ثقافة و فنون “مدن الإسلام” للأفغاني بامات: الزمان والمكان والإنسان في بنيان واحد by admin 8 يونيو، 2023 written by admin 8 يونيو، 2023 334 تلك الكيانات الجغرافية التي عبرت التاريخ محافظة على دورها الجوهري كمرآة للعالم اندبندنت عربية \ إبراهيم العريس باحث وكاتب “متاهة من الأزقة المنغلقة على ذاتها، وذلكم ما تبدو عليه – للوهلة الأولى – المدينة الإسلامية التقليدية. لكننا إذا نظرنا إليها من عل، ستبدو المدينة مثل تشكيل بلوري متجانس، يتألف من مكعبات ومخاريط هي في الحقيقة بيوت متراصة فوق بعضها البعض…”. هكذا تبدو المدينة الإسلامية لنجم الدين بامات، المفكر والدبلوماسي المسلم، الأفغاني الأصل، القوقازي المولد، الفرنسي التربية… منذ زمن بعيد كان نجم الدين بامات مسحوراً بالمدينة الإسلامية، بأشكالها وحياتها الداخلية، بتشعباتها وسطوحها، بأزقتها وساحاتها، وبذلك الظل الغامض المهيمن عليها، سواء أكانت مدينة كبيرة، أو بلدة صغيرة. وهذا الافتتان كان الرجل يحلم منذ زمن بعيد بالتعبير عنه. غير أنه كان يعلم أن لغة العلم والهندسة العمرانية، لئن كانت ذات فائدة في ولوج الحديث عن المدينة الإسلامية، فإنها لا تكفي وحدها لرسم صورة حقيقية لذلك العالم المتكامل، الحامل تاريخه وحاضره ممتزجين، والمشكل واحة دائماً وسط سدم من الفراغ لا تنتهي. لذلك قام مشروع نجم الدين بامات على وضع كتاب يتحدث بلغتين: لغة العين ولغة الشعر. وإذا كان القدر قد شاء لهذا الرجل أن يرحل عن عالمنا قبل ثلاثة أعوام تقريباً من صدور كتابه في عام 1986، من دون أن يجد حلمه متحققاً، فإن من حسن حظه أن مشروعه لم يمت معه، بل خرج من المطبعة، على شكل كتاب غاية في الأناقة مليء بالصور الرائعة، من فوتوغرافية ومنمنمات، وموزع على الصفحات في مقاطع شعرية تستقي من تراث الكلام عن المدينة وعن الإسلام، ما يشكل مع الصور تناغماً بصرياً – ذهنياً، قلما أتيح مثله لكتاب. كتاب مختلف يحمل كتاب نجم الدين بامات عنواناً بسيطاً ومباشراً لكنه ذو دلالة هو “مدن الإسلام” ويقع في نحو 250 صفحة من القطع الألبومي الكبير (28×32 سم) وأصدرته بالفرنسية منشورات “آرتو” ARTHAUD التي اعتادت بين الحين والآخر على تقديم أعمال عن الإسلام فاتنة ومعبرة. غير أن كتاب بامات يختلف كلياً عن كل ما صدر قبله من كتب عن الإسلام وعلاقته بالمدينة. فالمدينة هنا ليست مجرد مكان هندسي. هي الحياة نفسها. وهذا ما يؤكده لنا بامات على مدى صفحات النص الذي كتبه: فالإسلام منذ بداياته أتى كدين مدينة، “سواء في تأسّسه الأول في مكة المكرمة، أو في تأسّسه السياسي في المدينة المنورة”. ومن هنا لعبت المدينة في الإسلام، على الدوام، دوراً قلما لعبته في أية حضارة أخرى. ومن هنا – أيضاً – عرف الإسلام كيف يكرم مدنه ويدفع بها إلى الازدهار، من ناحية انطلاقاً من دورها الاجتماعي – السياسي (وبالتالي الحضاري)، ومن ناحية ثانية انطلاقاً من كون المدينة مركز الأمة، ونقطة التقاطع