تمثال أنثوي من قرية الفاو، وتمثالان مشابهان من العراق ثقافة و فنون محمود الزيباوي يكتب عن : تعويذة لدرء الشر أم أداة طقسية تنشد الخصوبة؟ by admin 25 سبتمبر، 2023 written by admin 25 سبتمبر، 2023 112 الدمية الأثرية المتحرّكة من قرية الفاو الشرق الاوسط \ محمود الزيباوي يحتفظ متحف قسم الآثار في جامعة الملك سعود بالرياض بمجموعة كبيرة من القطع الأثرية التي عُثر عليها في قرية الفاو، منها تمثال أنثوي صغير مصنوع من العظم يمثّل نسقاً فنياً خاصاً يُعرف اليوم بـ«الدمية المتحركة». تتميّز هذه الدمية بأعضاء مستقلة موصولة بالصدر، مما يسمح بتحريكها، وفقاً لتقليد فني قديم شكّل أساساً للتقليد الحديث المتّبع حتى يومنا هذا في صناعة اللعب. يبدو تمثال الفاو الأنثوي أشبه بقطعة منمنمة، فطوله لا يتجاوز 8 سنتيمترات، وذراعاه مفقودتان للأسف، وهما في الأصل مستقلّتان، كما يُستدلّ من الثقب الظاهر بشكل جلي في أعلى الكتف اليمنى. خصّص هذا الثقب لوصل الذراع الضائعة بخيط، وفقاً لنسق فني شاع في العالم القديم، تعود أقدم شواهده الأصلية إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد، منها ما صُنع من الخشب ومنها ما صُنع بتقنية الطين المشوي، ومصدرها مصر. أشهر هذه النماذج الأولى هي تلك المحفوظة في متحف الآثار والأنثروبولوجيا في جامعة بنسلفانيا في الولايات المتحدة، وهي النماذج التي أشارت إليها الباحثة الأميركية كاتي ألدركين في مقالة علمية نُشرت في عام 1930 في «مجلة علم الآثار الأميركية» العريقة، تحت عنوان «الدُّمى المتحركة في العالم القديم». تتبع هذه النماذج الأولى الأسلوب المصري بشكل كامل، وتتمثّل خصوصيّتها في أذرعها المستقلّة المثبّتة بأطراف أكتافها. استمرّ هذا التقليد في مصر، كما يشهد تمثال عاجيّ محفوظ في متحف «متروبوليتان» للفنون في نيويورك، مصدره مجهول، وهو على الأرجح من نتاج القرن الثاني عشر قبل الميلاد، ويُعد من أقدم الدُّمى المصنوعة من العاج. بعد مرور قرون عدة، ظهرت في مقاطعة بيوتيا اليونانية دُمى متحركة مصنوعة من الطين المشويّ، وهي من النسق الإغريقي «البدائي»، وتتبع أسلوباً زخرفياً خاصاً، كما أنها تتميّز بسيقانها الموصولة، لا بأذرعها التي تشكّل جزءاً من كتلتها، بخلاف التقليد المصري. وصلت إلينا مجموعة كبيرة من هذه الدُّمى، توزّعت على عدد من المتاحف الأوروبية، وأقدمها يعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد، ويشكّل انطلاقة جدية لهذا النهج. تبدو وظيفة الدُّمى الشرقية المتحركة ملتبسة إذ إنها مختلفة عن وظيفة نظيراتها الغربية على الأرجح بعد مرور ما يقارب القرنين من الزمن، ظهر في العالم اليوناني نوع جديد من هذه الدُّمى يتبع أسلوباً متقناً في التجسيم الواقعي. اتخذت التماثيل طابعاً واقعياً، وأضحت أذرعها وسيقانها متحرّكة، وباتت بالفعل دُمى خاصة بالفتيات، كما تشير النصوص الأدبية المعاصرة لها، والصور الناتئة التي تظهر فيها صبايا يحملن بين أيديهن تماثيل أنثوية منمنمة. تشير المصادر الأدبية إلى أن الصبايا كنّ يقدّمن هذه الدُّمى الأنثوية نذوراً إلى كبرى المعبودات في سن البلوغ كعلامة تعبّد، وطلباً للشفاعة والحماية، وتبدو هذه المقولة صحيحة، إذ عُثر على دُمى من هذا الطراز بين أطلال معابد مكرّسة على أسماء «أرتيميس» شفيعة العذارى وحاميتهنّ، و«أفروديت» سيدة الحب والجمال والنشوة، و«أثينا» سيدة الحكمة والقوة، و«ديمتر» سيدة النبات والخصب والفلاحة. تَواصل هذا التقليد الفني في الحقبة الهلنستية، إذ دخل العالم المتوسطي الشرقي، وبقي حياً في العالم الروماني حيث جرى التخلّي كما يبدو عن تقنية الطين المشوي، وشاعت تقنية العظم والعاج. وصلت إلينا من تلك الحقبة زهاء مائة دمية، تميّزت صناعتها بطابعها الكلاسيكي المتقن، كما تميّزت بتعدّد أعضائها الموصولة بأوتاد محكمة. تعود دمية قرية الفاو إلى القرن الأول أو الثاني حسب أهل الاختصاص، أي إلى تلك الحقبة، وتماثل من حيث التأليف الدُّمى الغربية، غير أنها تحمل سمات مغايرة تماماً، مما يوحي بأنها تتبع تقليداً مختلفاً، يمثّل جمالية لا تتبع الناموس اليوناني الكلاسيكي. في الجمالية الكلاسيكية كما هو معروف، يتألف طول الجسد من خمس وحدات، وفقاً للتشريح الواقعي. يخرج تمثال الفاو الأنثوي عن هذا التقليد، ويجنح نحو التحوير. النسب بعيدة كلياً عن المنطق الواقعي. تتضاءل قامة الجسد أمام اتساع كتلة الوجه. تتكتّل الأشكال، وتتوالد التقاسيم الدائرية في تحديد الوجه، والشعر الكثيف الذي يعلوه، والعينان الجاحظتان، كما في إبراز مختلف أعضاء الجسد. تبدو خصلات الشعر أشبه بقبعة كبيرة تكسوها شبكتان من النقوش المربّعة، يفصل بينهما شقّ غائر ومستقيم في الوسط. وتبدو العينان أشبه بلوزتين ضخمتين مجردتين. الأنف قصير وصغير، والثغر منمنم، ويتألف من شفتين مطبقتين ترسمان ابتسامة خفيّة. الصدر عامر، ويخلو من أي تفاصيل. الخصر مثلّث تتوسّطه سرّة كبيرة. الحوض ضخم، وتحدّه فخذان مكتنزتان. الركبتان ممحوتان، والقسم الأسفل من الساقين ضائع. يماثل تمثال الفاو تمثال من محفوظات متحف بغداد، مصدره مدينة سلوقية القديمة على ضفة نهر دجلة، كما يماثل تماثيل مشابهة محفوظة في متحف بنسلفانيا، مصدرها بابل ونيفور في بلاد الرافدين. واللافت أن هذا الطراز الشرقي يظهر كذلك في الغرب، ولو بشكل محدود، كما تشهد بضعة تماثيل منمنمة محفوظة في متحف الفاتيكان، مصدرها مقابر قديمة في روما تعود إلى الحقبة المسيحية الأولى. ظهر هذا النسق في القرنين الأولين للميلاد، غير أنه يمثّل من حيث الشكل على الأقل امتداداً لتقليد فني موغل في القدم، برز في سوريا كما في العراق. يتجلّى هذا التقليد في مجسمات طينية تمثّل هامات نسائية مجرّدة الملامح، تتميّز بصدرها الكبير وبأوراكها المكتنزة، كما بأحواضها المثلّثة الضخمة. يمثّل هذا التقليد نسقاً جامعاً راج في تلك الحقبة الموغلة في القدم، وفيه يبدو الوجه ملتصقاً بالجسد من دون عنق، وتغيب عنه السمات والملامح. يحضر القسم الأعلى من الساقين، ويتميّز بفخذين ممتلئتين. كما يبرز القسم العلوي من الجسد بشكلٍ عارٍ تماماً، ويتميّز بصدر ممتلئ وبحوض واسع عريض. تشكل هذه العناصر الجزء الأكثر حضوراً في هذه المجسمّات، وتعيد إلى الذاكرة سيّدة الخليقة «نمو» في الميراث الأدبي السومري، والمعنى الحرفي لاسمها «ماء الأم»، وهي الأم الأولى التي نتج من حركتها تكوّن الكون الأوّل الذي يتضمّن السماء والأرض في حالة تلاصق واندماج. في هذا السياق، تبدو وظيفة الدُّمى الشرقية المتحركة ملتبسة، وتبدو وظيفتها مختلفة عن وظيفة نظيراتها الغربية على الأرجح. ويرى البعض أنها ليست لعباً فحسب، بل تعويذات لدرء الشر، وأدوات طقسية تنشد الخصوبة والنمو والعطاء. المزيد عن : آثار السعودية 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post كيف تزيل شمع الأذن بأمان في المنزل ؟ next post السعودية تودع الصحافي والروائي هاني نقشبندي You may also like فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم... 24 نوفمبر، 2024 قصة الباحثين عن الحرية على طريق جون ميلتون 24 نوفمبر، 2024 عندما يصبح دونالد ترمب عنوانا لعملية تجسس 24 نوفمبر، 2024 الجزائري بوعلام صنصال يقبع في السجن وكتاب جديد... 24 نوفمبر، 2024 متى تترجل الفلسفة من برجها العاجي؟ 24 نوفمبر، 2024 أليخاندرا بيثارنيك… محو الحدود بين الحياة والقصيدة 24 نوفمبر، 2024 مهى سلطان تكتب عن: الرسام اللبناني رضوان الشهال... 24 نوفمبر، 2024 فيلمان فرنسيان يخوضان الحياة الفتية بين الضاحية والريف 24 نوفمبر، 2024 مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024