إدغار آلن بو (1809 – 1849) وشارل بودلير (1821 – 1867): صداقة أدبية (اندبندنت عربية) ثقافة و فنون من أين جاء الأميركي إدغار آلن بو بالهوى الفرنسي الملهم؟ by admin 6 أكتوبر، 2024 written by admin 6 أكتوبر، 2024 25 “سر ماري روجيت” جريمة باريسية مستعارة من حادثة نيويوركية حقيقية اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب في نهاية الأمر لم يكن الكاتب والشاعر الفرنسي شارل بودلير بعيداً من المنطق حين جعل من نفسه أول من يترجم قصصاً ونصوصاً لزميله الأميركي إدغار آلن بو إلى الفرنسية التي كانت بفضل مساعيه أول لغة أجنبية عرفت بشعر وقصص بو في العالم، إذ يقال دائماً أن قراء لغة موليير عرفوا أدب صاحب “جريمة مزدوجة في شارع مورغ” حتى من قبل أن تنتشر حقاً بين الأميركيين أنفسهم. فالحقيقة أن بودلير إنما كان يرد “تحية” زميله الأميركي تحيتين وأكثر. وهذا ناهيك بأن إقدامه على رد التحية من طريق ترجمة بعض نصوص آلن بو إنما كان نوعاً من “استعادة بعض ما أُخذ منا” أي ما أخذه من فرنسا ذلك الكاتب الأميركي الذي نعرف جميعاً أنه كان وعلى أية حال، واحداً من أول الكتاب والشعراء الأميركيين الذين انفتحوا على العالم خارج نطاق الفضاء الإنجليزي اللغة والهوى. لا سيما من خلال روايته التي ذكرناها أعلاه والتي تدور أحداثها في باريس وشخصياتها الرئيسة فرنسية كما أن المحقق البوليسي الذي يقوم فيها بالتحقيق حول جريمة مزدوجة اقترفت في “شارع مورغ” (أي شارع المشرحة) هو محقق فرنسي. مفتتح الرواية البوليسية ولئن كان قراء الأدب البوليسي يعرفون أن تلك الرواية “الفرنسية” كانت واحدة من أولى روايات هذا الصنف الأدبي، فإن ما لا يعرفه كثر هو أن آلن بو لم يكن قد تعرف على باريس – مكان أحداث روايته – قبلها، ولا أن للكاتب نفسه رواية ثانية في ذلك المجال، أقل شهرة بكثير من تلك الأولى وتكاد تكون “ملحقاً” لها، وكذلك كتبها المؤلف قبل أن يتعرف على باريس حقاً وهي تعتبر رواية متوسطة حتى وإن كانت تنشر عادة ضمن مجموعته “حكايات استثنائية” التي ترجمها بودلير كذلك باكراً إلى لغته. ونتحدث هنا عن القصة المعنونة “سر ماري روجيت”. ولعل أول ما يمكن قوله حول هذه القصة إن بطلها الأساس هو ذلك المحقق نفسه الذي كان القراء قد تعرفوا عليه في “جريمة مزدوجة في شارع مورغ” أي الفارس أوغست دوبين الذي نعرف أن من اختصاصه حل غوامض الجرائم البوليسية من طريق التأمل الاستنباطي وحده. ولئن كان المؤلف قد جعل من باريس مرة أخرى ميدان عمل دوبين ومكان حدوث الجريمة الجديدة التي يحقق فيها الآن بعدما صار معروفاً في أوساط الشرطة بقدر ما هو معروف في الأوساط الأدبية بفضل حله “الجريمة المزدوجة”، فإنها تبدو من جديد باريس غريبة عن باريس الحقيقية وبخاصة أن الكاتب قد أخرج الأحداث هذه المرة من الشقة المغلقة التي اقترفت فيها الجريمة المزدوجة. إحدى طبعات الرواية (أمازون) مخيلة على اتساع مدينة والحقيقة أن هذه