بأقلامهم هناء عبد الخالق تكتب عن : باسكيا.. طفل في مشاغباته ورسام حتى النخاع by admin 27 يوليو، 2023 written by admin 27 يوليو، 2023 201 الكلمات كانت مهمة لباسكيا استخدمها بعدة طرق، ظهرت على الجدران في جميع أعماله كدعوات أو ملاحظات موسيقية لا يمكن فهمها مثل «القديم نفسه أو القرف القديم نفسه» في سطر واحد مناسب. القدس العربي \ هناء عبد الخالق *فنانة تشكيلية وأستاذة في الجامعة اللبنانية «اعرفوا أسرارهم من صغارهم» فالصغار لا يجيدون كتمان السرّ وفسحتهم المحببة هي جدران الغرف، يخططونها بعبثية وحبور هاربين من غضب سلطة أمهاتهم. كذلك رسام الغرافيتي يعرّي بلاده وينشر غسيلها على جدرانها، بعبثية تجعل أذيالها تقطر في الغالب بؤساً ووجعاً مستلذاً بهربه من السلطات. فن الغرافيتي هو الطفولة المتمردة داخلنا، هو الهروب من القانون لنمنح المدن هويتها الحقيقية، بتعبيرات أو فوضى فنية تتحدى السلطات، فتصبح لهذه الجدران دلالات ومفاصل تاريخية تجتاز حدود المدينة إلى العالم. في ظل محدودية الحراك الشعبي التقليدي، وضعف تأثيره في عصر وسائل التواصل الاجتماعي والتعبير من خلالها، نؤكد أهمية استحضار الفن بقوالبه المتعددة ومجالاته المختلفة، وأبرزها فن الغرافيتي أو فن الشارع كجزء من النضال السياسي لمقاومة كل مظاهر التهميش واللامساواة وغياب العدالة وغيرها من بدائع رموز الاستبداد. الفن الغرافيتي هو الفن المقاوم الذي ينبعث من حنايا المظلومين والمحرومين والمضطهدين، هو فن الشارع الذي انتشر من نظام مترو أنفاق مدينة نيويورك وفيلادلفيا في أوائل السبعينيات، إلى بقية الولايات المتحدة وأوروبا ومناطق العالم الأخرى، ليكون رسالة فكرية تعادل عند الحكومات الصواريخ المدمرة، بما يمثل من تمرد الشعوب، والتعبير عن رفضها للقمع. باسكيا يشبه هؤلاء الأطفال ببقائه طفلاً في مشاغباته، ورغم حياته الوجيزة المنتهية بشكل مأساوي كان طلائعيا تربّع على عرش الشهرة في غضون ثماني سنوات فقط، فلمع اسمه كعلم من أعلام الفن المعاصر، فأعماله ما زالت عالقة في الاذهان تجذب الجمهور، رغم مرور زمن على وفاته، وما فعله هو استنكار حقائق تلك الفترة من غياب الصورة السوداء في عالم الفن، إذ كان يريد تجسيد الثقافات والانتفاضات الافريقية الأمريكية في أعماله وجعلها طفولية، وهكذا استطاع التأثير في الجمهور. جسّد جان ميشال باسكيا ثورة الشباب في نيويورك في الثمانينيات، ندّد في تلك الفترة بالعنف وبوضعية السود في عالم يغلب عليه الفن الأبيض. ساعد عمله في لفت الانتباه إلى نقص التنوع في عالم الفن، فكان يأمل عن طريق أعماله منح مساحة للسود في عالم الفن، وكان ذلك بمثابة إعلان رسمي لفرض تلك الفئة ثقافيا. رسام حتى النخاع ظهرت هذه الطريقة التعبيرية أولاً في الولايات المتحدة الأمريكية، وتحديداً في نهاية الستينيات؛ حين اضطرّت مجموعات موسيقية في «الهيب هوب» إلى تفجير صرخات يشاهدها العالم بأسره على جدران المباني والجسور، وعلى عربات القطارات لغايات احتجاجية. فكان الهيب هوب هو المفتاح أيضا لباسكيا، حيث تزامن ظهوره مع صعوده فنياً، فقدّم فنه نظيرا بصريا نابضا بالحياة. كان لعمله صدى لدى الكثيرين في عالم الفن، الذين كانوا حريصين على التخلص من الاتجاه البسيط الذي سيطر على الفن أواخر الستينيات والسبعينيات، بحيث وجدوا بطلاً جديدا. وقد وصف الناقد الأمريكي بيتر شجيلدال أعمال باسكيا في عام 1982 «لا يمكنك تعلم القيام بهذه الأشياء. يتعلق الأمر بالموهبة، التي تخدمها الرغبة والتركيز المتناسبان والفرح». فكان باسكيا «رساما حتى النخاع» على حد تعبير بيتر. لطالما كان باسكيا يوقر فنان البوب الأسطوري آندي وارهول. التقيا في مطعم سوهو، وأظهر له باسكيا نسخة من إحدى صوره الملصقة. أعجب وارهول بالفنان الشاب، وسرعان ما بدأ الاثنان في العمل معا، وأصبحا صديقين مقربين. يقول روني كوترون أحد مساعدي وارهول »كانت العلاقة تكافلية، اعتقد جان ميشال أنه بحاجة إلى شهرة آندي، واعتقد أندي أنه بحاجة إلى دماء جان ميشال الجديدة. أعطى جان ميشال صورة متمردة لآندي مرة أخرى». فقال عنه «باسكيا كان مرآة تعكس ما كان، وما يكون، وما يحلم أن يكون». أسلوبه وهوسه بالوجوه البشرية عُرف باسكيا بأسلوبه الإيمائي الخام في الرسم، فاستلهم وجوه لوحاته مما رآه في الشارع من مظاهر فقر، وأظهر هوساً بموت الإنسان، فرسم على الجدار أو القماشة أطيافا أشبه بالهياكل العظمية، ووجوها شبيهة بالأقنعة. تكررت الوجوه البشرية التي تشبه الجمجمة ذات العيون المنتفخة والأنوف الطينية والأسنان المرئية بشكل بارز في عمله مع نص مكتوب، وفي الغالب مشطوب وصور تشبه الكتابة على الجدران لمزيد من التشويق إذ يقول: «أشطب الكلمات حتى تراها أكثر: أنا على يقين حين تكون الأشياء في حالة إخفاء تجعلك ترغب بتتعبها وقراءتها». ووفقا للباحث ريتشارد مارشال، فإن باسكيا «اختار باستمرار في أعماله كلمات تحمل إشارات ومعاني مشحونة، لاسيما مخاوفه العميقة الجذور بشأن العرق وحقوق الإنسان وخلق السلطة والثروة». فالجدران والأرصفة تنطق بما لا تستطيع ان تنطق به الألسن بخربشات تحيل إلى التمرد بكل أشكاله. عندما طُلب منه وصف فنه، رد جان ميشال باسكيا بثقة معتادة: «الملوك، البطولة، والشوارع». بعد أن ترك المدرسة الثانوية، وجد باسكيا دعوته الحقيقية معلقة في الشوارع فانخرط في البيئة الصاخبة، منتجاً العديد من الروائع التي جذبت انتباه عالم الفن بأسره، ليصبح في النهاية شخصية مؤثرة في وسط مدينة نيويورك. ونظرا لعدم وجود أي تدريب رسمي أو أكاديمي، ابتكر باسكيا أعمالاً تعبيرية مزج من خلالها بين الكتابة على الجدران والإشارات مع النهج الإيمائي والبديهي للرسم التعبيري التجريدي، على الرغم من أن الكثير من أعماله تناولت قلقه الشخصي من خلال صور شخصية منمقة للغاية، إلا أنه ألمح أيضا إلى الشخصيات