آرثر ريمبو (1851 – 1891) (غيتي) ثقافة و فنون “مراسلات” آرثر ريمبو: كم أود أن أعيش.. لكن هذا بات مستحيلا! by admin 19 يوليو، 2024 written by admin 19 يوليو، 2024 69 صاحب “موسم في الجحيم” يعترف في النهاية أن الحياة أنصفته فأعطته كما أعطاها اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب بعد قرن كامل من موتسارت عبقري الموسيقى الذي سيكتشف لاحقاً أنه كان أيضاً عملاقاً في كتابة… الرسائل، عرف تاريخ الإبداع شاباً آخر ماثل موتسارت عبقريته، وعاش حياة قصيرة مثله وامتلأ بالحيوية في صورة يضاهي صاحب “عرس فيغارو”. كذلك ماثله في موته شاباً. فإذا كان موتسارت عاش بين 1756 و1791 فإن الشاب الآخر وهو الشاعر الفرنسي آرثر ريمبو عاش بين 1851 و1891، وكتب بدوره مئات الرسائل. طبعاً لم يكتب صاحب “المركب الثمل” العدد نفسه الذي كتبه موتسارت (3000 رسالة عثر عليها حتى يومنا هذا) لكنه كتب على أية حال مئات الرسائل، علماً أن كتابة الرسائل كانت بالنسبة إلى عبقري الموسيقى فرصة الكتابة الوحيدة تقريباً. أما بالنسبة إلى عبقري الشعر، فكانت جزءاً فحسب من عمل كتابي طويل عريض. ومن هنا قد يحلو للبعض أن يقول إن ريمبو ملأ شعره ونصوصه الأخرى أيضاً بعدد كبير من “الرسائل”. أما ما يهمنا هنا بالطبع فهو الرسائل التي كتبها ريمبو خلال حياته ليبعث بها إلى أحد ما. وهذه الرسائل يقسمها باحثو حياة وإبداع هذا الشاعر إلى قسمين أساسيين من الناحية الزمنية، القسم الأول وهو الذي كتب بين سن الـ17 وسن الـ21، والقسم الثاني الذي كتب بين عام 1875 والعام الذي مات فيه ريمبو. واحدة من رسائل ريمبو التي جمعت في كتاب (أمازون) خارج عن الأطر إذاً فالمجموعة الأولى من رسائل ريمبو هي تلك التي كتبها خلال سنوات مراهقته. ولعلها بالنسبة إلى مؤرخي حياة هذا الشاعر المتمرد الخارج بشخصيته وأفكاره عن كل إطار والواصل في نهاية حياته إلى أن يتحول مرتزقاً وبائع سلاح في شرق أفريقيا، لعلها تشكل القسم الأهم من رسائله كلها. فإذا كانت الرسائل المقبلة خلال فترات أخرى من حياته، تتناول أحداث تلك الفترات شرحاً وتبريراً وتأكيداً، فإن الرسائل الأولى تشكل أفضل آلية لفهم الأسس التي قامت عليها كل مفاعيل حياة ريمبو التالية. فإذا كان الذين عرفوا ريمبو من رفاق وأساتذة خلال سنوات مراهقته يجمعون على شخصيته المتمردة المنطوية الساخرة بلؤم من الجميع، فإن في رسائله خلال تلك الحقبة ما يؤكد ذلك… بل يؤكد جانباً شريراً لديه. إذ منذ وقت مبكر تظهر رغبات ريمبو ليس فقط في تغيير العالم والشعر بل وبخاصة في تبديل أطر الفكر نفسها… حتى وإن كان لا يقول لنا كيف. ومع هذا نقرأه وهو يقول إن الشعر يجب أن يكون أفضل وسيلة للمعرفة، للوصول إلى المطلق، ولخوض التجربة البروموثية التي هي “التجربة الوحيدة الجديرة بأن تخاض”… وإلا “فما معنى هذه الحياة التي سنعيشها؟”. منذ ذلك الوقت المبكر يبدو ريمبو واثقاً من أفكاره، واثقاً من رغبته في تغيير نفسه وتغيير العالم “التافه” الذي يحيط بنا “عالم الآخرين”. ولنقرأه يقول في رسالة مبكرة له “ألا… سأعطيهم كل ما لدي مما هو أحمق وقذر وسيئ يمكنني اختراعه…”. أو لنقرأه أيضاً وهو يقول في رسالة رصد فيها تأملاته حين كان يخطط لكتابة “موسم في الجحيم”، “أنا لست أعرف الآن كيف سأخرج من كتابة هذا العمل..، لكنني أعرف أنني سأخرج منه بالتأكيد (…). حتى الآن أعرف أنني سأعطيه عنواناً هو “كتاب فاسق” أو “كتاب زنجي”. وفيه حكايات نثرية عدة (تتقاطع مع الشعر). وسيكون كتاباً أحمق ولكنه بريء. وأعرف أن مصيري يرتبط به ارتباطاً كبيراً…، لكنني لا أزال في حاجة إلى أن أخترع من أجله نحو نصف دزينة من الحكايات الفظيعة”. إعجاب متبادل إلى تلك الفترة أيضاً تعود رسائل كتبها ريمبو ووجهها إلى الشاعر فرلين. الحقيقة أن هذه المجموعة تشهد على إعجاب ريمبو بزميله. ولعل ما يمكن ملاحظته في صدد هذه المجموعة هو أنها تحمل أوصافاً لأوقات يعيشها ريمبو، ولحالات تكتنفه، ستصبح لاحقاً جزءاً من أشعاره… إذ إن من يقرأ بعض ما في هذه الرسائل سيلاحظ أنها تبدو وكأنها – مثلاً – مسودات لـ”إشراقات” (مجموعة ريمبو الأشهر). وإلى تلك المرحلة أيضاً تعود رسائل أخرى تحدث فيها ريمبو عن جولاته وسفراته… وعن الأفكار الشعرية والتغييرية العظيمة التي كانت لا تزال تراود خياله. ولكن ما أن يصبح شاعرنا في الـ21 من عمره حتى يتبدل كل شيء، فيقرر فجأة أن يترك الشعر و”أوهامه” والإبداع و”لا جدواه”. لقد صار الآن شخصاً آخر… شخصاً يجابه الحياة بواقعيتها. وأين؟ في أفريقيا الشرقية حيث سيمضي الأعوام الستة التالية من حياته. وهكذا تصبح رسائله أكثر واقعية و”يأساً من قضية الكتابة” وهذه الرسائل يبعث بها الرجل من قبرص ومن الإسكندرية وخصوصاً من عدن وإثيوبيا… ولعل الرسائل التي يبعث بها من هذه الأخيرة هي الأغرب والأكثر جدارة بأن تقرأ من بين رسائل ريمبو جميعاً. إذ من هنا يطلب ممن يراسلهم أن يبعثوا إليه كتباً تقنية وعلمية وحول اللغات المحلية وما إلى ذلك… لماذا؟ لأنه يريد الآن أن يبدأ تأسيس مشاريع وشركات… يريد أن يفتتح مشروعاً لتربية الماشية ولتصنيع الأسماك وتعليبها… ولا يكتفي بهذا، بل يبعث تقارير مفصلة – لا ندري من طلبها منه! – إلى مكتشفين وعلماء أوروبيين يوفر لهم فيها معلومات حول المناطق والشعوب التي يعايشها الآن. ويرسل تقاريره أيضاً إلى الجمعية الجغرافية التي يراسلها رسمياً وإلى وزارة الخارجية الفرنسية، ويهتم كثيراً بأديان أهل المنطقة. والحقيقة أن تلك المرحلة هي التي كتب خلالها ريمبو أقل عدد من الرسائل الشخصية، بل إن معظم رسائله صارت خالية من أية إشارات أدبية أو فنية. ريمبو في شرق أفريقيا (غيتي) أمور جيدة ونافعة ولعل حاله في ذلك الحين تصل إلينا أصداؤها عبر رسالة يقول فيها مثلاً “أعمل. أسافر. أريد أن أقوم بأمور جيدة ونافعة. والناس هنا يحترمونني لأنني أباديهم بأفعال إنسانية خيرة. أنا لم أسئ إلى أحد هنا. وأرى أن الناس في هرر ليسوا لا أسوأ ولا أصفى من الناس في أي مكان آخر من العالم… وهم خصوصاً ليسوا أكثر قذارة من أولئك “الزنوج” البيض، سكان البلاد التي تسمى “متمدنة”. وإذا كان ريمبو يتراسل بين 1881 و1891، وبخاصة مع المهندس السويسري إلغ، فإن معظم هذه الرسائل تبدو تقنية علمية… لذا علينا أن ننتظر نهاية هذه الأعوام (وإصابة ريمبو بالمرض – الذي سيقضي عليه في النهاية ويتسبب له في قطع فخذه وبآلام فظيعة)، حتى نراه يستعيد في مراسلاته شيئاً من الذاتية ممزوجة بتجدد الهم الأدبي والفكري… ثم الشاعري وبخاصة لديه. فيقول في واحدة مثلاً “صرت أمشي على عكازات… آه كم حجم آلامي… وكم حجم تعبي… يا لحزني الشديد!”. أما الحب والرغبة في أن يكون متكاملاً مع نفسه، فإنهما يلوحان هنا بقوة كما لو أن ريمبو يعيد اكتشافهما. ثم فجأة يكتب “آه كم أود أن أفعل هذا، أو ذاك! كم أود أن أروح هنا أو أذهب هناك… كم أود أن أعيش، أن أرى… أن أسمع، كم أود أن أسافر… لكن هذا كله صار مستحيلاً الآن!”. أعطته الحياة كما أعطاها باكراً مات آرثر ريمبو وباكراً انتهت كتاباته وحياته. ونعرف أن كل ما كتب شعراً ونثراً إنما ينتمي إلى النصف الأول من تلك الحياة. أما المغامرة والآلام والأفكار الواقعية فتنتمي إلى النصف الثاني من تلك الحياة. ومع هذا وخلال الأشهر الأخيرة من حياته سيعترف الشاعر بأن الحياة أعطته بمقدار ما أعطاها. أما أخته التي ستكون قادرة على القول إنها عرفته أكثر من أي شخص آخر فإنها أصدرت في النهاية حكماً عليه لا شك في أنه الأصدق إذ قالت منطلقة من تعليقها على رسائله “إنني أعتقد أن الحس الشعري لم يتخل عن آرثر طوال حياته… بل ظل يرافقه حتى لحظة موته”. لقد بقي شاعراً في كتاباته الشعرية… وفي رسائله. وبخاصة في حياته، التي لا شك في أن تلك الرسائل ترويها لنا بمقدار ما هي مروية في كتبه الأخرى. المزيد عن: موتسارتآرثر ريمبورسائل ريمبوالشاعر فرلين 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post الألم حارس الحياة والعين الأكثر يقظة وانتباهاً next post مصر.. كشف أثري جديد تحت مياه النيل You may also like مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024 عبده وازن يكتب عن: فيروز تطفئ شمعة التسعين... 21 نوفمبر، 2024 “موجز تاريخ الحرب” كما يسطره المؤرخ العسكري غوين... 21 نوفمبر، 2024