الـ”باريس” التي يأخذ آلن بو قراءه إليها من جديد تنم عن أنه لم يكن يعرف باريس الحقيقية إطلاقاً. لكنها تنم في الوقت نفسه عن سعة مخيلته وتمسكه بعاصمة النور وتمكنه من إعادة اختراعها وتحديداً في نص وصفه كثر بكونه من النوع البوليسي الصرف. فلا الزمن محدد ولا الأماكن صحيحة وما من أحداث أو علاقات اجتماعية أو سياسية في مدينة كانت تضج بالأحداث في زمن الأحداث الروائية المفترض عند أواسط النصف الأول من القرن الـ19. كل ما يحدث هو “الجريمة” التي ينصرف دوبين إلى التحقيق فيها بأسلوبه المعروف نفسه وصولاً إلى ذلك الاستنباط الذي يكشف عن سر ما حدث لماري روجيت. وماري روجيت كما يقدمها لنا آلن بو تتعرض لعملية خطف يخبرنا بودلير بأنها تتطابق مع ما حدث بالفعل لصبية نيويوركية حقيقية في تلك الحقبة بالذات تدعى ماري سيسيليا رودجرز، في تحريف بسيط للاسم الحقيقي كي يصبح اسماً فرنسياً بالتوازي مع نقل الأحداث من بعض ضواحي نيويورك إلى باريس وبعض المناطق المجاورة لها. ويمكننا أن نؤكد هنا أن ثمة “سراً” يسبق سر خطف ماري وقتلها في القصة يتعلق تحديداً بسبب تلك الفرنسة وذلك الانتقال الذي لن نفهمه أبداً كما لم يفهمه بودلير وإن كان قد أطربه. ما حدث للصبية الفرنسية والآن نتوقف عند ما يحدث تحت قلم آلن بو وقد وضعنا المصدر الواقعي للأحداث جانباً بعدما بات غير مهم في سياق حكايتنا هنا. وما يحدث يبدأ من استدعاء دوبين كالعادة في القصص البوليسية، بعد ذلك للتحقيق في اختفاء الصبية التي بالكاد تخرج الآن من سن المراهقة، ما يحيلنا إلى خلفيات حياتها هي التي تعيش في بيت والدتها الأرملة التي تملك وتدير نزلاً فاخراً في شارع “بافي سانت أندريه” الباريسي. الذي يحدث ذات يوم أحد هو أن ماري تخرج من النزل بعد أن تخبر صديقها جاك أنها ستغيب بعض الوقت في زيارة لخالة لها. وإذ تمطر السماء مطراً عاصفاً بعد الظهر يرى جاك أنه من المستحيل لماري أن تتمكن من العودة إلى حيث تعيش لذا من المؤكد أنها ستبقى الليلة عند خالتها ومن غير المجدي سؤالها عما إذا كانت تريده أن يصحبها في طريق العودة كما كان متفقاً عليه. ولكن في صباح اليوم التالي يتبين لجاك أن ماري لم تعد إلى النزل وأنها أصلاً لم تقصد أمس دار خالتها! وبعد أربعة أيام على اختفاء الصبية يتدخل سيد يدعى بوفيه مع صديق له للبحث عن ماري. وبعد بحث عند ضفتي النهر القريب يتبين أن ثمة جثة غارقة يتعرف فيها بوفيه على ماري بالفعل وعلى وجهها وبعض أنحاء جسمها علامات عنف وتعذيب… وهنا إذ يعثر أولاد كانوا يلعبون غير بعيد عن ذلك المكان على بعض ملابس ماري كما على وشاح مطرز عليه اسمها، تتذكر أم أولئك الأولاد أنها بعد ظهر الأحد سمعت صراخ امرأة في المكان يمكن أن يكون صوت ماري التي لا شك أنها قتلت هناك. حين يتدخل العقل وهكذا تتراكم الشهادات والبراهين والمقارنات ليتبين أن ثمة الآن قدراً من المعلومات يمكن للمحقق دوبين أن يشتغل عليها لعله يفك لغز ما حدث وبخاصة