ثقافة و فنونعربي فيلم “عداءة” يسلم روحه للمشاهدين في مهرجان القاهرة by admin 17 نوفمبر، 2022 written by admin 17 نوفمبر، 2022 93 سينما أميركية مختلفة تنقل دورة الحياة الاعتيادية وصولاً إلى اللحظة الخاتمة اندبندنت عربية \ هوفيك حبشيان “عداءة” للأميركية ماريان ماثياس، المعروض حالياً في مهرجان القاهرة السينمائي (13 إلى 22 تشرين الثاني)، يتجاوز الساعة بقليل، يمر كحلم، لدرجة أنه عندما اختتمت الدقائق الـ76 التي يستغرقها، وبدأت في كتابة المقالة، كان علي أن أضع رأسي بين يدي وأجمع أفكاري وألملم أجزاء الذاكرة البصرية، قبل الشروع في تدوين الملاحظات الآتية عن واحد من أجمل ما قدمه لنا هذا العام. “ما هذا الذي شاهدته للتو؟”، قد يسأل الواحد منا وهو يحاول تذكر بعض اللقطات. العمل شديد الخصوصية، يأتينا من عمق السينما الأميركية المستقلة، وجد أرضاً له بعيداً من كل ما صنعت أميركا في الوجدان الشعبي. لا بطولات هنا ولا غلامور، ولا أي شيء يبعث على الحلم. فقط دورة الحياة الاعتيادية التي تتكرر، وصولاً إلى اللحظة التي تبلغ خاتمتها. وفن مثل هذا الذي تتمسك به ماثياس كفيل بأن يرينا الأشياء العادية بعين خلاقة، تؤكد قدرة الإنسان على رؤية الروعة داخل الأشياء التي عادة تمر ولا نراها. وبهذا المعنى، الفيلم دعوة إلى التأمل في روح المكان وروح اللحظة وروح الشخصيات. الجمال الذي يفرزه هذا الفيلم المينيمالي، هو تحديداً جمال الكادر والتكوينات البصرية. جمال يتجسد في المساحات التي تلتقطها عين المخرجة بحس تشكيلي، أو بيت تصوره من بعيد، أو مجرد كتف تتحول قبالة كاميراها إلى لوحة. تقارب ماثياس الكادر السينمائي باعتباره “فرصة للمشاهد أو فكرة”، كما تقول في مقابلة لها. سواء موضعت آلة التصوير داخل غرفة ضيقة أو تحت سماء واسعة، فالنظرة واحدة. لكن كل شخصية تأتي إلى المكان بمعنى آخر. هذه الروح التشكيلية تذكر على الفور بلوحات الرسام الأميركي أندرو وايث الذي استوحى منه ترنس ماليك بعض مشاهد فيلمه “أيام الجنة”. إنها الميدويست، الريف الأميركي المهمل سينمائياً، الذي ينام ويصحو على الفراغ والرتابة، فتأتي عين ماثياس لتحوله جسداً ينازع بصمت، لا بل يحتضر. قصة بسيطة خلال تصوير الفيلم (ملف الفيلم) ولأن الجمال يولد من البساطة، فالقصة بدورها بسيطة، يمكن اختصارها ببضعة أسطر. هاس (هانا شيلر) صبية في الـ18، تعيش مع والدها (جوناثان أيسلي) في ميزوري. الأخير، رجل مريب يتعاطى الخمور ويحاول بيع عقارات لا يملكها، عن طريق الاحتيال لتسديد الديون التي غرق فيها. لكن الرجل يموت فجأة، فيتعين على الابنة دفنه، وعليها احترام وصيته التي تقضي بدفنه في البيئة التي ولد فيها، الواقعة في ميسيسيبي. لكن، ذات يوم، تلتقي هاس شاباً اسمه ويل (دارن هولي)، فيدخل بعض التغيير في يومياتها الرتيبة. تبدو هاس مقطوعة عن العالم، لا لغة تجمعها أو تواصل يربطها بسكان منطقتها، فهي متروكة لمصيرها. يصل ويل في اللحظة المناسبة. اللقاء يساهم في إعطاء الفقد بعض المعنى، خصوصاً أن كليهما يعبران إلى سن الرشد. جميل كيف أن الموت سيفتح أبواب الحياة في حال هاس. الممثلة ماريا ماثياس في الفيلم (ملف الفيلم) بعد خسارة والدها، تجد هاس نفسها وحيدة. ويرينا الفيلم النحو الذي تتعامل به مع هذه الوحدة التي تحل عليها من دون سابق إنذار. الدين، وهو الحاضر جداً بين سكان المنطقة، لا يعالج المشكلة. ماثياس التي سبق أن أخرجت فيلماً قصيراً عنوانه “أن تسلم الروح”، تضعنا في أجواء مليئة بالحزن والأسى والمشاعر الدفينة. هناك عالم كامل، يقع خارج كل مظاهر الحياة الحديثة، يسلم روحه، لا فقط شخصية من الشخصيات. كيف يمكن قراءة فيلم كهذا، وبناء على أية مقاربة؟ هل يجب أن تكون سياسية أو اجتماعية أو فنية؟ لعل مقاربة تأخذ في الاعتبار الجوانب الثلاثة هي المطلوبة لفهم هذا العمل الذي يعبر سماء السينما مثل غيمة سوداء محملة بكثير من الأمطار وتحاول غسل كل شيء على طريقها. إلا أن الأمطار لن تسقط وتبقى الغيوم معلقة في السماء وتبقى الأرض جافة على شاكلة سكانها. أما الآفاق البعيدة، الظاهرة على الدوام، فهي ذات دلالات، لكونها تفصل الوجود بأكمله بين الحياة والموت. لا يحدد الفيلم زمن أحداثه. والتفاصيل الكثيرة داخل الصورة لا تساعدنا في معرفة تلك المعلومة. فالموت والفقد والرغبة في الحياة رغم كل شيء، من الأمور العابرة للزمن. يحاول الفيلم إعطاء وجه لكل واحد من هذه الأشياء، من دون وضعها في إطار حقبة معينة. الأماكن التي يصورها الفيلم تبدو أبدية. خلفها زمن غير محدد. ماذا يمكن للحظة أن تفعل في هذه الأرض التي تمنح الاحساس بأنها خارج أي تأثير؟ يأتي اللحن الذي ألفه الموسيقي بارا وإن كلازمة ترافق الصور المتدفقة والهادئة. العالم الذي تصوره ماثياس في أول تجربة إخراجية طويلة لها، متقوقع على نفسه، لديه بنوده ومفاهيمه وقيمه الخاصة. والنظرة الخارجية ما هي سوى اختراق. بعد عرضه في مهرجانات دولية مثل تورونتو وسان سيباستيان (فاز فيه بجائزة لجنة التحكيم الخاصة) وتسالونيك، يحط الفيلم في مهرجان القاهرة الذي وضعه ضمن البانوراما الدولية. “عداءة” من الأفلام التأملية التي تخطف قلوب محبي اللقطات الثابتة والأحاسيس المكبوتة والإيقاع الذي يشعرك بثقل الحياة. هذه تجربة سينمائية مهما تحدثنا عنها، فلا يمكن أن تعوض عن المشاهدة. وحدها المشاهدة تضمن الشعور العميق بالمكان والزمان، وهو أحد أهم ما يميز الفن السابع عن بقية الفنون. السينما التي تقترحها ماثياس هي سينما ضبط الأنفاس الذي يمد المشاهد بأحاسيس من نوع آخر، على نقيض السينما المستعجلة التي تغدو دعائية في أحيان كثيرة. إنه تجوال حقيقي بين النور والظلمة من خلال مشهدية شعرية تجعل الحب ينمو في مكان ما بينهما. المزيد عن:سينما\مهرجان سينمائي\أفلام\الأب\شخصية الإبن\ةعلاقات أسرية\البعد البصري 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post للجمال والقبح “تاريخ” على طريقة أمبرتو إيكو next post “بانيبال” تودع قراءها بعد 25 عاما من تقديم الأدب العربي بالإنجليزية You may also like كتاب جديد يجمع نصوصا “مجهولة” لبورخيس 13 يناير، 2025 فاز بجائزتي كتارا ونجيب محفوظ.. محمد طرزي: لا... 12 يناير، 2025 عن فلسطين.. في مرآة نعوم تشومسكي وإيلان بابيه 12 يناير، 2025 عودة يوسف حبشي الأشقر رائد الرواية اللبنانية الحديثة 12 يناير، 2025 مأساة ترحيل الجورجيين من روسيا يرويها فيلم “القديم” 12 يناير، 2025 صرخات المصرية جويس منصور في فرنسا 12 يناير، 2025 عندما يتحول التأويل الثقافي حافزا على عدم الفهم 12 يناير، 2025 مهى سلطان تكتب عن : الرسام الهولندي موندريان... 12 يناير، 2025 ليلى رستم تسافر إلى “الغرفة المضيئة” في الوجدان 12 يناير، 2025 زنوبيا ملكة تدمر… هل يسقطها المنهج التربوي السوري... 11 يناير، 2025
“عداءة” للأميركية ماريان ماثياس، المعروض حالياً في مهرجان القاهرة السينمائي (13 إلى 22 تشرين الثاني)، يتجاوز الساعة بقليل، يمر كحلم، لدرجة أنه عندما اختتمت الدقائق الـ76 التي يستغرقها، وبدأت في كتابة المقالة، كان علي أن أضع رأسي بين يدي وأجمع أفكاري وألملم أجزاء الذاكرة البصرية، قبل الشروع في تدوين الملاحظات الآتية عن واحد من أجمل ما قدمه لنا هذا العام. “ما هذا الذي شاهدته للتو؟”، قد يسأل الواحد منا وهو يحاول تذكر بعض اللقطات. العمل شديد الخصوصية، يأتينا من عمق السينما الأميركية المستقلة، وجد أرضاً له بعيداً من كل ما صنعت أميركا في الوجدان الشعبي. لا بطولات هنا ولا غلامور، ولا أي شيء يبعث على الحلم. فقط دورة الحياة الاعتيادية التي تتكرر، وصولاً إلى اللحظة التي تبلغ خاتمتها. وفن مثل هذا الذي تتمسك به ماثياس كفيل بأن يرينا الأشياء العادية بعين خلاقة، تؤكد قدرة الإنسان على رؤية الروعة داخل الأشياء التي عادة تمر ولا نراها. وبهذا المعنى، الفيلم دعوة إلى التأمل في روح المكان وروح اللحظة وروح الشخصيات. الجمال الذي يفرزه هذا الفيلم المينيمالي، هو تحديداً جمال الكادر والتكوينات البصرية. جمال يتجسد في المساحات التي تلتقطها عين المخرجة بحس تشكيلي، أو بيت تصوره من بعيد، أو مجرد كتف تتحول قبالة كاميراها إلى لوحة. تقارب ماثياس الكادر السينمائي باعتباره “فرصة للمشاهد أو فكرة”، كما تقول في مقابلة لها. سواء موضعت آلة التصوير داخل غرفة ضيقة أو تحت سماء واسعة، فالنظرة واحدة. لكن كل شخصية تأتي إلى المكان بمعنى آخر. هذه الروح التشكيلية تذكر على الفور بلوحات الرسام الأميركي أندرو وايث الذي استوحى منه ترنس ماليك بعض مشاهد فيلمه “أيام الجنة”. إنها الميدويست، الريف الأميركي المهمل سينمائياً، الذي ينام ويصحو على الفراغ والرتابة، فتأتي عين ماثياس لتحوله جسداً ينازع بصمت، لا بل يحتضر. قصة بسيطة خلال تصوير الفيلم (ملف الفيلم) ولأن الجمال يولد من البساطة، فالقصة بدورها بسيطة، يمكن اختصارها ببضعة أسطر. هاس (هانا شيلر) صبية في الـ18، تعيش مع والدها (جوناثان أيسلي) في ميزوري. الأخير، رجل مريب يتعاطى الخمور ويحاول بيع عقارات لا يملكها، عن طريق الاحتيال لتسديد الديون التي غرق فيها. لكن الرجل يموت فجأة، فيتعين على الابنة دفنه، وعليها احترام وصيته التي تقضي بدفنه في البيئة التي ولد فيها، الواقعة في ميسيسيبي. لكن، ذات يوم، تلتقي هاس شاباً اسمه ويل (دارن هولي)، فيدخل بعض التغيير في يومياتها الرتيبة. تبدو هاس مقطوعة عن العالم، لا لغة تجمعها أو تواصل يربطها بسكان منطقتها، فهي متروكة لمصيرها. يصل ويل في اللحظة المناسبة. اللقاء يساهم في إعطاء الفقد بعض المعنى، خصوصاً أن كليهما يعبران إلى سن الرشد. جميل كيف أن الموت سيفتح أبواب الحياة في حال هاس. الممثلة ماريا ماثياس في الفيلم (ملف الفيلم) بعد خسارة والدها، تجد هاس نفسها وحيدة. ويرينا الفيلم النحو الذي تتعامل به مع هذه الوحدة التي تحل عليها من دون سابق إنذار. الدين، وهو الحاضر جداً بين سكان المنطقة، لا يعالج المشكلة. ماثياس التي سبق أن أخرجت فيلماً قصيراً عنوانه “أن تسلم الروح”، تضعنا في أجواء مليئة بالحزن والأسى والمشاعر الدفينة. هناك عالم كامل، يقع خارج كل مظاهر الحياة الحديثة، يسلم روحه، لا فقط شخصية من الشخصيات. كيف يمكن قراءة فيلم كهذا، وبناء على أية مقاربة؟ هل يجب أن تكون سياسية أو اجتماعية أو فنية؟ لعل مقاربة تأخذ في الاعتبار الجوانب الثلاثة هي المطلوبة لفهم هذا العمل الذي يعبر سماء السينما مثل غيمة سوداء محملة بكثير من الأمطار وتحاول غسل كل شيء على طريقها. إلا أن الأمطار لن تسقط وتبقى الغيوم معلقة في السماء وتبقى الأرض جافة على شاكلة سكانها. أما الآفاق البعيدة، الظاهرة على الدوام، فهي ذات دلالات، لكونها تفصل الوجود بأكمله بين الحياة والموت. لا يحدد الفيلم زمن أحداثه. والتفاصيل الكثيرة داخل الصورة لا تساعدنا في معرفة تلك المعلومة. فالموت والفقد والرغبة في الحياة رغم كل شيء، من الأمور العابرة للزمن. يحاول الفيلم إعطاء وجه لكل واحد من هذه الأشياء، من دون وضعها في إطار حقبة معينة. الأماكن التي يصورها الفيلم تبدو أبدية. خلفها زمن غير محدد. ماذا يمكن للحظة أن تفعل في هذه الأرض التي تمنح الاحساس بأنها خارج أي تأثير؟ يأتي اللحن الذي ألفه الموسيقي بارا وإن كلازمة ترافق الصور المتدفقة والهادئة. العالم الذي تصوره ماثياس في أول تجربة إخراجية طويلة لها، متقوقع على نفسه، لديه بنوده ومفاهيمه وقيمه الخاصة. والنظرة الخارجية ما هي سوى اختراق. بعد عرضه في مهرجانات دولية مثل تورونتو وسان سيباستيان (فاز فيه بجائزة لجنة التحكيم الخاصة) وتسالونيك، يحط الفيلم في مهرجان القاهرة الذي وضعه ضمن البانوراما الدولية. “عداءة” من الأفلام التأملية التي تخطف قلوب محبي اللقطات الثابتة والأحاسيس المكبوتة والإيقاع الذي يشعرك بثقل الحياة. هذه تجربة سينمائية مهما تحدثنا عنها، فلا يمكن أن تعوض عن المشاهدة. وحدها المشاهدة تضمن الشعور العميق بالمكان والزمان، وهو أحد أهم ما يميز الفن السابع عن بقية الفنون. السينما التي تقترحها ماثياس هي سينما ضبط الأنفاس الذي يمد المشاهد بأحاسيس من نوع آخر، على نقيض السينما المستعجلة التي تغدو دعائية في أحيان كثيرة. إنه تجوال حقيقي بين النور والظلمة من خلال مشهدية شعرية تجعل الحب ينمو في مكان ما بينهما. المزيد عن:سينما\مهرجان سينمائي\أفلام\الأب\شخصية الإبن\ةعلاقات أسرية\البعد البصري