ثقافة و فنونعربي والتر بنجامين ينتصر للهياكل الحديدية عبر “ممرات باريس” by admin 26 أكتوبر، 2022 written by admin 26 أكتوبر، 2022 29 المفكر الألماني يسبق مدرسة الحوليات ويستثير نهم السرياليين للتعمق في دراسة المدينة اندبندنت عربية \ إبراهيم العريس باحث وكاتب قبل سنوات من زيارته الأولى لها، كان المفكر الباحث الألماني والتر بنجامين (1892 – 1940) يعرف باريس جيداً، وبذلك قدر ما كان متعمقاً في اللغة الفرنسية التي ترجم منها أعمالاً كبيرة لمارسيل بروست، وأرخ لقرنها الثامن عشر من خلال كتاباته العديدة عن شارل بودلير، من هنا لم يكن من الصعب عليه لاحقاً حين زارها للمرة الأولى، حقاً، في عام 1919 أن يقوم بوصف باريس معشوقته (وبديلة برلين العمرانية، التي لم يكن يحبها كثيراً على رغم ارتباط طفولته بها)، بكونها عاصمة القرن التاسع عشر، ولكن هذه المرة تحديداً ليس من خلال أدب بودلير، بل من خلال كتاباته المسهبة عن “ممرات باريس” أي تلك الأزقة الضيقة التي تشيد داخل العمارات ممتدة من شارع إلى شارع خلفي، وتنتشر على جوانبها تلك المحلات التجارية والمطاعم والمقاهي والمكتبات التي رأى بنجامين في ازدهارها انتصاراً لم يستسغه كثيراً على أية حال لذلك المزج التحديثي بين الهياكل العمرانية المعدنية وازدهار صناعات النسيج في العاصمة الفرنسية وما حولها، ويمكننا أن نرى من خلال مئات الصفحات التي كتبها بنجامين عن ممرات باريس، دون أن يعلن أنه أنجز حقاً النص الكبير الذي أراد إنجازه حول ذلك الموضوع، كيف أن باريس قد أضحت في نظره منذ نهايات الربع الأول من القرن التاسع عشر، مجرد فوضى ناتجة من “اضطراب إنتاجي كبير”، يجعل الثروة والفقر يتعايشان على قدم المساواة بين “الوعود الطوباوية” و”الوهم القمعي”، ولكن لماذا منذ ذلك التاريخ المحدد؟ ببساطة لأنه اللحظة التاريخية التي شهدت بدء إقامة تلك الممرات. صورة مصغرة للمدينة بالنسبة إلى والتر بنجامين، كانت الممرات الباريسية إذاً صورة مصغرة لباريس القرن التاسع عشر، حتى ولو كانت مداخل الممرات عبارة عن “فتحات كهف غامض” تنفتح على مدينة تغمرها معانٍ متعددة، ومن هنا كان من المنطقي أن تبدو نصوص بنجامين حول الممرات الباريسية التي بدأ يكتبها بين عامي 1927 و 1929 أشبه بـ”قصة خيالية جدلية” تكاد تنتمي مباشرة إلى ذلك التجوال السريالي الذي كان أثيراً لدى أندريه بريتون، ولكن أيضاً لدى لوي آراغون في مرحلته السريالية ما قبل الشيوعية، وتناوله في نصه البديع “فلاح باريس”، فراح يبدو ذا نكهة أدبية خالصة، بل كغوص شاعري في مدينة بدت بين يديه خيالية، قبل أن يكتشفها مؤرخو مدرسة “الحوليات” الجغرافية – التاريخية باكراً، فينظرون إليها تدريجاً بوصفها “تاريخاً اجتماعياً لباريس في القرن التاسع عشر” عندما نشرت في عام 1939، بخاصة أنهم أدركوا حتى قبل أن يشتغلوا على تواريخهم، أنها أكثر كثيراً من كونها نصوصاً ذات بعد ذاتي أتت مستقاة من مجموعة من الاقتباسات والتعليقات والملاحظات التي اقتبسها بنجامين من كتب ووثائق وشروحات ومخططات تفحصها الكاتب الألماني بين رفوف وقاعات المكتبة الوطنية الفرنسية، ولكن فيما كان بنجامين يشتغل على تلك الفصول التي كان من سوء الحظ أنه لم ينجزها أبداً، فنشرت غير مكتملة، هل كان يشتغل على جغرافية باريس؟ أبداً! كان يشتغل على جغرافيتها وتاريخها في آن معاً، وذلك ما أثار إعجاب المؤرخين الجدد. والتر بنجامين (1892 – 1940) (ويكيبيديا) تاريخ هزائم باريس؟ فلئن كان الكتاب كما نشر وبعنوان “باريس عاصمة القرن التاسع عشر، كتاب الممرات” يغوص في الجغرافيا الباريسية من حيث لا يمكن لأحد أن يتوقع، فإنه في الوقت نفسه كان يغوص في تاريخها ولكن بشكل خاص، في تاريخ الحراكات الضخمة والمتراوحة بين الاحتجاجية والثورية المنتهية حيناً بانتصار قوى التغيير، ولكن غالباً بهزيمة تلك القوى، ومن هنا تتكرر في الكتاب تواريخ محددة، 1789، 1830، 1848، 1871. والذين يعرفون تاريخ باريس معرفة والتر بنجامين له لا يصعب عليهم ربط كل سنة من هذه السنوات بهزيمة ما طاولت عاصمة فرنسا، حتى وإن أسفر الأمر عن تبدلات غيرت الأمة كلها، فيما دفعت باريس الثمن، لكنه عمرانياً وحداثوياً كان ثمناً غريباً من نوعه، ثمن يقفز بالمدينة وعمرانها واقتصادياتها في كل مرة قفزة إلى الأمام، وما يقوم به بنجامين هنا إنما هو الاشتغال على سمتين من سمات التطور الباريسي، حيث يستعير من ماركس مفهوم التخييل لوصف واحدهما وهو المتعلق بلعبة “التشييء” التي حللها ماركس في “رأس المال” ويستند إلى الاقتصاد السياسي وعلومه، ولكن أيضاً كما يحللها ماركس نفسه في “مخطوطات 1844” لتفسير ثانيهما وهو “الاقتصاد الصناعي”، وهو يمزج السمتين معاً ليتوصل إلى الأثر السحري الذي ينتهي به الأمر إلى تغطية العلاقات الاقتصادية والاجتماعية في بؤرة واحدة تسم الحالة العمرانية التي نجده يمعن في تحليلها المحايد، هو الذي كان قد سبق له أن فعل الشيء نفسه، ولكن بلغة أكثر ذاتية بالنسبة إلى مدينته برلين التي مكنه كتابه السابق “طفولة برلينية” (1900) من تحرير نفسه منها. رؤية جدلية ومن هنا نجده عبر تلك الحيادية التي نوهنا بها أعلاه، يتوصل إلى جوهر فلسفته الاجتماعية التي توخى التعبير عنها هنا منطلقاً من انبهاره الباريسي، حيث كما يكتب في صفحات “ممرات باريس” متحدثاً عن “إن هذا البريق الذي يمثله عمران الممرات، وذلك الازدهار الذي عرفت باريس كيف تحيط نفسها به من خلال مجتمعها المنتج للبضائع، ناهيك بالشعور الوهمي على أية حال، الذي تبثه في المرء مشعرة إياه بأنه في أمان، ليست جميعاً في ملجأ من شتى ضروب التهديد والمخاطر، وما انهيار الإمبراطورية الثانية وهزيمة كومونة باريس سوى لحظات تاريخية ماثلة هنا في كل حين لتذكرنا بهذه الحقيقة”. ومن هذا المنظور بالتحديد يرى بنجامين أن باريس تصبح عاصمة للقرن التاسع عشر، وذلك لأنها جمعت في داخلها وجهي ذلك القرن المتعارضين، ولكن “المتكاملين” في الوقت نفسه، باريس المدينة التي تمكن من أن يتطور فيها اقتصاد رأسمالي متقدم، وباريس المدينة التخييلية التي تضيع وسط أطر عالم الأوبريت الذي تفنن أوفنباخ وأضرابه في إبداعه دون أن يكون في إمكانهم إبداعه في أية مدينة أخرى… لكن هنا تحديداً ينتقل