ثقافة و فنونعربي يا لجحيم المدينة! في “تحية لأوسكار بانيتزا” لجورج غروس by admin 27 يونيو، 2020 written by admin 27 يونيو، 2020 142 الألوان للاحتجاج العملي ضد بشرية أصيبت بالجنون اندبندنت عربية/ إبراهيم العريس باحث وكاتب بعد عودته من جبهات القتال التي أمضى فيها سنة خلال الحرب العالمية الأولى، ما كان في مقدور الرسام الشاب آنذاك، جورج غروس أن يرى المدينة، أي مدينة، إلا على صورة الجحيم. لكنه لم يعرف السبب حينها. كل ما في الأمر أن زحام شوارع المدينة والكآبة المسيطرة على أهلها والموت الرابض في كلّ مكان وسهولة انتشار الأوبئة فيها، كلها أمور أعادته إلى عصور ماضية وإلى لوحات لرسامين من تلك العصور (هيرونيموس بوش وبروغل الأكبر بين آخرين) عرفوا كيف يحولون الزحام إلى جحيم والناس إلى أشكال حيوانية تأكل بعضها بعضاً. من هنا رسم لوحات واسكتشات متعددة عبّر فيها إن لم يكن عن المدينة نفسها فعن رعبه من المدينة. وهو سيقول لاحقاً أن لوحة واحدة هي بالأحرى ثلاثية لزميله وصديقه أوتو ديكس عنوانها “المدينة” سوف تكشف له عن حقيقة نظرته هو إلى هذه الأخيرة. المهم في الأمر أن من بين اللوحات “المدينية” التي حققها غروس أواخر العقد الثاني من القرن العشرين تبدو لوحة “تحية إلى أوسكار بانيتزا” وكأنها تتويج لعلاقته مع المدينة. مدينة الجنون ففي هذه اللوحة التي يبلغ ارتفاعها 140 سم وعرضها 110 سم وتوجد حالياً في “شتاتغاليري” بمدينة شتوتغارت الألمانية، يصوّر غروس ذلك العالم المجنون الذي تشكله المدينة ولكن من خلال تحية فنية يوجهها إلى المدعو أوسكار بانيتزا الذي كان يعتبر من البوهيميين الأكثر فوضوية في المدينة (برلين) والذي بعدما تلقى في صباه تربية دينية صارمة ومحطّمة، انصرف إلى أكثر الفنون استفزازية بالتواكب مع ممارسات إجرامية جعلته لا يخرج من سجن إلا ليدخل إلى غيره هو الذي كان يقول عن نفسه: “أنا لست فناناً، بل مريضاً نفسياً استخدم الفن لأعبر عن جنوني…”. كغيره من المثقفين يومها، افتتن غروس بتلك الشخصية وكانت نتيجة افتتانه هذه اللوحة التي أوصل فيها جنون المدينة إلى مستوى يضاهي جنون بانيتزا. ومن هنا لم تكن من المصادفة أن يحاصر جنون المدينة والموت والأقنعة المتناثرة في شوارعها، بجنود يمتشقون السيوف الدامية (أسفل يمين اللوحة) وبرجل دين يرفع صليبه علامة على انتصاره. بالنسبة إلى غروس لا يتحقق ذلك الانتصار المزدوج، إلا عبر تلك المسيرة الشيطانية الليلية تقوم بها، وبحسب وصف غروس نفسه لما “يجري” في لوحته، جموع لم يعد يطبعها ما هو إنسانيّ، ولا يمكن أن يُقرأ على سيماء وجوهها – إن بقيت لها وجوه – سوى الخمر ومرض الزهري والطاعون” بل كل ضروب الأوبئة إن شئنا توخّي الدقة. ويقرّ غروس في حديثه نفسه بأنه إنما أراد أن يسير على خطى بوش وبروغل “فهما مثلنا كانا يعيشان ويرسمان في القرون الوسطى في أزمنة نهايات شيء ما وبدايات أشياء أخرى” مضيفاً: “أنا بدوري إنما أرسم احتجاجاً ضد بشرية أصيبت بالجنون… وما الألوان سوى وسيلتي للاحتجاج”. “تحية الى أوسكار بانيتزا (1917/1918) (موقع متحف شتوتغارت) من أساطين الملصق والكاريكاتور قد لا يكون جورج غروس واحداً من كبار الفنانين الذين عرفهم القرن العشرون، وحتى مكانته في التيارات الفنية المختلفة التي انتمى إليها، في هذه المرحلة أو تلك، يمكن النقاش حولها. كما أنه لم يكن من قبيل المصادفة أنه لا يُكتشف، من جديد، إلا في كل مرة يتم فيها البحث في علاقة الفن بالسياسة وفي كل مرة يجري فيها الحديث عن رد فعل الفن التشكيلي إزاء الأحداث الكبرى، وعن العلاقة بين الفن التشكيلي وفن الكاريكاتور. وذلك لأن جورج غروس كان بارزاً في هذه المجالات الثلاثة أكثر مما كان بارزاً في فن إنتاج اللوحة وفي الحضور في المعارض، أو حتى في التيارات. على عكس العديد من أقرانه من الفنانين الألمان الذين عاشوا خلال المرحلة الفاصلة بين القرنين التاسع عشر والعشرين، وكانوا في معظمهم من أبناء أسر بورجوازية مرفهة، كان جورج غروس المولود في برلين العام 1893 ابناً لأسرة فقيرة. من هنا عاش في طفولته حياة بؤس منعته حتى من استكمال تعليمه أو من دراسة الفن التشكيلي كما يجب، على الرغم من بروز مواهبه باكراً. لذلك التحق بالعمل لدى رسام من المنتمين إلى تيار “اليوغندستيل” (الأسلوب الشبابي) الذي كان على الموضة في ذلك الحين، وكان يسعى لتكريس دور ألماني في تيارات الفن الحديث. ولقد ساعده عمله