ثقافة و فنونعربي ليلة أسطورية وضعت “لا سكالا” ميلانو أمام ثورة فنية by admin 6 مارس، 2023 written by admin 6 مارس، 2023 28 أخرج فيسكونتي أوبرا فيردي بأسلوب جديد في الإخراج المسرحي الأوبرالي اندبندنت عربية \ إبراهيم العريس باحث وكاتب من ناحية مبدئية يأسف كثر من المعنيين بتاريخ فن الأوبرا خلال النصف الثاني من القرن العشرين أن أحداً منهم لم يتمكن من العثور على أي تسجيل مصور أو حتى مسجل بالصوت وحده في الأقل للعرض الذي قدم، ذات مساء، على خشبة “لا سكالا” ميلانو، فاعتبر على الفور، ومنذ ليلة الافتتاح “شهادة ميلاد الأسلوب الجديد في الإخراج المسرحي الأوبرالي إلى جانب كونه العرض الذي حول تلك المغنية التي بدأت مسارها على الطريقة التقليدية اليونانية، وهي اليونانية الأصل، لتتحول بعد انخراطها في الفن الأوبرالي الإيطالي إلى نجمة غناء كبيرة، ولكن لتتحول تحديداً ذلك المساء من ماريا كالاس إلى “لا كالاس” كما جرت العادة في عالم الأوبرا، بخاصة إذ يتحول اسمها مع أل التعريف إلى شهادة، بكونها باتت نجمة النجوم في مضمارها، لكن هذا التحول الجذري الذي طرأ على تلك التي كانت سيدة المجتمع والفن خلال الربع الثالث من القرن العشرين لم تتفرد به، بل شاركها فيه أربعة فرسان من كبار أقطاب الفن بين مبدعين آخرين. مشهد من الليلة الأسطورية (موقع الأوبرا) من فيردي إلى فيسكونتي كان الأول والأقدم بينهم موسيقي الأوبرا الإيطالي الأكبر جوزيبي فيردي الراحل حينها منذ زمن بعيد لكنه كان لا يزال، كما حاله حتى الآن، حياً حاضراً في معظم المواسم الأوبرالية في العالم أجمع. وكذلك كانت حاله تلك الليلة التي قدمت فيها واحدة من أشهر أوبراته من غناء ماريا كالاس ودي ستيفانو، “لا ترافياتا”، التي كان جديدها تلك الليلة تولي المخرج السينمائي الشاب لوتشينو فيسكونتي إخراجها المسرحي، شراكة مع المخرج جولياني الذي كان أعتق منه في هذا الفن الذي بدا فيسكونتي للوهلة الأولى طارئاً عليه بالنظر إلى أن هواه كان سينمائياً، ويمكننا اليوم أن نقول، على أية حال، إن ذلك البعد السينمائي في فنه بعد أن كان عيباً قبل ذلك، بات يعتبر مذاك ثورة جذرية في عالم الأوبرا، وكانت هي ما أعطى ذلك المساء نكهته الثورية الجذرية، وسيمكننا أن نفهم جوهر حديثنا عن أهمية تلك الليلة الانعطافية التي شهدتها خشبة “لا سكالا”، وحضور تلك التي بات اسمها “لا كالاس” منذ ذلك العرض. فإذا أضفنا إلى هؤلاء هيربرت فون كارايان، قائد الأوركسترا الكبير الذي ارتبط منذ ذلك العرض بماريا كالاس، يكتمل بالنسبة إلينا عقد أولئك الفرسان الذين صنعوا مع “فيوليتا” (اسم الشخصية المحورية في “لا ترافياتا”) تلك الأعجوبة الفنية التي بدلت مصير كل واحد منهم إلى الأبد من خلال الثورة الفيسكونتية. بداية فيلم كبير مهما يكن من أمر، إذا كان كثر يأسفون اليوم لتقصير لا يغتفر أسفر حينها عن عدم الاحتفاظ بسجل لما دار فوق الخشبة، وتحديداً من خلال مصير “فيوليتا”، التي ليست في حقيقتها سوى “غادة الكاميليا” كما صورتها وصورت مأساتها، المسرحية الشهيرة التي كتبها وقدمها ألكسندر دوما “الابن” (و”الابن” تمييزاً له طبعاً عن أبيه الكاتب الروائي الكبير) كمسرحية تفجرت نجاحاتها منذ عروضها الباريسية الأولى أواسط القرن التاسع عشر ليتواصل نجاحها كمسرحية في معظم لغات الأرض، ثم كأوبرا وبعد ذلك كأفلام سينمائية بالعشرات. غير أن ذلك كله يبقى أقل أهمية مما حدث في ليلة عام 1955 الربيعية على خشبة “لا سكالا” الميلانية. وما حدث كان تحديداً أن “لا ترافياتا” باتت بعد ذلك شيئاً آخر غير ما كانت عليه قبل ذلك، وكأن ذلك العرض خلق تلك الأوبرا الساحرة من جديد، بل خلق فن الأوبرا نفسه من جديد. ولئن كان في غير الإمكان إدراك ذلك، في غياب أي شريط مرئي أو صوتي يشهد عملياً عليه، كما قلنا في افتتاح هذا الكلام، فإن فيسكونتي سيكون من الحصافة بأنه لم يترك الأمور تبقى على تلك الحال، بل سيعمد، حين سيحقق بعد سنوات قليلة، واحداً من أول أفلامه الكبرى “سينسو”، إلى جعل الدقائق العديدة الأولى الممهدة لحكاية الفيلم التي تدور في ميلانو حول حكاية غرام “مستحيل” بين سيدة أرستقراطية إيطالية وضابط نمسوي من قوات الاحتلال المتحكمة في مصير إيطاليا، جعل تلك الدقائق تدور في الأوبرا حيث يتم تقديم “لا ترافياتا” تحديداً في واحد من عروضها التاريخية الأولى. مرض قاتل مهما يكن، في شكل عام، لا تختلف “لا ترافياتا” عن أصلها المسرحي إلا في بعض التفاصيل القصيرة، وكذلك في بعض الاختصار للأحداث، بغية إتاحة المجال أمام التوسع في الغناء الفردي والغناء الجماعي، ومن هنا حين نروي تفاصيل ما يحدث في الأوبرا لا نبتعد كثيراً مما يحدث أصلاً في المسرحية، وما يحدث في عمل فيردي هذا يبدأ في باريس عند بدايات القرن التاسع عشر، حين تطالعنا منذ البداية سيدة المجتمع ذات السمعة غير الطيبة تماماً، فيوليت فاليري، وهي تحاول أن تقاوم داء السل الذي هجم عليها عبر احتفالات صاخبة تقيمها في منزلها، وهي تحس في أعمق أعماقها أن ذلك كله سيكون من دون جدوى، إذ إن المرض يبدو قاتلاً لا برء منه. كل ما في الأمر أن في إمكان الاحتفالات والأعياد إضفاء نوع من سعادة مزيفة وعابرة على حياة باتت مهددة حقاً. ويقع ألفريدو الفتى الوسيم والطيب، إذ يلتقي فيوليت، على الفور صريع هواها، وهو إذ يطلع على الداء الذي يعتريها ويلتهم حياتها التهاماً يسعى جهده إلى التسرية عنها، طالباً منها أن تصبح حتى النهاية رفيقة حياته، سائلاً إياها أن تتوجه معه إلى الريف حيث يمكنها هي أن تستريح بعض الشيء من صخب حياتها في أحضان طبيعة هادئة شافية. تضحية امرأة وتستجيب فيوليت إلى نصيحة ألفريدو وتتوجه معه إلى منطقة ريفية حيث يعيشان في عزلة نسبية يشعران خلالها بشيء من السعادة، بل إن صحة فيوليت تبدأ بالتحسن أمام الحب والهدوء الجديدين على حياتها. ولكن، فيما الحبيبان يعيشان نوعاً من ذروة السعادة يزورهما ذات يوم شخص لم يكونا يتوقعان زيارته: إنه جورجيو جيرمون والد ألفريدو، الذي إذ يختلي بفيوليت بعيداً من نظر ابنه وسمعه، يفاتح سيدة المجتمع بطلب غريب بالنسبة إليها، منطقي بالنسبة إليه: صحيح أنه يعرف الآن أن فيوليت مغرمة بدورها بابنه، لكن عليها أن تضحي وتتخلى عن ذلك