ثقافة و فنونعربي أوكتاف ميربو يصفي الحساب مع الفساد بـ”يوميات وصيفة” by admin 14 يناير، 2021 written by admin 14 يناير، 2021 146 عينا الخادمة ترصد بنباهة وغضب انحطاط أسيادها اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب لعل من أسوأ ما يمكن أن يحدث لكاتب من الكتّاب أن يخطئ مصححو الصحف في اسمه حين يصلهم مقال يتحدث عنه. ومن ذلك مثلاً ما يحدث دائماً للكاتب الفرنسي أوكتاف ميربو الذي ما إن تصل كتابة عنه إلى المصححين حتى يحولوا اسمه إلى ميرابو خالطين طبعاً بينه وبين “خطيب الثورة الفرنسية” ميرابو، الذي لا يفصله عن اسمه سوى حرف واحد. ولا شك أنهم معذورون فميرابو أوسع شهرة بكثير من ميربو، مع أن الأول مجرد رجل سياسة مفوه، بينما كان الثاني واحداً من كبار الروائيين وكتاب المسرح والصحافيين الطليعيين الذين عرفتهم فرنسا نهايات القرن التاسع عشر… ولعل القاسم المشترك الرئيس بين الاثنين هو ثوريتهما العنيدة. كتابة متقدمة في صحافة متخلفة المهم في الأمر هنا، أنه كان من حق خصوم أوكتاف ميربو أن يأخذوا عليه كونه لم يختر سوى الصحافة الملكية والبونابرتية منبراً وسط زحام الأفكار التقدمية التي كانت تملأ فرنسا، ووسط معمعات السجالات التي كانت قائمة على قدم وساق، بعد الهزيمة الفادحة التي أحاقت بـ “الكومونة” الباريسية وأصحابها في عام 1870. وهم كانوا يرون عن حق أن ما كتبه أوكتاف ميربو في تلك الصحف كان جديراً بأن ينشر في أكثر الصحف الطليعية والتقدمية نشاطاً، لأن هذا الكاتب الغريب الأطوار والخصب، كرّس القسم الأكبر من رواياته ونصوصه، وبعد ذلك من مسرحياته التي حققت شهرة واسعة، للمطالبة بفصل الدولة عن الكنيسة، وللتصدي للفوارق الاجتماعية. ومن هنا أنصف تاريخ الأدب الفرنسي ميربو بأن نظر إلى أدبه باعتباره “محضر اتهام صاخب ضد رجال الكهنوت وضد الامتيازات الطبقية في زمنه”، وكذلك أنصف الفن التقدمي ميربو، عن طريق السينمائي الإسباني لوي بونويل، الذي في خطوة سار فيها على خطى زميله جان رينوار الذي سبقه إلى اقتباسها في فيلم أميركي، اقتبس واحدة من روايات ميربو الأساسية، “يوميات وصيفة”، ليحولها إلى فيلم حمل الاسم نفسه، وقامت فيه جان مورو بواحد من أجمل أدوارها. بونويل إذاً، لم يكن الوحيد الذي اهتم بتلك الرواية، فهي حُققت في السينما مرات عديدة، كما حولت إلى مسرحية، ولا تزال حتى يومنا هذا تحمل جاذبيتها الخاصة. القضايا تقسم المثقفين الفرنسيين غير أن ميربو لم يكن في حاجة إلى نشر هذه الرواية وأفلمتها ثم مسرحتها كي يحوز في زمنه شهرة كبيرة. فهو إلى جانب كونه من أنصار درايفوس في القضية الشهيرة التي قسمت المثقفين الفرنسيين إلى تقدميين ومحافظين، كان مدافعاً شرساً عن كل القضايا العادلة. وحين نشر “يوميات وصيفة” كان اسماً كبيراً في الحياة الثقافية الفرنسية. وهو لئن كان قد جدد فيها على صعيد الشكل حيث جعلها فصولاً غير مترابطة تتأرجح بين الماضي والحاضر ليفضح طبقة البورجوازية والأثرياء الجدد، جعل وجهة النظر