التاريخية الأمريكية الافريقية، بمن في ذلك موسيقيو الجاز والشخصيات الرياضية والكتاب. قام بتخصيص ومزج الزخارف بحرية من الثقافات الافريقية والكاريبية والأزتيك والإسبانية ومزج إشارات «الفن الرفيع» مع صور من الثقافة الشعبية، خاصة الرسوم المتحركة. الكلمات كانت مهمة لباسكيا استخدمها بعدة طرق، ظهرت على الجدران في جميع أعماله كدعوات أو ملاحظات موسيقية لا يمكن فهمها مثل «القديم نفسه أو القرف القديم نفسه» في سطر واحد مناسب. بدأ فن الغرافيتي كجريمة في بعض الدول، وفي الوقت الذي ينظر إليه البعض «تدنيسا» للملكية العامة، ينظر إليه آخرون كتعبير فني قوي عن الحياة والثقافة والعواطف الإنسانية، ليتحول حراكاً اجتماعيا، بل رهاناً استراتيجيا ضروريا لإدراك موقع الفن في منظومة الالتزام بقضايا الشعوب ومصائرها. هو الجدار المشرّع على أفق الحرية والمقاومة السياسية الجميلة، منخرطاً بمنظومة ثقافية تضفي عليه قيمة اجتماعية وتقوي من مشروعيته في يمّ المناكفة الاجتماعية، إضافة إلى فعاليته النضالية في تعبئة الجماهير وشحذ هممها النضالية. يمتلك الفنان الغرافيتي الحس النقدي مقترناً بحاسة فنية وجمالية يسعى إلى ترجمتها في أسلوب فني لإيصال رسالته بطريقة أكثر جاذبية مقترنة بالدهشة، فهو يساهم في توضيح الرسائل السياسية للجمهور المتلقي ممن لا ينخرطون في تعقيدات السياسة ومداراتها المتشعبة، فيشكل الفن دورا محوريا في التعريف بالقضايا التي يناضل من أجلها المحتجون. تأثر بباسكيا في ما بعد العديد من الفنانين، لكن لم يضاهيه أحد بأسلوبه لأن هذا النوع من الإبداع النابع من قوة الإدراك والوعي العميق والحزين بقبح الإنسان والعالم لا يمكن أن يعاد إنتاجه، أو ترجمته هو فقط يصفع وجه الحياة لإيقاظها ويمضي. تشكيلية وكاتبة لبنانية المزيد عن : التشكيل العالميالفن الغرافيتيباسكياهناء عبد الخالق 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post جهاد الزين يكتب من بيروت عن : “المجتمع المضاد” للدولة: لبننة المفهوم next post Halifax Water says flooded pumping station no longer flowing into Sandy Lake You may also like الميليشيات العراقية تكشف عن حاملة طائرات “سرايا أولياء... 30 نوفمبر، 2024 يوسف عزيزي يكتب عن: لغز الفرس في إيران 29 نوفمبر، 2024 علي شرف الدين يكتب عن: ماذا يحمي لبنان... 29 نوفمبر، 2024 داريوش معمار يكتب عن: “آلية الزناد” سلاح الغرب... 29 نوفمبر، 2024 شيرين عبادي تكتب عن: السعودية وإيران من وجهة... 26 نوفمبر، 2024 غسان شربل يكتب عن: لبنان… و«اليوم التالي» 26 نوفمبر، 2024 ساطع نورالدين يكتب عن: “العدو” الذي خرق حاجز... 24 نوفمبر، 2024 عبد الرحمن الراشد يكتب عن: شالوم ظريف والمصالحة 24 نوفمبر، 2024 حازم صاغية يكتب عن: لبنان وسؤال الاستقلال المُرّ 24 نوفمبر، 2024 مها يحيى تكتب عن: غداة الحرب على لبنان 24 نوفمبر، 2024