الحب وتلك العلاقة، لأن فيهما فضيحة اجتماعية له ولأسرته، مما يهدد زواج ابنته من خطيبها النبيل. تقع فيوليت في حيرة من أمرها وتفكر كثيراً، وهي لأنها تحب ألفريدو وتريد له الخير، ولأنها أصلاً امرأة طيبة وتعرف أن الموت ينتظرها، تسلك الاختيار الذي يمليه عليها ضميرها ومصلحة حبيبها: تتخلى عن ألفريدو، تبلغه ذلك زاعمة أمامه أنها لا تحبه، ثم تقفل عائدة إلى باريس حيث تستأنف غوصها في حياتها الاجتماعية الصاخبة الفاسدة القديمة. أما ألفريدو فإنه يشعر بالحزن الكبير والإهانة، مما يجعل حياته كئيبة إلى حد لا يطاق، بيد أن الحبيبين يعودان إلى الالتقاء بعد فترة في سهرة بالصدفة. ليلة ثورة لا تنسى وهنا، إذ ينبعث الحب من جديد في فؤاد الفتى، ويدنو من فيوليت طالباً منها العودة إليه معلناً أمامها أنه قد سامحها على إساءتها، تتردد فيوليت للحظة، غير أنها سرعان ما تتذكر، بقسوة، وعدها لجورجيو، فتقسو ملامحها من جديد، وتزعم أمام ألفريدو أنه انتهى بالنسبة إليها وأنها الآن مغرمة برفيقها في الحفل البارون دوفول. أمام هذا الرفض القاطع يستبد جنون الغضب بألفريدو، ويصرخ في وجه فيوليت، بعد أن يرمي نحوها بعض المال، قائلاً لها أمام الجمع إن هذا هو ثمن تلك الليالي الغرامية التي قضياها معاً. ويكون من أثر هذا الموقف أن يثير استياء كل الحاضرين بمن فيهم والد ألفريدو الذي، مع هذا، يصر على عدم إفشاء حقيقة الموقف أمام ابنه. وعلى هذا الأساس يخرج ألفريدو لاعناً صاخباً والبقية معروفة طبعاً، وفي الحقيقة لم يخرج فيسكونتي في إخراجه المعاصر المدهش عن هذه الحكاية، لكن إدارته العمل الأوبرالي مع الفرسان الآخرين كانت هي من أعطت ماريا كالاس “دور حياتها”، وأعطت فن الأوبرا تجديداً ما كان ليخطر في بال أحد. ومن هنا لم يكن غريباً أن تبقى ذكرى ذلك العرض الأول ماثلة كليلة ثورية في تاريخ هذا الفن. المزيد عن: ماريا كالاس\لا كالاس\لوتشينو فيسكونتي\أوبرا فيردي\الإخراج المسرحي الأوبرالي\لا ترافيات\اجوزيبي فيردي\غادة الكاميلي\األكسندر دوما 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post “بيكاسو” يموت مجدداً في معرض مدريد للفن المعاصر! next post أندريا بوتشيلي يكتب سيرته بنور صوته البديع You may also like استعادة كتاب “أطياف ماركس” بعد 20 عاما على... 28 نوفمبر، 2024 تحديات المخرج فرنسوا تروفو بعد 40 عاما على... 28 نوفمبر، 2024 21 قصيدة تعمد نيرودا نسيانها فشغلت الناس بعد... 28 نوفمبر، 2024 الرواية التاريخية النسوية كما تمثلت لدى ثلاث كاتبات... 28 نوفمبر، 2024 بودلير وهيغو… لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم... 27 نوفمبر، 2024 شوقي بزيع يكتب عن: شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد... 27 نوفمبر، 2024 محمود الزيباوي يكتب عن: ماجان القديمة …أسرارٌ ورجلٌ... 27 نوفمبر، 2024 «سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد 27 نوفمبر، 2024 محمد خيي ممثل مغربي يواصل تألقه عربيا 27 نوفمبر، 2024 3 جرائم سياسية حملت اسم “إعدامات” في التاريخ... 27 نوفمبر، 2024