الحلم بعولمة مطلقة تزيل الحدود والسدود هو حلم مخملي لكنه غير قابل للتطبيق (غيتي) X FILEعرب وعالم مصير العولمة… الهشاشة قبل الموت by admin 25 أغسطس، 2024 written by admin 25 أغسطس، 2024 112 أصبحت فكرة القرية الكونية التي كانت راسخة وثابتة قبل عقود موضوعا لمساءلات تشكيكية فكرية واستراتيجية واقتصادية اندبندنت عربية على مشارف منتصف العقد الثالث من القرن الـ21، بدا وكأن هناك علامة استفهام مثيرة للجدل، تطرح ذاتها على المسكونة وساكنيها، فهل لا يزال هناك مجال لفكر العولمة الذي نادى به الكثير من المفكرين الثقات والذين بشروا بتحول العالم إلى قرية كونية صغيرة، لا سيما في ظل وسائط التواصل الحديثة التي جعلت الكرة الأرضية على أطراف “فأرة” الكمبيوتر، لتصل أهل الشمال بالجنوب، والشرق والغرب، ضمن مسارات ومدارات فكرية تكاد تبلور أنساقاً بشرية واحدة من غير مغالاة؟ التساؤل المتقدم يقول البعض إن فكرة الحلم بعولمة مطلقة تزيل الحدود والسدود هو حلم مخملي وردي جميل، لكنه غير قابل للتطبيق في واقع الأمر، وهل من دليل على ذلك؟ باختصار غير مخل، ربما يكفي النظر إلى حال الكرة الأرضية في العقود الثلاثة المنصرمة، أي بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، حيث تبخر الحلم بعالم واحد، ولو قبل الجميع على مضض أن تكون القيادة أميركية، أي عولمة أميركية مهيمنة على الجميع. يكفي الناظر أن يمعن النظر في ملامح الحرب الباردة الجديدة التي تلف العالم اليوم، ناهيك عن حروب كبرى كما الحال في أوكرانيا، عطفاً على أزمنة وباء كورونا التي بينت كم هو عالم متشظٍ وممزق، وما من شيء يجمعه، أما عن الأزمات المالية والاقتصادية فحدث ولا حرج، حيث تبدو أزمة الديون العالمية عقبة كؤد في مسيرة تنيمة إنسانية مستدامة شاملة. ربما قربت وسائل السفر من المسافات جغرافياً، لكن المؤكد أن سكان العالم في طريقهم إلى المزيد من التباعد، الإنساني والوجداني والأيديولوجي والدوغمائي، لا سيما بعد أن صحا الكثيرون على فكرة وجود حكام جدد لعالمنا المعاصر، يسعون لجعلها عولمة مهيمن عليها عبر كافة الميكانيزمات المتاحة بشرياً. من أين يمكن للمرء مشاغبة أيقونات العولمة التي كثر الحديث عنها في العقود الأخيرة؟ سكان العالم في طريقهم إلى المزيد من التباعد الإنساني والوجداني والأيديولوجي (دوغ شايكا) في مراجعة فكرة القرية الكونية كان مارشال ماكلوهان أول من تناول فكرة القرية الكونية في مقالته “فهم وسائل الإعلام في القرن الـ21” والتي كتبها عام 1964. ولدت فكرة القرية الكونية في ذهن ماكلوهان بعد ملاحظة كيف تمكنت وسائل الإعلام من التغلب على أي مسافة مادية، وتقريب سكان الأرض وجعلهم قريبين وجيران، وتحويل الأرض إلى قرية كونية عظيمة. في هذه القرية الجديدة، يمكن للقرويين معرفة ما يفعلونه، وكيف يعيشون، وما يقوله القرويون الآخرون، ويمكن لقروي في نيويورك أن يرى ما يفعله قروي في هونغ كونغ، بل حتى مراقبته في الوقت الحالي. من نافلة القول إن لفظة “قروي” هنا لا تعني بحكم الضرورة الفلاح الذي يحرق ويسقي ويزرع الأرض، وإنما ذلك المواطن