عند ذلك الرسام على اكتساب بعض المال الذي مكنه من الانتساب إلى أكاديمية درسدن الملكية، وهو اهتم هناك بصورة خاصة بدراسة فنون اليابان وأعمال الفرنسيَين دومييه وتولوز لوتريك والإسباني غويا. والحقيقة إن تأثير هؤلاء فيه ظل ماثلاً في أعماله حتى أيامه الأخيرة، وهو تأثير أعطى لأعماله على الدوام طابع فن الملصق، ووجّهه بشكل خاص نحو دراسة وممارسة فن الرسم الكاريكاتوري. غير أنه على الرغم من تميّز رسومه الأولى عجز عن نشرها في أي من صحف تلك المرحلة، ما قاده إلى ارتياد المقاهي وممارسة حياة بوهيمية كان خلالها يبيع الرسوم الكاريكاتورية للمارة. اقرأ المزيد فيلم “جوجو رابيت” يجرّد النازية من جديتها 500 عام على رحيل “فيلسوف الرسم الإيطالي” رفائيل سانزيو الحجّ إلى باريس وهكذا تمكن، مرة أخرى، من جمع مبلغ صغير من المال مكنه من السفر إلى باريس في ربيع 1913 حيث كان يريد تمضية سنوات. غير أن الحرب العالمية الأولى فاجأته فإذا به يجنَّد في القوات الألمانية ويصطدم مباشرة بمآسي الحرب. وهو من خلال رصده تلك المآسي وحياة الجنود ومخاوفهم، تمكن من تحقيق تلك السلسلة من الرسوم ذات الطابع الكاريكاتوري التي عبرت عن أهوال الحرب، وجعلت له، حين راحت تُنشر، مكانة كبرى بوصفه فناناً مناهضاً للحرب يعلن مناهضته تلك في رسوم تمتلئ بجثث الجنود والأيدي المبتورة، وتكشف التفاوت الطبقي بين الجنود وضباطهم وتصرخ منادية بعبثية الحروب، كل الحروب. ولقد تمكن غروس في تلك الآونة من نشر العديد من رسومه في الصحف ما لفت إليه أنظار السلطات فاعتقلته في مأوى للجنود العصابيين، معتقدة أن ذلك الاعتقال سوف يردعه عن الاستمرار في تحقيق رسومه، فإذا به يواصل راسماً هذه المرة أنواعاً جديدة من الجثث (جثث الجنود الأحياء) ومن أهوال الحرب. نهاية أميركية وانتهت الحرب وكان غروس قد بدأ يصيب من الشهرة ما سهّل عليه عيشه بعد ذلك، بل أسس مع كارل إينشتاين مجلة هزلية قاسية، ثم انضم إلى تيار الدادائيين على غرار زميله أوتو ديكس، الذي ارتبط اسمه به بعد ذلك. وعلى الرغم من اتهام السلطات له بالخيانة والطعن في ذات الإمبراطور صاحب السلطة العليا، فإنه عرف دائماً كيف يفلت وكيف يواصل رسومه التي اختلط فيها الاجتماعي بالسياسي، فإذا بها تصبح معبرة عن آلام وإخفاقات جيل بأسره من الألمانيين، من دون أن تعتبر أعمالاً متحفية أساسية. وهو استمرأ تلك اللعبة فإذا به يحوّل كل طاقاته لتحقيق رسوم مناهضة للروح العسكرية ولكل نزعة شوفينية قومية. ومن هنا اعتُبر غروس الرسام الأكثر هزءاً من الواقع الاجتماعي خلال السنوات المجنونة، والمشاكس الأول في الفن الألماني. ومن هنا كان من الطبيعي له، حين وصل النازيون إلى السلطة، أن يهرب من المانيا، فتوجه إلى الولايات المتحدة ونال الجنسية الأميركية، لكنه في اللحظة نفسها انتهى كفنان، فقد تبين له بوضوح أن فنه لم يعد يساوي شيئاً إذ انقطع عن جذوره ومصادر إلهامه. ومن هنا ظلت تلح عليه فكرة العودة إلى إلمانيا، حتى حققها أخيراً في 1959 معتقداً أنه سوف يستعيد مكانته وقدراته الفنية، لكنه سرعان ما رحل في العام نفسه منسيّاً أول الأمر قبل أن يعاد اكتشافه مع الفورة الألمانية فيعتبر واحداً من كبار الفنانين الذين أثّروا في رسامي الكاريكاتور والملصق في القرن العشرين. المزيد عن: جورج غروس/لوحة تحية إلى أوسكار بانيتزا/الحرب العالمية الأولى/النازية/ألمانيا 32 comments 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post “عودة الحياة” في مصر: جدّ وهزل وفرحة وتوجس next post مؤلفة “هاري بوتر” انتقدت هويّات جنسية مغايرة ووقعت في مأزق You may also like أليخاندرا بيثارنيك… محو الحدود بين الحياة والقصيدة 24 نوفمبر، 2024 مهى سلطان تكتب عن: الرسام اللبناني رضوان الشهال... 