الفنان محمود زيباوي امام احدى وجوهه في معرضه- في موازين الصمت ثقافة و فنون مهى سلطان تكتب عن : الإنسان وجه سماوي بحلّة ترابية… في معرض محمود زيباوي by admin 20 أبريل، 2024 written by admin 20 أبريل، 2024 111 يقترب عالم محمود زيباوي من دنياه ببساطة وتقشف ظاهرين، وكأنّه يقبض على الحقائق المرئية للأشياء اليومية البسيطة، حيث يتوافق الخط وطبقات اللون في نقل المشاعر والإحساس والعاطفة، كي ينبثق الوميض الداخلي لعالم ما فوق المنطق والحلم، بيروت- النهار العربي – مهى سلطان الصمت هو لغة حضور في فن محمود زيباوي، لطالما كان كذلك منذ بداية معارضه في أوائل ثمانينات القرن العشرين. والصمت الذي يسود عالمه الداخلي المليء بذاكرة الشعر الفرنسي الحديث وصور الأيقونات والمعالم الأثرية العائدة إلى الحضارات الشرقية، كان وما زال حاضراً في الوجوه التي يرسمها زيباوي حالياً ليطل بها علينا في معرضه الذي يقيمه في غاليري شريف تابت (الأشرفية- حتى 4 أيار/ مايو)، بعد غياب قسري عن العرض امتد لتسع سنوات خلت. ما برح الحاضر يذكّر بالأمس، فالواقع موجود ولكنه ملغّز وعميق وروحيّ، لكأنّه يحضر من الغياب، من غلالات الألوان وسحابات الظلال، من النور من أزرق حبور النهار وحرارة اللحم وصفاء المُقلتين الناظرتين اليك من بعيدها تناديك من دون ان تعرفك، ولكنك تعرفها من صمتها، الذي يبوح بجمالها القديم جمالها الغريب، البشريّ والملائكيّ في آن، المقدس والدنيوي، الطينيّ والأثيريّ. وجودٌ متناقض ونمطيّ وغير مُصمَت، وغامض ومتعدد. إنّه كغابة تمشي فيها كما لو أنك في منامك، ويمكنك أن تفهمها كمشهد طبيعي، كحديقة ربيعها وجوه، أعمارها مثل أزهار في أوانٍ من فخار، أو يمكنك أن تراها كصور داكنة للذكريات، أو وجه تعبيريّ أو موقع الملذات والآلام الحسية. لكنها وجوه متشابهة في حالها بلا هوية محددة (على تماهي يعيدنا الى اللبس في دخان وجوه دافنشي)، بل بملامح ومقاييس وسمات واحدة (سواء كان ذكراً أم أنثى) هي ملامح من نسج الخيال بل، من المثال الذي ينأى عن الواقع الى نوع من النبل والسمو. وهما صفتان لصيقتان بالمفهوم اللاهوتي للشخصيات المقدّسة في الأيقونات البيزنطية. امرأة من ضباب مرآة الداخل “هذه هي الوجوه لرجل أو امرأة أو ملاك يشبه كل منهم الآخر، يتردّد الوجه نفسه. وجه في موازين الصمت – وجه يشبه كل الوجوه المنسية” على حد تعبير بول ايلوار. مقتطف من المقدمة التي كتبها زيباوي، وهو إضافة الى كونه فناناً، فإنّه كاتب مكرّس للمعرفة المتجددة للصور المقدّسة، ومؤلف ثمانية بحوث مخصصة لفنون الشرق المسيحي. من هذا النبع ومن تلك الثقافة خرجت إلى الحياة المجموعة الجديدة لأعمال زيباوي (معظمها موقّع العام 2019)، وهي عبارة عن أعمال ورقية، قسم منها منفّذ على ورق البردي ذي الخصائص المعروفة بطبيعة أليافه المأخوذة من سيقان النبات الذي ينبت على ضفاف النيل منذ القدم، غير أنّ تلك الخصائص التي يتميز بها البردي كحامل لا تلبث أن تتوارى خلف اسلوب الفنان الذي يعمد إلى انواع من العجائن المخضّبة مع ألوان الأكريليك للحصول على قماشة موادية مثل نسيج بملمس ناشف وناتئ وشفاف في آن، يُضفي على معالم اللوحة شيئاً من الزيغ لكنه يقربّها من الواقع الماديّ المحسوس والملموس “في موازين الصمت” دأب محمود زيباوي على رسم التعبير والإيماءات التي تكشف الصفات الداخلية للإنسان والكائنات وليس الصفات الخارجية، ما يجعل الصمت حالة من حالات التأمل الباطني، اي النظر الى الداخل في البحث عن الذات، على مسافة بين الوجه والقناع في قلب الألفة الغامضة والدعة والسكينة، صورة الوجه في مرآته مع ثبوتها في الفضاء اللوني المحيط بها كالسوار في المعصم في بحث عن الدفء والحب بين تداعيات النور وهوامش الظلال وغنائية الالوان، بحثاً عن الإنساني الذي يحرّر الإنسان من الألم ويدعوه كي يعيش. “الوجوه والنباتات والأشياء تشترك في نفس الروح، ما يمنحها نفس الكائن. يحتل الوجه المساحة ويتحول إلى حقل تصويري. تملأ المزهريات والأواني التكوين بأكمله، عند رؤيتها عن قرب، ومكبّرة وضخمة، حتى أنّ السيقان المزهرة تفيض تقريباً، والأشكال والألوان تتلاشى”. هكذا يتحدث الفنان عن تيماته الموصوفة بالتناغمية اللونية المتأتية من الطلاء الزجاجي les Glacis (وضع طبقة لون شفافة ناعمة على طبقة ناشفة) تتيح