العالمي في قلب هذه القرية الكونية الصغيرة، أي عالمنا المعاصر. لقد توقع مارشال ماكلوهان العولمة، ليس فقط للأسواق، بل أيضاً للعادات، وأساليب الحياة، والاتصالات، وقد كانت تلك التوقعات سابقة على ظهور الاتصالات الذكية التي من شأنها أن تسمح بالاتصال بالعالم بأسره على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع، وعلى مدى 365 يوماً في السنة. لكن اليوم وبعد خمسة عقود تقريباً من رؤية ماكلوهان، يعن لنا أن نتساءل “هل هذه الرؤية لا تزال قائمة لا سيما في ظل تساؤلات بنيوية جذرية حول الحدود وإشكالياتها، والصراع القائم من حول التطورات البشرية والتكاثر السكاني، ذاك الذي خلف فكرة الهجرة بكثافة من مناطق إلى أخرى. خذ إليك إضافة إلى ذلك الحديث عن التغيرات المناخية حول الكرة الأرضية، وما بدأت تتسبب فيه من تغيرات جوهرية على صعيد البني التكتونية حول العالم، وقد باتت بمثابة حواجز حقيقية في طريق التلاحم الأممي. تبدو التساؤلات المطروحة اليوم على القرويين كما أسماهم ماكلوهان، واسعة وعريضة، بل وأعمق كثيراً مما كان حاضراً في منتصف ستينيات القرن الماضي، فقد طفت على السطح اختلافات جذرية حول قضايا حقوق الإنسان والخير العام وأفكار الكون الكبير والكون الصغير، تلك التي أشار إليها البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته العامة المئوية 1991، وتساؤلات حول أهمية الحفاظ على توازن الأرض والشروط الأخلاقية للبيئة البشرية الأصيلة. هل تجاوزت أوضاع الإنسانية، وربما من جراء التقدم التكنولوجي الواسع فكرة القرية الكونية وفكر الإنسان كقروي ومصيره في القرن الـ21 ما طرحه ماكلوهان؟ قد يكون بالفعل هذا وارد وبقوة، ما بين أحداث جرت بها المقادير في الأعوام الأخيرة من جهة وما هو في إنتظار الخليقة من جهة مقابلة… ماذا عن ذلك؟ فتحت جائحة “كورونا” أعين الاقتصاديين على بعض أفكار العولمة (وسائل التواصل) كورونا قتل العولمة أم قص أجنحتها؟ لعل سنوات انتشار جائحة كورونا دعت العالم شرقاً وغرباً لتعميق البحث في قضية العولمة، وما إذا كان لها أن تبقى طويلاً، أم أن تلك الجائحة قد كتبت شهادة وفاتها بالفعل؟ في أبريل (نيسان) 2020 ومع تفاقم أزمة ذلك الفيروس أقر مفوض السوق الداخلية بالاتحاد الأوروبي تييري بريتون أن أوروبا ربما تكون قد “ذهبت بعيداً في العولمة” وأصبحت تعتمد بشكل مفرط على “دولة واحدة وقارة واحدة”. لم يكن بريتون وحده من مضى في هذا الاتجاه، فقد رأت المستشارة الألمانية في ذلك الوقت، أنجيلا ميركل، أن “الوباء يكشف عن الحاجة إلى ما أسمته “سيادة معينة هنا” أي في ألمانيا أولاً وأوروبا ثانية، يتم الحصول عليها من خلال “ركيزة الإنتاج المحلي”. هذا التفكير شكل توجهاً كبيراً بالنسبة للقوميين في أوروبا أول الأمر، وتمحور حول فكرة الاكتفاء الذاتي، الأمر الذي كان يعني بالضرورة تراجعاً عن العولمة، وفرصة عظيمة لكبح سلاسل التوريد للآلات التي تمتد إلى شرق آسيا، بفضل التكنولوجيات الجديدة مثل الطابعات ثلاثية الأبعاد. فكرة القرية العالمية أصبحت عبئا أكثر منها حلا (وسائل التواصل) كيف وجهت كورونا لطمة قاتلة للعولمة نفساً ورسماً؟ لعل الذين تابعوا مشهد رئيس جمهورية الصرب “الأوروبية” ألكسندر فوتيتشيتش خلال مؤتمر صحافي في أوج الأزمة، وهو يعاني من الكحة الشديدة التي تسبب فيها فيروس “كوفيد – 19″، أدركوا أن الرجل قد كفر بالفعل بفكرة العولمة، فقد وجد نفسه وبلاده وحيداً، بعد أن أغلقت بقية الدول الأوروبية حدودها في وجهه، وعلى رغم توسلاته لم تصله أي مساعدات طبية أو غذائية من أي دولة أوروبية، ولم يجد إلا الصين وروسيا الاتحادية عوناً له في هذا التوقيت. هنا ليس سراً القول، أن الكثير من الدول الأوروبية عانت الأزمة نفسها ومنها إيطاليا، والتي ضربها الفيروس القاتل بقوة، ولم يسارع إلا الروس في نجدتها، كما لم يقصر الصينيون أيضاً في هذا السياق. وضعت الجائحة الجميع أمام هشاشة فكرة العولمة، ذلك أنه بالنسبة للعديد من زعماء الاتحاد الأوروبي، كانت الصدمة الأكثر إزعاجاً للأزمة هي عجز أوروبا المتعثر عن صنع أقنعة الوجه أو المواد الكيماوية الأساسية المطلوبة للأدوية. أظهرت الممرضات في الدول الغنية مثل إيطاليا وإسبانيا وحتى الولايات المتحدة للواتي يرتدين أكياس القمامة بسبب نقص الملابس الواقية هشاشة سلاسل التوريد الدولية. لقد وجهت الفوضى التي أحدثتها المعدات الطبية ضربة مؤلمة إلى أنصار نظرية الميزة النسبية التي تدعمها العولمة، وتنص هذه النظرية على أن البلدان لا بد أن تتخصص في ما تصنعه على أفضل وجه، وسوف تضمن التجارة الحرة حصول كل بلد على ما يحتاج إليه بسعر أفضل في السوق العالمية مقارنة بما قد يحصل عليه إذا حاولت أن تصنع كل شيء بنفسها. لكن الوباء أظهر أنه في الأوقات الصعبة وبخاصة في أزمنة المحن والمصائب الكبرى، تنهار الأسواق العالمية وتظل الشركات مخلصة لحكوماتها أو مقيدة بحظر التصدير المحلي. فتحت جائحة “كوفيد –19” أعين كبار الخبراء الاقتصاديين، على بعض أفكار العولمة، والتي تبين أنها وهمية، فعلى سبيل المثال انتقد الخبير الاقتصادي الفرنسي فيلب أجيون ما وصفه بـ”التصنيع المفرط، ونقل الصناعات إلى الخارج، وسلاسل القيمة الممتدة”، في بلاده، وذلك في مقال رأي في صحيفة “ليزيكو” واعتبر أن ما فعلته فرنسا من إزالة التصنيع، ودفع عملية نقل سلاسل القيمة إلى الخارج، هو خطأ قاتل، وينبغي تصويبه بأسرع وقت، ما يعني تراجعاً مؤكداً عن الانغماس في أفكار العولمة من جانبها الاقتصادي على الأقل، أي أنها بداية قصقصة الأجنحة وإن لم تتم العولمة دفعة واحدة. كانت العولمة القديمة في جوهرها فكراً اقتصادياً (رويترز) تصاعد الحمائية وتراجع العولمة ولعله كما بدأت الدعوات للعولمة، من الداخل الأميركي، انطلاقاً من كون واشنطن، عاصمة العالم الحديث، وحتى لو كان مارشال ماكلوهان كندياً، فقد تكون الأقدار مترصدة لطرح العولمة، لكنها أقدار تعمل في الاتجاه المعاكس لصعودها… ماذا يعني ذلك؟ عندما فرض الرئيس الأميركي جو بايدن في مايو (أيار) الماضي تعريفات جمركية بنسبة 100 في المئة على بعض الواردات الصينية، أثار موجة جديدة من التكهنات الدولية، وطرح الإجراء تساؤلاً هل العولمة في تراجع فعلي على الأرض؟ قبل الجواب ربما ينبغي أن نشاغب العديد من الحقائق وفي مقدمها انكماش حجم التجارة كنسبة من الناتج الاقتصادي العالمي، كما أن “السياسة الصناعية” التي تهدف إلى تعزيز بعض الصناعات المحلية على حساب المنافسين العالميين، في ازدياد، وبخاصة في البلدان الغنية. منذ ما يقرب من عقد من الزمان، كان الناس يتحدثون عن “التباطؤ الاقتصادي”، حيث اعتبر الأمر مؤشراً على تباطؤ في حركة العولمة. في هذا الصدد يقول مدير مركز سياسة التنمية العالمية بجامعة بوسطن كيفن غالاغر “إن التفتت يشكل خطراً كبيراً على صحة الاقتصاد العالمي، ولكن هناك الآن إجماعاً على أن العولمة المفرطة، حيث الأسواق الحرة غير المنظمة هي القاعدة، كانت ضارة بقضية بناء اقتصادات منخفضة الكربون ومتساوية اجتماعياً ومرنة”. هل كان للولايات المتحدة دور في إنهاء العولمة؟ (وسائل التواصل) هل العودة إلى زمن السياسات الصناعية، هو الصنو والمرادف لتراجع العولمة؟ للتذكير السياسة الصناعية، هي مصطلح شامل للسياسات التي تهدف إلى تطوير قطاعات معينة من الاقتصاد من أجل تحقيق أهداف الحكومة، ويمكن تحقيق ذلك بعدة طرق، على سبيل المثال باستخدام الإعانات والمزايا الضريبية وحماية التجارة، لقد نضجت أغلب الاقتصادات الكبرى، بما في ذلك الولايات المتحدة وألمانيا في القرن الـ19، واليابان والصين في القرن الـ20 بمساعدة السياسة الصناعية. على أنه وفي بداية ثمانينيات القرن الماضي، أي في زمن انطلاق العولمة، بدأت العديد من الحكومات تنظر إلى السياسة الصناعية باعتبارها عقبة أمام التجارة الحرة والأسواق الحرة، فاتبعت نهج عدم التدخل في الشؤون الداخلية. هل تغير الوضع اليوم؟ حين وصل جو بايدن في مايو الماضي إلى منشأة تصنيع شرائح “أنتل” في ولاية أريزونا، أعلن عن تخصيص ما يقرب من 20 مليار دولار من المنح والقروض الحكومية لدعم الشركات الأميركية في مواجهة المنافسة الأجنبية. في تفسير مثل هذا التطور، يقول الزميل البارز في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي في واشنطن غاري سي هوفياور “الآن في الولايات المتحدة، كلا الحزبين الرئيسيين هما حزبان للحماية، ولكنهما يغنيان ألحاناً مختلفة قليلاً، وهذا له تأثير في جميع أنحاء العالم”. إن إغلاق الحدود أثناء جائحة “كوفيد -19″، أجبر صناع السياسات على إعادة تقييم اعتمادهم على سلاسل التوريد، والحفاظ على القدرة التنافسية من الناحية التكنولوجية، وبخاصة في الصناعات المرتبطة بالدفاع والأمن الوطني. هل هي إذاً مرحلة الهشاشة قبل الموت؟ دور أميركا في نهاية العولمة السطور المتقدمة بشأن السياسات الصناعية في الداخل الأميركي تقودنا إلى تساؤل مهم عما إذا كانت الطعنة الكبرى سوف تتوجه للعولمة من الداخل الأميركي، وقبل أي جهة أخرى، وبخاصة في ظل تحول السياسيين الأميركيين ضد الانفتاح الاقتصادي العالمي. هل اكتشف الأميركيون أنهم وقعوا ضحايا لخدعة العولمة والتي اعتقدوا أنها كفيلة بتقويم سلوك العديد من الدول المشاكسة، حال دمجها في الاقتصاد الحر الليبرالي الغربي على نحو خاص؟ يرى المؤرخ الإنجليزي الشهير آدم توز، أنه في فجر القرن الـ21 كانت بلدان الجنوب العالمي والكتلة الشيوعية السابقة تتسابق لخفض الحواجز التجارية، وتحرير أسواق رأس المال، وتشجيع أفضل وألمع طلابها على الدراسة في الغرب. في الوقت عينه كانت الشركات المتعددة الجنسيات تعمل على توسيع سلاسل التوريد الخاصة بها لجلب العمال من المكسيك والصين وفيتنام والهند وروسيا إلى صفوفها، كما خلقت شبكة الإنترنت طرقاً جديدة تماماً لنقل المعلومات عبر الحدود، وارتفعت إنتاجية العمل وانخفض الفقر العالمي. في هذا السياق تبنى الساسة الأميركيون هذا الاتجاه إلى حد كبير، فقد تعاون الجمهوريون والديمقراطيون في التفاوض على اتفاقيات تجارية مع الأصدقاء القدامى والأعداء السابقين، وقد حدث هذا كله في سياق من التفاؤل العام، ففي يناير (كانون الثاني) 2000 قال 69 في المئة من الأميركيين لمؤسسة “غالوب” إنهم راضون عن الاتجاه الذي تسلكه البلاد. على أنه بعد مرور عقدين من الزمان، لم تسر الأمور على النحو الذي آمله العديد من أنصار التجارة الحرة في نهاية إدارة الرئيس بيل كلينتون، فلم تتحول الصين ولا روسيا إلى ديمقراطيات ليبرالية قائمة على السوق الحرة، وشهد عقدان من الحرب التي لا تنتهي أزمات مالية وانتفاضات شعبوية وأوبئة، ولم يكن غزو روسيا لأوكرانيا والعقوبات التي أعقبته سوى أحدث صدمة للنظام المعولم. هل تجاوز العالم مرحلة هشاشة العولمة؟ الثابت أن هناك حالة من تسابق البلدان على إقامة حواجز جديدة أمام التجارة، وفرض ضوابط رأس المال، وتقييد تدفقات الهجرة، وقد تبنى الساسة الأميركيون هذا الاتجاه أيضاً. لقد كان أقوى خط مشترك بين رئاستي دونالد ترمب وجو بايدن، هو عدائهما للانفتاح الاقتصادي، وكل هذا يحدث في سياق من التشاؤم العام، ففي مارس (آذار) الماضي، قال 22 في المئة فقط من الأميركيين لمعهد “غالوب” لاستطلاعات الرأي أنهم راضون عن الاتجاه الذي تسلكه البلاد على صعيد الاقتصاد والمال والتجارة. لقد أثارت حالة الاضطراب التي شهدها القرن الـ21 الاتهامات والاتهامات المضادة حول من يتحمل المسؤولية عن “نهاية التاريخ” أو موت العولمة. هنا تبدو المعركة المعولمة بين طرفين، أنصار التجارة الحرة والذين يشيرون إلى الفوائد الهائلة التي جلبها التحرير الاقتصادي للاقتصاد العالمي وينددون بصعود المذهب التجاري الجديد في الولايات المتحدة وأماكن أخرى. وعلى الجانب الآخر فإن منتقدي التجارة الحرة يقدمون دحضاً صعباً، فهم يزعمون أن العقدين الماضيين كشفا عن التناقضات الداخلية الليبرالية الجديدة، وكما يرون، فإننا نشهد الاستجابة الطبيعية للمجتمعات التي تعصف بها تقلبات السوق الحرة فالانفتاح الاقتصادي أو العولمة قد زرع بذور تدميره. من الواضح جداً أنه ليس الأميركيين فحسب، ولكن الأوروبيين أيضاً قد ملوا وسئموا من التأثير المدمر للتجارة الدولية، والتأثير المخفض للأجور بسبب الهجرة، وقد كان هذا واضحاً بقوة في استجابة الكونغرس لخطاب حالة الاتحاد الأول الذي ألقاه بايدن، وكان أكثر جملة لاقت تصفيقاً حاداً هي وعد الرئيس أنه “عندما نستخدم أموال دافعي الضرائب لإعادة بناء أميركا، فإننا سنشتري المنتجات الأميركية لدعم الوظائف الأميركية”. ترسم بيانات استطلاعات الرأي صورة مختلفة، ففي عام 2021، وفقاً لمؤسسة “غالوب” كان 79 في المئة من الأميركيين ينظرون إلى التجارة العالمية، أي العولمة بإيجابية وهو رقم قياسي، غير أنه بالوصول إلى العام التالي 2022 فإن هذه النسبة انخفضت إلى 63 في المئة. هل بات هناك تيار يعادي العولمة في الداخل الأميركي في الأزمنة الاعتيادية عامة، وفي زمن الانتخابات الرئاسية الأميركية على نحو خاص؟ المؤكد أنه حتى لو لم يكن العداء للعولمة جذاباً للشعب الأميركي المتوسط، فإنه يحظى بقدر من الجاذبية للناخب الأميركي المحوري، ففي دورات الانتخابات القليلة الماضية، كان مفتاح النصر يمر عبر حزام الصدأ، وهذا يعني إظهار الولاء لفكرة أن أميركا كانت عظيمة قبل العولمة، وعلاوة على ذلك، لا يعطي أنصار التجارة الحرة والهجرة أولوية عالية لهذه القضايا، في حين أن أهميتها بالنسبة لمعارضيها أعلى كثيراً، وهذا يفسر لماذا تعتقد الممثلة التجارية الأميركية كاثرين تاي، أن هيلاري كلينتون خسرت في 2016، إلى حد كبير بسبب الشراكة عبر المحيط الهادئ، وهي اتفاقية تجارية مفتوحة بين الولايات المتحدة و11 دولة أخرى. هل يقودنا هذا التحليل إلى أن زمن ما عرف بالعولمة الأفقية قد توارى، وحل محله أوان العولمة العمودية؟ الكتل الجيوسياسية والعولمة العمودية في أواخر عام 2022 قدم لنا رجل الأعمال الكندي من أصل هندي، والمولود في نيوزيلندا، رؤية جديدة عن العولمة. براكاش هو أحد مؤسسي مركز ابتكار المستقبل، وهو شركة استشارية مقرها تورنتو في كندا، وهو أيضاً مؤلف خمسة كتب ومتحدث عالمي أحدث كتاب له جاء بعنوان “العالم عمودي: كيف تعمل التكنولوجيا على إعادة تشكيل العولمة؟”. فكرة براكاش الرئيسة تتمحور حول ظهور كتل جيوسياسية جديدة في مختلف أنحاء العالم، هي التي ستشكل المستقبل العالمي، وما يعني أنها هي التي ستصنع شكلاً جديداً من العولمة المغايرة للقرية الكونية التي خبرنا عنا ماكلوهان قبل خمسة عقود… ماذا عن ذلك بمزيد من التفصيل؟ عند براكاش إن العالم يدخل الآن فترة من “العولمة العمودية” مع تشكل كتل جيوسياسية في مختلف أنحاء العالم، مع انقسام العالم إلى مجموعات متعددة، فإن هذه الكتل الجديدة – الرسمية، أي التحالفات، وغير الرسمية أي الممرات التجارية، قد تعيد تشكيل كل شيء من سلاسل التوريد إلى الاستدامة. على سبيل المثال، مع تطلع الدول في مختلف أنحاء العالم إلى التحول إلى المركبات الكهربائية، يتشكل تكتل جيوسياسي جديد في أميركا اللاتينية، يمكن أن يتخذ القرارات نيابة عن الجميع، من الصين إلى تسلا. إن تحالف الليثيوم الجديد الذي تتطلع إليه المكسيك، التي أممت صناعة الليثيوم لديها في وقت سابق من عام 2022، من شأنه أن يجمع البلاد مع الأرجنتين وبوليفيا وتشيلي، الدول الأربع التي تسيطر على معظم إنتاج الليثيوم في العالم في سعيها إلى التحكم في إنتاج وتجارة مورد أصبح بسرعة أحد السلع الأكثر أهمية في العالم. وفي منطقة المحيطين الهندي والهادئ، اقترحت الولايات المتحدة “تشيب 4″، وهو تحالف أشباه الموصلات مع اليابان