المذهل هو التحول الفيزيولوجي للغة الجسد السوري (علي علوش) ثقافة و فنون يوسف بزي يتابع الكتابة عن العودة إلى دمشق: إرث البعث الرهيب (2) by admin 26 ديسمبر، 2024 written by admin 26 ديسمبر، 2024 31 كنت مثلهم، أتذوق حرية الذهاب من مدينة إلى أخرى، والمشي أنى شئت والتجول بلا حاجز. جريدة المدن الالكترونية / يوسف بزي هي رحلة مؤجلة منذ 20 عاماً إلى المدينة التي وقعت في غرامها وكرهت حالها في آن معاً، منذ زيارتي الأولى عام 1988. آنذاك، كانت المدينة المترامية التي تغلب عليها أناقة الماضي والإلفة والسهولة، تهيمن عليها أيضاً مشاعر قابضة للأنفاس. بعد جزء أول، هنا الجزء الثاني: كانت عيوننا لا تتوقف عن التحديق في كل الاتجاهات. ونحن الذين كانوا محشورين بين “سوريا الأسد” الممنوعة علينا وإسرائيل المستحيلة لنا، فجأة وجدنا أنفسنا نكتسب مدى يمتد من بيروت إلى اسطنبول شمالاً أو إلى بغداد شرقاً وإلى الأردن والجزيرة العربية جنوباً. كأننا خرجنا من ضيق لبنان إلى جغرافيا بلا حد. بل كأننا ربحنا “عروبة” كان المتشدقون بها أول أعدائها. كل كيلومتر نجتازه أشبه بتحرير للروح والمخيلة. الوصول إلى دمشق كأنه ثأر شخصي يتحقق. فكل لبناني وفلسطيني وسوري نجا من الشرّ الأسدي، لن يرتعد بعد الآن من دخول سوريا. ثم أن نضع على زجاج السيارة الأمامي كلمة “صحافة” لهو أمر سوريالي، في بلاد كانت قبل أيام قليلة تستدعي هذه الكلمة الاعتقال والاختفاء وربما القتل. أوتوستراد المزة ينبسط أمامنا، نبتسم غريزياً. زميلنا علي لشدة دهشته ولهفته نسي أن يرفع الكاميرا ليصور مدخل العاصمة المحررة. إشارات السير تعمل! حركة صباحية تظهر في كناسة الشوارع، والبنايات التي تتثاءب شرفاتها. سيارات تتجه نحو قلب العاصمة. تتفتح الذاكرة: إنها الأمكنة الأليفة ذاتها. الدكاكين الأنيقة، والأبنية الواطئة المتشابهة، والشجيرات النحيلة عينها. لا مسلحين ولا أي مظهر عسكري، ولا شرطة! ومع ذلك، شعور مفاجئ بالأمان تبرهنه الحركة الواثقة للسيارات والمشاة في هذه الساعات المبكرة. علم الثورة يغطي أحفورة “مكتبة الأسد” على الواجهة الرخامية الضخمة. ساحة الأمويين بكامل هيبتها وسعتها. الناس لا يزالون منذ 12 يوماً، يقفون في وسطها ويلتقطون “السيلفي”: إشهار فوتوغرافي لـ”ها قد عدنا”. فحتى سكان العاصمة لم يكن لديهم الجرأة أن يتسكعوا هنا في البقعة الأشد حراسة ومراقبة، والمحاطة بمنشآت النظام ومراكزه الحساسة. كاميرات تلفزيونات العالم منصوبة هنا على مدار الساعة. الثورة أيضاً مصدر رزق للباعة المتجولين: الأعلام، الشالات، الاكسسوارات، والبوسترات. إنه “الشيراتون” إياه، الذي كان منذ تدشينه، أشبه بمقر رجالات النظام وضباطه ومخابراته وضيوفه وأثريائه، ومرتع اللهو لهم، بكل ما يعنيه اللهو -وفق ثقافتهم- من فضائح وتحلل. في التسعينات، دخلت إليه لموعد، فكان مشهد اللوبي بهذا الفندق كلقطة سينمائية مصطنعة تعبّر عن حفلة موبؤة بالثراء المشبوه والاستفزازي. هذه المرة كان اللوبي نفسه حاشداً بالإعلاميين، بعائلات سورية وصلت للتو إلى بلادها، برجالات النظام الجديد، الريفيين المتواضعين. الفندق أصبح عتيقاً. موظفة الاستقبال تبوح: “الزبائن الآن ألطف. لا علاقة لي بالسياسة، لكني أشعر بالراحة”. ليس الشاب الإدلبي الشديد الخجل، الواقف بسلاحه أمام الفندق هو مصدر تلك الراحة، بل غياب صانعي الرعب. وفوراً، نفلت من الفندق بتوق لاكتشاف المدينة والتجول فيها. سائق التاكسي الأول من جبلة. متحفظ ومرتبك. سائقو التاكسي هم مزاج المدينة ولسانها. كان النظام يدرك أهميتهم. يجس نبض المدينة بواسطتهم. إنهم آذان وعيون الشارع. رادار للإشارات السيكولوجية عند السكان. في مكتب سيريتل، تغمرني تلك الضحكة النضرة الطالعة من القلب، ومن الخدود المحمّرة بهجةً للموظفة العشرينية، مجيبة عن سؤالي: “ماذا تغير في 12 يوما؟”. قالت من صميم روحها: “كللللل شي”. الصالحية هي بالنسبة لي القلب النابض. إنها مرتعي. هي ذاتها لم تتغير. عتقت وتكلّحت. مات مقهى برازيليا، الذي ولا مرة دخلت إليه إلا والتقيت بغير موعد بصادق جلال العظم ومحمد الماغوط وعماد حورية في مكتبته الأنيقة.. وبكثير من الشعراء والصحافيين والمسرحيين. لم يمس أحد تمثال يوسف العظمة الذي يخضع للترميم. مقهى هافانا ليس هو نفسه، معتم وكئيب وقد تبدل رواده. لكنه كمعظم مقاهي دمشق خال من الادعاءات الاستهلاكية، مقهى حقيقي بلا زوائد كاذبة. باتجاه محطة الحجاز، تنكشف أمامي دمشق التي تشغفني: دكاكين الحلويات والسندويشات، البسطات المتواضعة، الشبان والشابات بالآلاف ذهاباً وإياباً، الشحاذون، المتسكعون، اللاهثون إلى أعمالهم. الخليط البشري الحيوي. الازدحام الذي ينظمه متطوعون يرتدون سترات برتقالية، خضعوا لتدريب مكثف وعلى عجل. جسر فكتوريا الرابط بين أجزاء المدينة وتحته الفائر بالعابرين إلى كل الاتجاهات. مبنى البريد المهيب كتحفة معمارية دالة على زمن الدولة السورية في عزها. تبدلت بسطات الكتب ببسطات البضائع الصينية الرخيصة. واليوم، لا باعة سريين لعلب السجائر المهربة، لا سوق سوداء للدولار، لا مجندون فقراء، لا طلاب مدارس بثياب عسكرية. لا سيارات متوقفة لدوريات المخابرات. مدينة متخففة من زمن البعث على نحو مباغت. لكن ما يذكرنا به وبشكل فجائعي وصادم، هو الجدران الممتلئة في كل مكان بملصقات صغيرة لصور مفقودين، ونداءات لمن يعرف عنهم شيئاً: فلان الفلاني اختفى يوم كذا عام 2012. فلان الفلاني اعتقل في تلك محلة عام 2013 ولم يعرف مصيره حتى الآن، من لديه معلومات ليتصل على هذا الرقم. فلان الفلاني، فاقد الذاكرة، لمن يعرفه يتصل على هذا الرقم. هذه الملصقات، هي الإرث الرهيب والجرح الفظيع والغائر