هذه التقنية زيادة العمق اللوني أو تغيير اللون، وتقنية المسح les frottis تتضمن فرك القماش او الورق، لاستخدام مادة الخلفية والكشف عنها وجعلها تشارك في المادة التصويرية، وتقوم على تطبيق الألوان الداكنة، ثم الألوان الفاتحة لتنتهي بالإبرازات والظلال. وهما تقنيتان كانتا تُستخدمان منذ عصر النهضة، فضلاً عن التعجين اللوني الكثيف. “وتكشف الألوان النصفية Demi- teintes المتراكبة عن الظلال والأضواء، بحثاً ليس عن اللون، بل فروقاته الدقيقة. زيباوي- عيون خصبة- اكريليك على ورق- 2019 من ألوان الأرض في هذا السياق، من تقصيات عالم الألوان، يضيء الفنان على الأسباب الخفية “الاستطيقية” التي تمنح بساطة المحتوى الصُوَري والتشبيهيّ، أسراره وغموضه. لعلّ هذا الغموض كامن في تلك الضبابية الآسرة والقائمة على ألوان محدودة لا تتوسع بغير دواع، ولكنها تبدو مغموسة بألوان قوس قزح الربيعية الفَرِحة (الأرجواني والأخضر والأصفر والأزرق والأحمر والترابي)، وهي في موازين دقيقة بين الحرارة والبرودة والانسجام والتناقض والجلاء والخفوت. لكأنّ ثمة هوية يعطيها الفنان لتيماته وأسلوبه التلويني الذي يعكس ذائقته الخاصة، وهو العصاميّ الذي خرج من إسار الأكاديمية الى الشعرية البصرية الكامنة في الفن، وهي جزء من فلسفة الفنان ونظرته الى الإنسان الذي يرسمه كوجه سماوي (سيميائي رموزي) ثم يلقي عليه صفاته الترابية، التي لا تفارقه. يرسمه كوجه حيّ يتنفس ويعيش ويبتسم ويتموضع وينحني ويتألم بصمت. يذكّرنا زيباوي انّ الانسان مخلوق من صلصال وتراب مثل الفخار، ولطالما اعتمد علماء الآثار على الأواني الفخارية في معرفة الحضارات المفقودة من خلال قراءتهم للزمن المرتسم على سطوحها. إذ في اعطافها وبين كسورها وشقوقها أعمار البشر وتجاعيد وجوههم وتقلبات اناملهم من آلاف السنين. ولعلّه في تلك الأواني الفخارية يذكّرنا ايضاً بالتواضع الرسولي ذي القداسة بعيداً من كؤوس موائد الملوك. في ما مضى من التجارب كانت شخوص محمود زيباوي بحلتّها التجريدية ومقترباتها الشعرية الحالمة والحزينة والمتوحدة، تعبّر عن حيرة الكائن البشري ذي القوام الكهفي والشبحي، وهي التي ساهمت في شهرته وانتشاره كونها أقرب الى قصائد الشعراء منها الى الفن نفسه، في حين انّ الوجوه التي تحضر في جديده رغم تشابهها وتكرار ملامحها وتموضعاتها تتراءى نابضة بالحيوية الدنيوية بعيداً من المأتمية أو الايقونوغرافية الدينية أو الخيالية الشعرية واستعاراتها، رغم انّها تضج بها ولكن على غير درب، ومن غير مقترب لتعكس في آن واحد الوشائج السرية بين الإنسان والنبات وألوان الأرض والتراب، إن لم نقل انّها الطبيعة الترابية للإنسان في صمته البليغ. يقترب عالم محمود زيباوي من دنياه ببساطة وتقشف ظاهرين، وكأنّه يقبض على الحقائق المرئية للأشياء اليومية البسيطة، حيث يتوافق الخط وطبقات اللون في نقل المشاعر والإحساس والعاطفة، كي ينبثق الوميض الداخلي لعالم ما فوق المنطق والحلم، عالم فيه من الصمت والسكون بمقدار ما فيه من الحركة والحياة وإيحاءات الطبيعة، فيه أزرق الأواني اللاذع جماله مع الأخضر كأنّه من وراء الحلم، وعرائس المروج، وفيه وجوه طفولية كالملائكة غير المجنحة. انّه عالم معطى بحب، وهو شائك لأنّه بين الجسد والروح، والواقع والوهم، بلا غواية أقرب ان يكون تذكاريّاً مقاوماً للزمن ومتمرّداً على الآني العابر. 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post Wrongfully convicted New Brunswick man dies months after exoneration next post معرض الكتاب بالرباط يعلن برنامج دورته الـ29 You may also like فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم... 24 نوفمبر، 2024 قصة الباحثين عن الحرية على طريق جون ميلتون 24 نوفمبر، 2024 عندما يصبح دونالد ترمب عنوانا لعملية تجسس 24 نوفمبر، 2024 الجزائري بوعلام صنصال يقبع في السجن وكتاب جديد... 24 نوفمبر، 2024 متى تترجل الفلسفة من برجها العاجي؟ 24 نوفمبر، 2024 أليخاندرا بيثارنيك… محو الحدود بين الحياة والقصيدة 24 نوفمبر، 2024 مهى سلطان تكتب عن: الرسام اللبناني رضوان الشهال... 24 نوفمبر، 2024 فيلمان فرنسيان يخوضان الحياة الفتية بين الضاحية والريف 24 نوفمبر، 2024 مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024