وكوريا الحنوبية وتايوان، بهدف إنشاء سلاسل توريد للرقائق التي لا تعتمد على الصين ووقف صعود بكين التكنولوجي. وفي الشرق الأوسط تتعاون إسرائيل مع الهند والإمارات العربية المتحدة، ضمن تكتل لتعزيز الابتكار، وفي آسيا الوسطى بينما تريد كازاخستان إعادة تصميم تدفق التجارة المادية والرقمية عبر أوراسيا، تعمل الصين على بناء ما يعرف بـ”الممر الشمالي ” وهو ممر يربط آسيا وأوروبا عبر روسيا وبيلاروسيا، كجزء من مبادرة منذ عدة سنوات، مبادرة الحزام والطريق. ماذا يعني ذلك لفكرة العولمة التقليدية القديمة؟ المؤكد أنه مع ظهور كل هذه الكتل الجديدة الناشئة، يبتعد العالم بسرعة كبيرة عن “مجموعة واحدة للجميع”، لقد انتهى عصر العولمة القديمة، ولن تؤدي التحالفات والممرات الجديدة التي تتشكل إلا إلى المزيد من التفتت العالمي، مما يولد صدمات كبيرة لفكرة العولمة القديمة. من ناحية أخرى، لم تعد العديد من هذه الكتل الحصرية الجديدة التي أنشأتها الولايات المتحدة تشمل حلفاء أميركا التقليديين، مثل كندا أو فرنسا أو ألمانيا، بل إن الولايات المتحدة إلى جانب المملكة المتحدة، تضاعفت جهودها في منطقة المحيطين الهندي والهادي، وهو ما يمثل معضلة لشركائها القدامي في أوروبا والشرق الأوسط. كانت العولمة القديمة في جوهرها فكراً اقتصادياً، فقد كان الاقتصاد العالمي مفتوحاً ومتاحاً للجميع منذ عقود من الزمن، ولكن هناك عملية إعادة تنظيم جديدة جارية مما يقسم العالم على طول خطوط صدع جديدة. والواقع أن العديد من هذه الخطوط الصدعية إيديولوجية، وهو تحول هائل عن العقود الأخيرة، عندما بدا أن الأيديولوجية في طريقها إلى الاختفاء. في المستقبل القريب، سوف تتنافس كتل متعددة على حكم العالم وسوف تضطر هذه الكتل إلى التعايش مع بعضها البعض، في حين تعمل على إيجاد طرق إبداعية لجلب البلدان والشركات إلى زاويتها. أهلا بكم في عالم العولمة العمودية الجديدة، ووداعاً للعولمة المسطحة القروية القديمة. المزيد عن: العولمةالحرب البادرةجو بايدنالولايات المتحدةروسياأوكرانيا 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post ميليسا دا كوستا الروائية الفرنسية الثلاثينية الأكثر مبيعا next post رسائل متبادلة بين إسرائيل و”حزب الله”: لا مزيد من التصعيد You may also like لبنان في عام 2024: الحرب الأفظع والمجهول المستمر 26 ديسمبر، 2024 طرطوس: القبض على محمد كنجو..مصدر أحكام الإعدام بحق... 26 ديسمبر، 2024 لبنان يتمسك بتحييد شمال الليطاني عن جنوبه والكلمة... 26 ديسمبر، 2024 «حزب الله» يطالب باستراتيجية دفاعية تبرّر احتفاظه بسلاحه 26 ديسمبر، 2024 هاجس إنهاء «المقاومة» يسكن «حزب الله» 26 ديسمبر، 2024 لماذا تجاهلت “حماس” حديث الشرع بأنه لن يقاتل... 26 ديسمبر، 2024 تقرير: أسماء الأسد «مريضة بشدة ومعزولة» بعد عودة... 26 ديسمبر، 2024 رجال المال والتكنولوجيا دشنوا عصر الاستحواذ على الشأن... 26 ديسمبر، 2024 مكافحة التزوير تتصدر المشهد في الكويت خلال عام... 26 ديسمبر، 2024 هل ينهي ترمب حق الجنسية بالولادة في أميركا... 26 ديسمبر، 2024