التي تلتقي عندها وفيها شعوب هذه الأمة. نجم الدين بامات في الوسط (1928 – 1985) (وسائل التواصل) كل شيء في المدينة في المدينة وضع المسلمون كل ما عندهم، وكل ما جاء ليضاف إلى ما عندهم… وهكذا بالتدريج صارت المدينة صورة للعالم كله ومرآة تعكس علاقاته وتناقضاته، لذا لم يكن من قبيل الصدفة، أن تتنوع وظائف المدينة بتنوع المناخات والبيئات المجاورة والشعوب الذين تخدمهم مدينة من المدن كنقطة تقاطع. وبامات لا ينكر (ص 73) أن المدينة الأوروبية في العصور الوسطى وما بعدها قد لعبت دوراً شبيهاً، غير أنه يركز على أنه فيما كانت المدينة الأوروبية مجرد تعبير عن سلطة عليا تنطلق من المركز لتصب في الأطراف كافة، أتت المدينة الإسلامية على شكل نقاط تقاطع تتم فيها عملية الفصل والانفصال بشكل تبادلي. وهذا ما أعطى المدينة الإسلامية تعدديتها وأناقتها… وحدد لها على الدوام دورها كـ”ميكروكوسم”. ونجم الدين بامات يدرس هذا الدور انطلاقاً من تفريقه بين “طوبولوجيا” مختلف المدن الإسلامية التي يتوقف عنها، مؤكداً على فكرة التنوع، حيث يقول لنا (ص 99) تحت عنوان “أنماط المدن”: “إن التوجه الصحيح، والحساب المجرد، وكذلك اللقاء الملموس بين أرض وماء، كانت كلها عناصر حاسمة بالنسبة إلى انتشار مدن الإسلام في الحيز الذي انتشرت فيه. ولهذا السبب ترانا نعثر، بين مدن الإسلام، على كل ذلك العدد من الموانئ البحرية، والنهرية، ومحطات القوافل. فالمدن هي في نهاية الأمر أماكن للتجارات البعيدة وانفتاحات على الأفق… وبقدر ما كانت الشروط التجارية وشروط الانفتاح تتوافر، بقدر ما كان يكبر الحظ في أن يكون ثمة موقع لمدينة”. أنماط المدن وتنوع الحياة ويعدد نجم الدين بامات أنماط المدن: موانئ على المتوسط: مثل المرية، وبالرمو، وتونس، والإسكندرية، وصور وعكا. موانئ على البحر الأحمر: جدة أو عدن المتجهة شطر الهند – أو موانئ تقع مباشرة على المحيط الهندي: البصرة، مسقط.. وحتى ملقة وسومطرة ومدن إندونيسيا. محطات لاستراحة القوافل، كما هي حال سجلماسة في المغرب، وتومبوكتو في الصحراء الكبرى، وحمص أو حلب. ناهيك عن المدن التي تقع عند تقاطع الطرق الآسيوية القديمة على خط طريق الحرير: همدان، الري، حرات، نيسابور، بلخ، سمرقند، حتى مدن إقليم خنكيانغ في الصين. مدن الأحواض النهرية مثل إشبيلية وقرطبة، على نهر الوادي الكبير (الأندلس)، والموصل (قرب نهر دجلة). المدن المروية من مصادر مياه متعددة مثل فاس، والأخرى التي هي أبواب تفضي إلى الصحراء مثل مراكش… المدن المقدسة مثل مكة المكرمة والمدينة المنورة والقدس والنجف وكربلاء… المدن القلاع: الكوفة، والقيروان وغيرها… المدن المتبقية من الأزمان القديمة: دمشق… صنعاء، وغيرها من المدن التي شهدت مسار التاريخ وعبور الزمن والعصور والسلالات، المدن التي جرحت حيناً لكنها ظلت حية على الدوام… كالقاهرة وإسطنبول وأصفهان… وأخيراً مدن العلم والثقافة كبغداد وصنعاء… وفي هذا المجال ينقل نجم الدين بامات عن الجغرافي العربي المقدسي، أنه يرى المدن الإسلامية التالية على شكل منارات أضاءت العالم: قرطبة، القيروان، القاهرة، دمشق، الموصل، بغداد، مكة، شيراز، الأهواز، أردبيل وسمرقند. مرآة للعالم ولكن مهما تنوعت وظائف المدن واختلف مناخها ومضى تألقها، يظل يجمعها، في نظر المؤلف – ذلك العنصر الأساسي: كونها جميعاً مرآة للعالم. وإذا كان بامات يتوقف بالتفصيل عند بعض المدن مثل فاس والقدس ومكة المكرمة والمدينة، واضعاً عن كل واحدة منها نصاً يضع المدينة نفسها في سياق مسيرة الإسلام وشعوبه، فإنه في واحد من أجمل فصول الكتاب، وهو يحمل عنوان “سمات المدينة” يتوقف بالتفصيل عند تلك الملامح والسمات المشتركة التي تعطي المدينة الإسلامية طابعها الجامع، فيخبرنا، مثلاً، بأننا في كل محاولة قد نبذلها من أجل رسم “طوبولوجية” المدينة الإسلامية، ستجابهنا في البداية، في زحام المدينة المعاصرة، كما في المدن الكلاسيكية، هذه البديهة الأولية: الكثافة القصوى للناس وللأبنية، للنسيج العمراني كله، بحيث أن المباني الهامة بالكاد تبرز واضحة في خضم هذا الشكل الشامل. فالأبنية والمساجد والأسواق والبيوت تتكون في دوامة الممرات والأزقة وغيرها من تلك العناصر التي تجعل من المدينة وحدة عضوية متكاملة. ونلاحظ في المدينة الإسلامية النمطية أن دروب التواصل، المخبوءة في بعض الأحيان، حين تكون في جوف الأرض، أو تعبر من فوق السطوح، تتضافر جميعها لتجعل المدينة تبدو وكأنها دارة واحدة. حياة علمية متواصلة يبقى أن نذكر أن نجم الدين بامات ولد في بارسي عام 1922، ابناً لعائلة مسلمة تعود في أصلها إلى شمال القوقاز، لكنها تجنست بالجنسية الأفغانية بعد ذلك. نال بامات باكراً شهادة الدكتوراه في القانون الروماني، وكرس نفسه منذ صباه للدراسات الإسلامية في لوزان وكمبوديا وجامعة الأزهر في القاهرة، ثم في باريس حيث درس على لوي ماسينيون. في عام 1948 عين مندوباً لأفغانستان في الأمم المتحدة، وهو دخل إلى منظمة “اليونسكو” وهو بعد في السابعة والعشرين من عمره، وتولى على التوالي العديد من المهام الثقافية في اليونسكو. كان يتكلم 12 لغة، ويعد العديد من البرامج التلفزية حول الحوار بين الحضارات. سافر كثيراً، ودرس ودرّس… لكن “مدن الإسلام” كان كتابه الأول… وهو كان مهتماً به منذ سنوات عدة، لكنه توفي في كانون الثاني (يناير) 1985 من دون إنجازه. المزيد عن: المدينة الإسلاميةنجم الدين باماتالعمارة الإسلاميةمدن الأحواض النهريةالمدن المقدسةالمدن القلاع 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post الخرف يسرع خطاه لدى من يعانون السكري في شبابهم next post على ماذا تراهن واشنطن من زيارة بلينكن السعودية؟ You may also like مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024 عبده وازن يكتب عن: فيروز تطفئ شمعة التسعين... 21 نوفمبر، 2024 “موجز تاريخ الحرب” كما يسطره المؤرخ العسكري غوين... 21 نوفمبر، 2024