24 نوفمبر، 2024 فيلمان فرنسيان يخوضان الحياة الفتية بين الضاحية والريف 24 نوفمبر، 2024 مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 32 comments зарубежные сериалы в хорошем HD качестве 25 مارس، 2024 - 12:34 ص Hey There. I found your blog using msn. This is an extremely well written article. I will be sure to bookmark it and come back to read more of your useful information. Thanks for the post. I will definitely comeback. Reply глаз бога тг 10 أبريل، 2024 - 10:47 م Very soon this site will be famous among all blogging and site-building viewers, due to it’s pleasant posts Reply steam cs:go skin casino site 8 مايو، 2024 - 6:22 م Hi Dear, are you actually visiting this site regularly, if so then you will definitely get nice experience. Reply Гомельский государственный университет имени Франциска Скорины 16 مايو، 2024 - 7:03 م One of the leading academic and scientific-research centers of the Belarus. There are 12 Faculties at the University, 2 scientific and research institutes. Higher education in 35 specialities of the 1st degree of education and 22 specialities. Reply гостиничные чеки Санкт Петербург 24 مايو، 2024 - 6:11 م Saved as a favorite, I like your blog! Reply купить удостоверение тракториста машиниста 30 مايو، 2024 - 8:44 م Wow, that’s what I was seeking for, what a data! present here at this webpage, thanks admin of this website. Reply 乱伦色情 3 يونيو، 2024 - 7:23 م At this moment I am going away to do my breakfast, after having my breakfast coming yet again to read further news. Reply russa24-diploms-srednee.com 11 يونيو، 2024 - 5:50 م I visited several sites except the audio quality for audio songs present at this site is truly wonderful. Reply hot fiesta казино 14 يونيو، 2024 - 4:53 م Thank you, I have recently been searching for information approximately this topic for ages and yours is the best I have came upon so far. However, what about the conclusion? Are you positive concerning the source? Reply хот фиеста казино 15 يونيو، 2024 - 4:10 ص I know this if off topic but I’m looking into starting my own blog and was wondering what all is required to get set up? I’m assuming having a blog like yours would cost a pretty penny? I’m not very internet savvy so I’m not 100% positive. Any tips or advice would be greatly appreciated. Kudos Reply Теннис онлайн 28 يونيو، 2024 - 2:19 ص Do you mind if I quote a couple of your posts as long as I provide credit and sources back to your weblog? My blog site is in the very same area of interest as yours and my visitors would definitely benefit from a lot of the information you present here. Please let me know if this alright with you. Regards! Reply Теннис онлайн 28 يونيو، 2024 - 7:49 م Can I just say what a relief to find a person that really knows what they’re talking about on the internet. You certainly understand how to bring an issue to light and make it important. More and more people need to look at this and understand this side of the story. It’s surprising you’re not more popular because you certainly have the gift. Reply Теннис онлайн 29 يونيو، 2024 - 10:35 م Hi there, all the time i used to check webpage posts here early in the break of day, since i love to gain knowledge of more and more. Reply Теннис онлайн 30 يونيو، 2024 - 11:20 ص Ahaa, its good conversation concerning this piece of writing here at this webpage, I have read all that, so now me also commenting here. Reply Теннис онлайн 1 يوليو، 2024 - 12:17 ص Hi, I do believe this is an excellent blog. I stumbledupon it 😉 I will come back once again since I book-marked it. Money and freedom is the best way to change, may you be rich and continue to help other people. Reply Прогнозы на футбол 3 يوليو، 2024 - 6:26 ص I love your blog.. very nice colors & theme. Did you design this website yourself or did you hire someone to do it for you? Plz reply as I’m looking to create my own blog and would like to know where u got this from. appreciate it Reply Прогнозы на футбол 3 يوليو، 2024 - 8:05 م Hmm is anyone else experiencing problems with the images on this blog loading? I’m trying to find out if its a problem on my end or if it’s the blog. Any feedback would be greatly appreciated. Reply Прогнозы на