أن الصحف المحلية كانت قد أسهبت في نشر اللقاءات والآراء. ولم يعد على دوبين سوى تأمل كل هذه الكتابات والدلائل بنظرة يمكن اعتبارها نظرة نقدية تحليلية تستند إلى تأمل منطقي لا يحتاج من المحقق إلى أكثر من استنباط فكري هو وسيلته “كالعادة الآن” للوصول إلى فك اللغز المحيط باختفاء ماري ومقتلها. وهذا النشاط الفكري الذي يوصل دوبين إلى النتيجة يقول إن من خطف ماري وقتلها لم يكن سوى قبطان مركب يمخر النهر غير بعيد من مكان إقامة ماري والنقطة التي قتلت فيها. ويستنبط دوبين أن ماري كانت على معرفة سابقة بقاتلها الذي كانت قد سبق لها أن هربت معه مرة أولى. وهو هذه المرة كبل يديها إذ نقلها إلى مركبه وسط النهر ليقدم على قتلها محاولاً التخلص من جثتها ولكن دون أن يتنبه وهو في عجلة من أمره إلى ضرورة أن يربط الجثة بحجر ثقيل كي لا تبقى عائمة على سطح النهر فينكشف ما فعله… تشغيل العقل وحده كل هذا لن يعرفه دوبين إلا من طريق التأمل الفكري الذي يكاد يكون هذه المرة أيضاً حسابياً ونتيجة لعملية استنباطية عقلية تثبت جدواها فقط بعد أن يتيقن دوبين من أن أفكاره كانت وحدها التي قادته إلى كل ضروب اليقين حتى من دون أن يبذل أي جهد جسدي أو يتحرك حقاً من مكانه. لعل ما يمكننا أن نختم به كلامنا هنا حول تلك القصة التي تعتبر من أقدم قصص التحقيقات البوليسية الحديثة، هو أن أهميتها ليست في الحدث نفسه وبخاصة أن القارئ لن يعرف شيئاً في النهاية لا عن دوافع القاتل أو حتى عن مصيره فالمهم هنا هو العمل الفكري الذي يكاد يكون حسابياً وقائماً على تراتبية الاحتمالات الذي يعزوه الكاتب لبطله في نوع من الحث على ركوب المنطق بالطريقة التي سوف يشتهر بها بصورة خاصة بطل السير آرثر كونان دويل، شرلوك هولمز في العدد الأكبر من تحقيقاته التي من المؤكد أنها تدين كثيراً لسلفه “الكسول” غوستاف دوبين. المزيد عن: شارل بودليرإدغار آلان بوباريسنيويورك 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post «رسائل وقصائد بين سركون بولص ووديع سعادة» تبصر النور next post Canadian musician Jacob Hoggard found not guilty of sexual assault You may also like براعة باخ في كونشرتوات براندنبورغ وأثرها الدائم 19 نوفمبر، 2024 في روايته الجديدة… أوبير حداد يصوّر الحرب بعيني... 19 نوفمبر، 2024 16 فيلم رعب تسببت بصدمة نفسية لممثليها 19 نوفمبر، 2024 العداوة والعدو كما فهمهما الفلاسفة على مر العصور 19 نوفمبر، 2024 قصة واحدة من أكبر الأكاذيب في تاريخ حكايات... 19 نوفمبر، 2024 أول ترشيحات “القلم الذهبي” تحتفي بالرعب والفانتازيا 17 نوفمبر، 2024 شعراء فلسطينيون في الشتات… تفكيك المنفى والغضب والألم 17 نوفمبر، 2024 “بيدرو بارامو” رواية خوان رولفو السحرية تتجلى سينمائيا 16 نوفمبر، 2024 دانيال كريغ لا يكترث من يخلفه في دور... 16 نوفمبر، 2024 جاكسون بولوك جسد التعبيرية التجريدية قبل أن يطلق... 16 نوفمبر، 2024