بنجامين إلى تلك الإشارة بالغة الأهمية التي ذكّر من خلالها بتواتر اللحظات التاريخية الكبرى، التي إذ شكلت تاريخ باريس في القرن التاسع عشر شكلت لها جغرافيتها في الوقت نفسه، وهنا في هذا السياق نفسه وكما يشير معلق على “ممرات باريس” هو غودرون كلات في مقالة نشرتها مجلة “الماغازين ليترير” عام 1990 لمناسبة صدور ترجمة فرنسية للكتاب، لا بد من الإشارة إلى الكيفية التي عدل بها بنجامين نظرته قبل مبارحته فرنسا وانتحاره عند الحدود الفرنسية الإسبانية، وذلك حين اكتشف في المكتبة الوطنية كتاباً لثائر الكومونة بلانكي عنوانه “الخلود من طريق الأفلاك”، يبدي فيه هذا الثائر يأسه من تحقيق الثوار أي انتصار. وكانت الفكرة مغرية كي يقع بنجامين صريع اليأس، فالجمهوريون الإسبان اندحروا و”الجبهة الشعبية” الفرنسية انفرطت، والنازيون الألمان بدأوا يجتاحون أوروبا والسوفيات الستالينيون يسكتون عنهم ويوقعون معهم المواثيق والمعاهدات، وأميركا ساكتة والفرنسيون يستعدون لاسقبال الاحتلال الألماني، ولكن بنجامين قبل انتحاره خوفاً ويأسا، تمسك برؤيته لباريس معتبراً أن أزمنة الانحطاط لا يمكنها أن تكون حقيقية ومستديمة بعد كل شيء، وهو استند إلى تحليل جدلي للقرن التاسع عشر ولما حققته باريس فيه، ليخلص من كل ذلك إلى الاستنتاج بأن ما هو مطلوب من المؤرخين الأكثر ذكاء إنما هو النظر إلى الأحداث والتطورات من منظور إيجابي شامل، فلو “نظرنا إليها كذلك، سندرك أهمية وواقع أن تكون باريس قد تمكنت على رغم كل شيء من أن تكون عاصمة للقرن التاسع عشر”. صحيح أن نظرة بنجامين قد تبدلت بعد احتلال النازيين فرنسا بدعم من خيانات فرنسية واضحة، ما جعله يتراجع عن إيجابيته المتفائلة ليغرق في ذلك اليأس الذي دفعه إلى الانتحار، ولكن من المؤكد أنه بانتحاره كان مخطئاً ومتسرعاً، فهو لو صبر سنوات قليلة أخرى لكان من شأنه أن يدرك أنه كان قبل ذلك على حق وأن بلانكي كان، في يأسه، مخطئاً! المزيد عن: والتر بنجامين\باريس\اللغة الفرنسية\مارسيل بروست\شارل بودلير\تراث الإنسان 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post ملاك عقيل: الترسيم مع سوريا… أصعب من إسرائيل next post هل تعني عودة “حماس” إلى دمشق نهاية “الربيع العربي”؟ You may also like نظرية فوكوياما عن “نهاية التاريخ” تسقط في غزة 29 نوفمبر، 2024 لماذا لا يعرف محبو فان غوخ سوى القليل... 29 نوفمبر، 2024 جائزة الكتاب النمساوي لرواية جريمة وديوان شعر ذاتي 29 نوفمبر، 2024 طفولة وبساطة مدهشة في لوحات العراقي وضاح مهدي 29 نوفمبر، 2024 استعادة كتاب “أطياف ماركس” بعد 20 عاما على... 28 نوفمبر، 2024 تحديات المخرج فرنسوا تروفو بعد 40 عاما على... 28 نوفمبر، 2024 21 قصيدة تعمد نيرودا نسيانها فشغلت الناس بعد... 28 نوفمبر، 2024 الرواية التاريخية النسوية كما تمثلت لدى ثلاث كاتبات... 28 نوفمبر، 2024 بودلير وهيغو… لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم... 27 نوفمبر، 2024 شوقي بزيع يكتب عن: شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد... 27 نوفمبر، 2024