الذي لن يندمل لزمن مديد. هي التعبير المكثف للجريمة الشاملة التي ارتكبت بحق سوريا والسوريين. وكانت تلك الجدران نفسها أشبه بمقابر جماعية شاسعة وزنزانات لانهائية لعشرات ومئات ألوف السوريين. تلك الآلاف من الوجوه الملصقة على جدران دمشق تحدق فينا ككابوس من الشعور بالذنب. هذا هو متحف “سوريا الأسد”. المذهل هو التحول الفيزيولوجي للغة الجسد السوري. هذه المشية الجديدة المطمئنة للسائرين، هذا الصدر المفتوح لا المنقبض، هذا الرأس غير المطأطئ، هذه العيون غير المواربة والمباشرة النظر، هذا الكلام العلني والأصوات الواضحة. هذه اللامبالاة بلا نظرات التوجس. بل هذه الراحة والشعور بالفرح والزهو، وحرية التجول بعد سنوات من الانحباس الطوعي أو القسري، ومتعة الانغماس بهذه الحشود. الفتاة الدمشقية قالت: منذ خمس سنوات لم أغادر حارتي. سيارات كثيرة لوحات أرقامها من مختلف المحافظات السورية: إدلب، حلب، حمص، درعا.. السوريون أتوا لزيارة العاصمة بعد حرمانهم منها لسنوات طويلة. يتفرجون كسياح على دمشق، هم الذي قضوا أكثر من عقد يتجنبون الخروج من منازلهم أو حاراتهم، بما يعنيه الخروج من محنة المرور على حواجز لا حصر لها، كلها مصدر خوف وخطر وامتحان مرعب، واحتمال مهانة أو اعتقال أو سلب. كنت مثلهم، أتذوق حرية الذهاب من مدينة إلى أخرى، والمشي أنى شئت والتجول بلا حاجز. أصل إلى الحمرا، الذي أراه الآن أجمل من حمرا بيروت الذي تشوه على نحو لا شفاء منه. شابات محجبات يتسكعن بمرح، يقفن عند بائع الذرة الذي زيّن عربته بعلم سوريا الحرة. ألقي التحية عليهن وأتذكر عبارة “حرائر الشام” أيام تظاهرات الثورة. دمشق أنثى خجولة، تبتسم الآن. (يتبع) يوسف بزي يكتب عن: العودة إلى دمشق.. المدينة التي كرهتها وأحببتها دوماً (1) 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post بيل ترو تكتب عن: تفاصيل أسبوع استثنائي في سوريا عقب إسقاط نظام الأسد next post دراما من فوكنر تحولت بقلم كامو إلى مسرحية عن الإيمان You may also like مطربون ومطربات غنوا “الأسدين” والرافضون حاربهم النظام 27 ديسمبر، 2024 “عيب”.. زوجة راغب علامة تعلق على “هجوم أنصار... 26 ديسمبر، 2024 رحيل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري… الراسخ في... 26 ديسمبر، 2024 محمد حجيري يكتب عن: جنبلاط أهدى الشرع “تاريخ... 26 ديسمبر، 2024 دراما من فوكنر تحولت بقلم كامو إلى مسرحية... 26 ديسمبر، 2024 كوليت مرشليان تكتب عن: الصحافي والكاتب جاد الحاج... 26 ديسمبر، 2024 إسماعيل فقيه يكتب عن: “دعوني أخرج”!… قالها الشّاعر... 26 ديسمبر، 2024 عقل العويط يكتب عن: سوف يصفّق في الظلام... 26 ديسمبر، 2024 روؤف قبيسي يكتب عن جاد الحاج … صفحات... 26 ديسمبر، 2024 بول شاوول يكتب عن: أمير القصة العربية يوسف... 25 ديسمبر، 2024