ثقافة و فنونعربي نوري الجراح يعصرن الشعر الملحمي في “الأفعوان الحجري” by admin 22 فبراير، 2023 written by admin 22 فبراير، 2023 26 رحلة الشاعر من الشرق إلى الغرب بما تحمل من مغامرات ومعارف ونزوعات روحية اندبندنت عربية \ محمد السيد إسماعيل يؤكد ديوان “الأفعوان الحجري” (دار المتوسط) للشاعر نوري الجراح، فرادة صاحبه، في أداءاته ورؤيته، الذي يمكننا وصفه (كما وصف الفرزدق قديماً) بأنه ينحت من صخر، فهو يعالج لغته طويلاً ويسهر على مطاردتها، لكنها (عندما تأتيه) تبدو كما لو كانت عفو الخاطر. ولنتأمل هذه السطور التي تجعل “المرأة” غايتها: “لولا أنك هنا / لولا أنني ترجلتُ / عن هذا السور المتلوي كأفعوان حجري / ورددتُ السيف إلى صاحب السيف / هل كان يمكن لي أن أقف في نهار / لينادى علي من أحد / لولا أنك هنا / لولا أن صوتك ردد اسمي / في هذا الصقيع من الأرض”. هكذا يفتتح الديوان عالمه الشعري، ما يدفعنا إلى طرح أسئلتنا المشروعة عن كون هذه “المرأة” وعاشقها الذي لم يتعرف على ذاته واسمه إلا بها، وعن هذا الصقيع البعيد الذي وجد العاشق نفسه فيه. ومن خلال هذه الأسئلة ننفتح على أسطورة هذه القصيدة الملحمية، فنعرف أن العاشق هو “برعتا” السوري التدمري المشتق اسمه من اسم الربَّة “أترعتا”، ربة العدالة والحب السورية ونظيرة أفروديت في الحضارة الإغريقية. وأن هذه “المعشوقة” التي يسعى الشاعر لأسطرتها هي “ريجينا” السلتية، وتعني الملكة في اللغة اللاتينية. لكن ما الذي جمع بين هذا العاشق السوري وتلك السلتية؟ إنه الحب والمغامرة التي تدفعه إلى تحرير هذه المعشوقة الغربية متحدياً النظام العبودي في الإمبراطورية الرومانية التي كان السوريون فيها فاعلين ومنفعلين، قتلة وضحايا، حكاماً ومحكومين. قصيدة ملحمية القصيدة الملحمية في “الأفعوان الحجري” (دار المتوسط) ويبدو الديوان قصيدة ملحمية واحدة على رغم المقطعات والعناوين الداخلية، لهذا يقسمه الشاعر إلى التالي: “ما قبل القصيدة”، “إشارات تتعلق بالاسم”، “ما بعد القصيدة” والأخير ينقسم إلى ثماني مقطعات بعناوين مختلفة – إشارات عامة. وهذا تخطيط محكم لا يخضع لقانون التداعي أو البوح الذاتي. ويمكن ملاحظة أن الثنائية الكبيرة التي تحكم الصراع داخل هذا النص الشعري هى ثنائية الحرب والحب، على نحو ما يبدو في قوله: “عندما كانوا يقبلون بصدور مفعمة بالصرخات / ويتساقطون تحت السهام على أجناب وركب وجباه / هل كانوا يدفعون ثمن الحب؟”. ومن الواضح أن الحرب هي التي تهيمن على هذه السطور، ربما لأننا في حاجة إلى وصف بشاعتها وعنفها وضراوتها. في حين لا يحتاج الحب للوصف، لأنه قيمة مطلقة يستشعرها العاشق ويتحرك دائماً بدافع منها. على أن هذا العاشق السوري المغامر لا يستشعر نفسه بطلاُ أسطورياً، بل يبدو كارهاً للحرب التي فرضها الحب عليه حين يقول: “لست حامل بيادق / ولكنني تاجر أقمشة من الشرق / ولئن تركت سيفي عند النهر / فليبارك البعل خطوتي إلى البيت / وليصفح عن إثم يدي”. إن حمل البيارق لا يغريه ولا يجد فيه فخراً ويرى حمله للسيف إثماً يرغب في العفو عنه. إن فخره الوحيد يتمثل في كونه تاجر أقمشة من الشرق، المعروف تاريخياً (كما تذكر هوامش الديوان) أن والد “برعتا” كان تاجر أقمشة. من الشرق إلى الغرب الشاعر في المتحف البريطاني (صفحة فيسبوك) إن الديوان تمثيل شعري لرحلة مكانية من الشرق إلى الغرب بكل ما تحمله من مغامرات ومخاطر ونزوعات روحية، يقول الجراح واصفاً كل ذلك: “في العاصفة / وقد جزنا بحر الروم / صليت لك ياعشيرة / وأنت ربة هذه الأمواج / لك صليت / وللبعل أعطيت أمنيتي”. ولأن العاشق الدمشقي ليس بطلاً أسطورياً ولا يحب أن يكونه، فقد كان راغباً فحسب في حياة بسيطة على نحو يذكرنا بالفتاة البدوية التي سكنت القصور بينما ظلت روحها متعلقة بخيمتها التي تربت فيها. إنها الحياة البسيطة المتخففة من وطأة الأشياء. يقول الشاعر: “كان يمكن أن تكون لي / بالمغزل والصوف / ويكون لي فراش في حجرة / وحطب في جوار موقد”. وهي حياة تتناقض مع ما تخلفه الحرب من ويلات ومآس وتوحش وضحايا حيث “الديدان وحدها ظلت منتعشة / بينما الأجساد تنشطر الآن في بيسان / العشب يتطاول ويتلوى ويتوحش في الفراغات / هواء يهب من الشمال / على جماجم فلقتها الفؤوس”. وبتأمل هذه السطور نجد أن المفارقة تلعب الدور الأكبر في بنائها. إننا أمام رؤية مأسوية للوجود تتوازى مع الخيال الأسطوري حين يقول الشاعر (مثلاً) إن خمسين ألفاً “من شبان الولايات البعيدة / ابتلعهم التنين برؤوسه السبعة / المطلقة على الجهات”. ويمكن تفسير هذه الصورة استعارياً حين نجعل من التنين رمزاً للحرب المطلقة على الجهات، تماماً كما يمكن تفسير آلية “المسخ” التي نراها في أكثر من موقع في الديوان على نحو ما يبدو في قوله: “أي خيال جامح / يمكن أن يجعل رجل إيسوس / القتيل بسهم ملأ صدره الخافق / بدمه الخافق / يؤدي وظيفة خنفسة في قبو روماني؟”. موسيقى احتفالية كما تبدو المفارقة واضحة في تصور الطبيعة التي تظهر مرة متجاوبة مع رغبات الإنسان حين نقرأ: “أشكر سائق الغمام / لأنه سكب في التراب قطرة المطر/ وقطر العسل في كبد الحقول”. بينما تبدو في صورة أخرى مغايرة تقترب من الوحشية في قول الشاعر: “الضباب يفترس الأقواس والرماة / الضباب يلتهم الحجارة والسور / ويهيم على النهر”. وإضافة إلى هذه الاستعارات بدلالاتها المتضادة، نجد ما يسمى بطرافة التشبيه ما يجعل “الخيال” أهم سمات هذا الديوان. ولنتأمل قوله: “دمي قشعريرة ذئب جريح / وصوتي عواء غابة تحترق”. وعلى رغم انتماء الديوان لقصيدة النثر فإن الإيقاع حاضر بأكثر من مظهر، منها (مثلاً) التراوح بين الأسلوبين الخبري والإنشائي. ومن ذلك قوله متسائلاً: “كيف كنت / كيف كان شكل العالم/ قبل أن تطأ قدمك الأرض/ وتراك عيني/ قبل أن تأسرني تلك القدم الأسيرة”. إنها أنشودة “برعتا” العاشق لـ”ريجينا”، الأسيرة، قبل تحريرها وتتويجها ملكة. الأمر الذي يجعل الديوان كله عبارة عن “سيرنادا ” شرقية، أي موسيقى احتفالية على شرف تلك الملكة. كما يظهر الإيقاع في تكرار بعض العبارات بصورة لافتة، ومن ذلك عبارة “لولا أنك هنا”، التي تتكرر في مواقع مختلفة من الديوان. ويتوازى تجاوب صوتي العاشقين مع حس المفارقة المسيطر على الديوان. تقول “ريجينا”: “صوتك الذي أقلق نوم الآلهة / أنهضني من رقدتي / صوتك يكسر العتمة وينزل / ليطلب يدي من رخام الموت / أسمعتني صوتك لأسمع / وأعطيتني يدك لأنهض”. فالنهوض من الرقدة وكسر العتمة وتخليص اليد من الموت كلها كنايات عن التحرر من الأسر الذي حظيت به “ريجينا” على يد “برعتا”. توظيف الدلالات وإذا كانت “ريجينا” مدينة لـ “برعتا” بهذا التحرر، فإنه مدين لها بالوجود كله: “هل كان يمكن أن أكون / لولا أنك هنا ياريجينا؟”. و”ريجينا” هي شقيقة الروح والحالمة بالحياة البكر الفطرية المتوحدة مع الطبيعة. لهذا تحلم بأن تكون لها أخت تمشط شعرها وفي جوارهما يمر الماء. وفي هذه الحالة لن تكون في حاجة إلى المراكب ولا إلى الفينيقي وصندوقه المليء بالمرايا. ويستفيد نوري الجراح من الفن التشكيلي وتوظيف الدلالات المستوحاة من توزيع الكلمات على فضاء الصفحة، فعندما يحاول الإيحاء بفعل السقوط يوزع حروف الفعل “يتساقط” بشكل رأسي بحيث يكون كل حرف داخل سطر. وهناك ما يمكن أن نسميه العبارات الإحالية، أي التي تستدعي بعض معارفنا فعندما نقول: “غيابة الجُب”، نتذكر تلقائياً قصة يوسف عليه السلام حتى وإن كان في سياق مغاير على نحو ما يبدو في “لو كنت هرقل / وكنت في معترك على عربة تضطرب / وقوس قزح يؤرجح الضوء / هل كنت سأتجرأ / على حارس المياه / أم كنت سأغض الطرف عنه / وأتركه يتوارى في غيابة الجب”. وأخيراً، من المهم أن نتذكر أن هناك ثلاثاً وستين إشارة ثقافية توضيحية ملحقة بالديوان، ما يدل على أننا أمام قصيدة تحتفي بالمعرفي بقدر احتفائها بالشعري في سبيكة فنية على درجة عالية من الفرادة والتميز. المزيد عن: شاعر سوري\قصيدة ملحمية\الشرق\الغرب\الأسطورة\اللغة\الغنائية\النشيد 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post سارتر يكشف عن دافعه إلى كتابة “سيناريو فرويد” لجون هستون next post فيلم اسرائيلي يكشف في مهرجان برلين اضطرابات غولدا مائير You may also like نظرية فوكوياما عن “نهاية التاريخ” تسقط في غزة 29 نوفمبر، 2024 لماذا لا يعرف محبو فان غوخ سوى القليل... 29 نوفمبر، 2024 جائزة الكتاب النمساوي لرواية جريمة وديوان شعر ذاتي 29 نوفمبر، 2024 طفولة وبساطة مدهشة في لوحات العراقي وضاح مهدي 29 نوفمبر، 2024 استعادة كتاب “أطياف ماركس” بعد 20 عاما على... 28 نوفمبر، 2024 تحديات المخرج فرنسوا تروفو بعد 40 عاما على... 28 نوفمبر، 2024 21 قصيدة تعمد نيرودا نسيانها فشغلت الناس بعد... 28 نوفمبر، 2024 الرواية التاريخية النسوية كما تمثلت لدى ثلاث كاتبات... 28 نوفمبر، 2024 بودلير وهيغو… لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم... 27 نوفمبر، 2024 شوقي بزيع يكتب عن: شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد... 27 نوفمبر، 2024