футбол 4 يوليو، 2024 - 8:49 ص Pretty section of content. I just stumbled upon your web site and in accession capital to assert that I acquire in fact enjoyed account your blog posts. Any way I’ll be subscribing to your augment and even I achievement you access consistently fast. Reply Прогнозы на футбол 5 يوليو، 2024 - 10:00 ص I am really glad to read this website posts which contains plenty of useful data, thanks for providing these data. Reply мойка самообслуживания под ключ 6 يوليو، 2024 - 7:49 م “Строительство автомойки под ключ” включает все от проектирования до ввода в эксплуатацию. Ваш бизнес-проект будет безопасен и эффективен с нами! Reply автомойка под ключ 7 يوليو، 2024 - 9:23 ص Мойка самообслуживания под ключ обеспечивает комфорт для клиентов и стабильную прибыль для владельца. Присоединяйтесь к успешным предпринимателям! Reply автомойка под ключ 8 يوليو، 2024 - 9:06 م Строительство автомойки – сложный процесс. Мы обеспечиваем профессиональный подход на каждом этапе, чтобы ваш бизнес процветал. Reply Прогнозы на футбол 9 يوليو، 2024 - 8:00 م Undeniably consider that that you stated. Your favourite justification appeared to be at the internet the simplest thing to understand of. I say to you, I definitely get irked at the same time as folks consider worries that they plainly do not recognize about. You controlled to hit the nail upon the top as well as defined out the whole thing with no need side effect , other people can take a signal. Will likely be back to get more. Thank you Reply Прогнозы на футбол 10 يوليو، 2024 - 1:07 م Hi there to all, how is everything, I think every one is getting more from this site, and your views are pleasant designed for new users. Reply Jac Амур 19 أغسطس، 2024 - 7:55 م It’s going to be end of mine day, except before finish I am reading this great post to increase my knowledge. Reply theguardian 23 أغسطس، 2024 - 10:18 م Very good blog! Do you have any suggestions for aspiring writers? I’m planning to start my own site soon but I’m a little lost on everything. Would you suggest starting with a free platform like Wordpress or go for a paid option? There are so many choices out there that I’m totally confused .. Any recommendations? Cheers! Reply theguardian 24 أغسطس، 2024 - 3:02 م You should take part in a contest for one of the finest sites on the web. I will recommend this site! Reply theguardian 25 أغسطس، 2024 - 9:56 م Thanks for sharing such a nice idea, article is pleasant, thats why i have read it completely Reply theguardian.com 26 أغسطس، 2024 - 12:55 م Good day! This is my first visit to your blog! We are a group of volunteers and starting a new initiative in a community in the same niche. Your blog provided us valuable information to work on. You have done a outstanding job! Reply theguardian 28 أغسطس، 2024 - 10:34 ص I blog quite often and I really appreciate your content. The article has really peaked my interest. I will bookmark your site and keep checking for new information about once a week. I subscribed to your RSS feed as well. Reply theguardian 28 أغسطس، 2024 - 11:51 م I have been surfing online more than three hours nowadays, yet I never found any fascinating article like yours. It’s lovely worth enough for me. In my opinion, if all site owners and bloggers made good content as you did, the internet will be much more useful than ever before. Reply theguardian.com 29 أغسطس، 2024 - 1:27 م whoah this blog is magnificent i love reading your articles. Stay up the good work! You understand, many people are hunting around for this info, you can help them greatly. Reply Leave a Comment Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment.