة من سبر موضوعات مهمة لعل أبرزها صدمة الحرب وتعذر تجاوزها، ومن خلالها، العنف المـتأصل في الإنسان

هكذا يعود إيف من كوكب الأرض، ومن محاولة فهمه، خالي الوفاض، ضائعا أكثر من أي وقت مضى، تماما مثل جاك كيرواك في روايته “بيغ سور” (1962). ولا عجب إذن في انعزال مبتكره وصنوه، فورونكا، داخل شقته، بعد كتابته هذه الرواية، وتركه جدران هذه الشقة البائسة تلتهمه حيا. لكن بما أن الشاعر لا يبلغ قمة قوته إلا حين يعلم أنه محكوم بالفشل، بما أن لليأس فضائل يتعذر من دونها سبر “عمق الأشياء”، وفقا إلى العملاق الروماني الآخر سيوران، يتمكن فورونكا في سرديته الأخيرة من سبر موضوعات مهمة لا تحصى، لعل أبرزها صدمة الحرب وتعذر تجاوزها، ومن خلالها، العنف المـتأصل في الإنسان، وأيضا كابوس التكنولوجيات الحديثة والمكننة المهددة لحضارتنا، الذي حدس أيضا به، مثلما حدس بكابوس فنائنا الوشيك بسبب تدميرنا المنهجي بيئتنا الطبيعية.

إيلاري فورونكا وفيكتور برونر

 

سبرٌ يجلب الدوار لقارئه، بعمقه الفلسفي، ويحصل دائما ضمن غيرية مؤثرة ومحبة للبشرية تظهران في ذلك السعي على طول الرواية إلى مصالحة هذه البشرية مع نفسها، ومع الأرض التي تعيش عليها. بشرية نعيد اكتشافها في هذا النص الخيالي/ الواقعي بجيوشها القاتلة، وقوانينها الجائرة، وسجونها المرعبة، ومجتمعاتها الدنيئة، وآلاتها الكاسحة، ومصرفييها البدينين، وكتّابها الباهتين… باختصار، بكل عيوبها. ولا شك أن رفض فورونكا إدانتها، أو حتى فصل نفسه عنها، على الرغم من هذه العيوب، هو ما دفعه في النهاية إلى الانتحار.

المزيد عن:  رواية رومانيا الشعر الانتحار

 

You may also like

Editor-in-Chief: Nabil El-bkaili

CANADAVOICE is a free website  officially registered in NS / Canada.

 We are talking about CANADA’S international relations and their repercussions on

peace in the world.

 We care about matters related to asylum ,  refugees , immigration and their role in the development of CANADA.

We care about the economic and Culture movement and living in CANADA and the economic activity and its development in NOVA  SCOTIA and all Canadian provinces.

 CANADA VOICE is THE VOICE OF CANADA to the world

Published By : 4381689 CANADA VOICE \ EPUBLISHING \ NEWS – MEDIA WEBSITE

Tegistry id 438173 NS-HALIFAX

1013-5565 Nora Bernard str B3K 5K9  NS – Halifax  Canada

1 902 2217137 –

Email: nelbkaili@yahoo.com 

 

Editor-in-Chief : Nabil El-bkaili