المتمعنة فيما يحدث، وجهة نظر تلك الوصيفة الشابة سلستين، التي عرف كيف يقدم من خلال ما تعيشه وتراه، من انحطاط الموسرين الأخلاقي، ليس فقط في مجال تحقيقهم ثرواتهم ومكاسبهم، بل كذلك وبخاصة في مجال الحياة التي يعيشونها. وهي حياة تخلو من القيم، ترصدها سلستين وتصورها في يومياتها ولسان حالها يقول “مهما كان من شأن انحطاط الزعران، فإن انحطاطهم هذا لن يكون شيئاً إذا ما قورن بانحطاط أولئك الذين يعتبرون من شرفاء القوم”. والحقيقة أن صفحات الرواية كلها إنما هي حديث متواصل عن ذلك الانحطاط الذي ترصده سلستين من ثقوب الأبواب في القصر الفخم، الذي تعيش فيه مع أسيادها وسط كوكبة من معارف يتراوحون بين أعيان المنطقة ورجال الكنيسة وموظفي الدولة “الواصلين”، والذين لا يفوت سلستين أن تصف لنا كيف يتعاملون مع الناس البسطاء الفقراء الطيبين، لا سيما إن كانوا من خدم البيت وكأنهم من الأرقاء من دون أن يردعهم عن ذلك رادع أو مجتمع أو ضمير. زمن عبودية جديدة وفي هذا السياق، لن يعود من المهم أن تحكي لنا سلستين ما تعيشه هي من “مغامرات” بين أفراد تلك العائلة، هي التي بقوة تعبيرها ودقة ملاحظتها وجمالها وقدرتها على السيطرة على رجال العائلة وأصدقائهم، تبدو على الدوام قادرة على الإفلات بجلدها وتحقيق ذاتها من خلال تلك الكتابة الغاضبة الاتهامية التي يتيحها لها الكاتب، وقد أعارها قلمه ودقة ملاحظته وامتلاء نفسه بالغضب على تلك “الطبقة الفاحشة الفارغة من الناس” والتي من الواضح أن رواية “يوميات وصيفة” إنما كانت بالنسبة إليه نوعاً من تصفية الحساب مع مجتمع بأسره، مع الجحيم الاجتماعي الذي كان ميربو يرى أنه هو المسؤول عن الانحطاط العام وفقدان القيم، كما كان سائداً في فرنسا خلال الزمن الفاصل بين القرنين التاسع عشر والعشرين، حيث “كان قانون الغاب الاجتماعي مستشرياً”، معتمداً على نوع شديد الحداثة من العبودية التي غالباً ما تكون في مثل تلك الظروف “عبودية طوعية”. ولعل هذا الواقع الذي تصفه الرواية وتفضحه هو ما جعل السينمائي الروسي مارتوف يحولها للمرة الأولى إلى فيلم في عام 1916 عشية الثورة الروسية، حتى من دون علم ميربو حينها. الجلجلة نهاية الثورة ولد أوكتاف ميربو عام 1848 في مقاطعة الكالفادوس في الغرب الفرنسي، وأمضى طفولة عادية وشباباً لا مفاجآت فيهما، قبل أن ينتقل إلى باريس وقد أولع بالكتابة. وفي العاصمة التي كانت تعيش غلياناً فنياً وسياسياً في ذلك الحين، انخرط ميربو في الحياة الثقافية وراح ينشر قصصاً وروايات تتحدث عن الحياة اليومية لمزارعي منطقة الكالفادوس. وفي هذا السياق رواية له عنوانها “الجلجلة” نشرها في عام 1886 ضمت فصلاً يتحدث فيه عن هزيمة عام 1870 أثار جدلاً كبيراً لأنه لم يتلاءم مع الصورة التي كانت، عهد ذاك، معهودة، للكومونة. غير أن الجدل لم يوهن من عزيمة ميربو الذي شاء أن يجعل من نفسه ناقداً ليس فقط لخصومه، رجال الكهنوت، والبرجوازيين والإقطاعيين، ولكن أيضاً للقوى الاجتماعية التي كان يعتبرها حليفة له، وهكذا- مستفيداً من الشهرة النسبية التي حققها له السجال الذي دار من حول “الجلجلة”، ومستفيداً من اتساع دائرة قرائه- راح ينشر المزيد من الروايات، كما راح يكتب للمسرح، فكانت فترة شديدة الخصوبة في حياته، لا سيما بعد أن كتب روايتين متمردتين أولاهما “الخوري جول” (1888) وهي حكاية قسيس مجنون، وثانيتهما “سيباستيان روش” وفيها وصف للعام الحاسم 1890 وللأجواء السائدة في مدرسة اليسوعيين التي تلقى العلم فيها. لقطة من فيلم “يوميات وصيفة” للمخرج الإسباني لوي بونويل (غيتي) ونقول “العام الحاسم” لأنه العام الذي ساد فيه النقاش حول التعليم الرسمي وفصل الدولة عن الكنيسة، حيث إن رواية ميربو أتت لتصب ماء كثيراً في طاحونة المطالبين بتعزيز التعليم الوطني العلماني على حساب التعليم الديني الذي كانت له الأرجحية حتى ذلك الحين. في صلب القضايا الاجتماعية بعد ذلك كتب ميربو أربع روايات حادة وعنيفة جعلها منبراً للتعبير أكثر وأكثر عن توجهاته الاجتماعية الناقدة، وهي “حديقة التعذيب” (1898)، وبخاصة “يوميات وصيفة” (1900)، ثم “628-اي 8″ (1907) و”دينغو” (1912). وشارك في تلك الأثناء تسعة أدباء آخرين في تأسيس أكاديمية “غونكور”، التي لا تزال تمنح سنوياً وحتى يومنا هذا، أرفع جائزة أدبية في فرنسا. وبشكل متواز مع إنتاجه الروائي، أنتج أوكتاف ميربو العديد من المسرحيات التي كانت الفرق المسرحية تتلقفها لتحققها على الخشبة، ومن أبرزها “الرعاة الفاسدون” (1897)، لا سيما “الصفقات هي الصفقات” (1903) التي اعتبرت صرخة ضد الفساد ولا تزال من المسرحيات المحببة إلى المخرجين والفرق المسرحية حتى يومنا هذا. حين رحل ميربو عن عالمنا أوائل عام 1917 كان يعيش ذروة مجده، وكان لا يزال موضع سجال في الحياة الثقافية الفرنسية، سجال سوف يخبو تدريجاً بعد ذلك. المزيد عن: أوكتاف ميربو/الأدب الفرنسي/يوميات وصيفة/البرجوازية الفرنسية/الرواية الفرنسية 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post التونسي ثامر الماجري يعصف بعناصره على سطح اللوحة next post ساشا بارون استخدم المرحاض في تحضير مشهد عن مايك بنس You may also like سامر أبوهواش يكتب عن: “المادة” لكورالي فارغيت… صرخة... 25 نوفمبر، 2024 محامي الكاتب صنصال يؤكد الحرص على “احترام حقه... 25 نوفمبر، 2024 مرسيدس تريد أن تكون روائية بيدين ملطختين بدم... 25 نوفمبر، 2024 تشرشل ونزاعه بين ثلاثة أنشطة خلال مساره 25 نوفمبر، 2024 فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم... 24 نوفمبر، 2024 قصة الباحثين عن الحرية على طريق جون ميلتون 24 نوفمبر، 2024 عندما يصبح دونالد ترمب عنوانا لعملية تجسس 24 نوفمبر، 2024 الجزائري بوعلام صنصال يقبع في السجن وكتاب جديد... 24 نوفمبر، 2024 متى تترجل الفلسفة من برجها العاجي؟ 24 نوفمبر، 2024 أليخاندرا بيثارنيك… محو الحدود بين الحياة والقصيدة 24 نوفمبر، 2024 Leave a Comment Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment.