Lina Jaradat / فيروز. ثقافة و فنون محمد أبي سمرا يكتب عن: فيروز في التسعين.. نهاية الحنين إلى متحف البراءة by admin 21 نوفمبر، 2024 written by admin 21 نوفمبر، 2024 22 المطربة التي ساهمت في تأنيث اسم لبنان المجلة / محمد أبي سمرا بلغت فيروز اليوم التسعين من عمرها، وهي المولودة بحسب مطلعين عن كثب على ذلك، في 20 نوفمبر/ تشرين الثاني 1934 وليس في 21 نوفمبر 1935 على ما هو شائع خطأ في أكثر من مكان. لا اسم، لا صوت، ولا كلمات، منحت لبنان، منذ مطالع خمسينات القرن العشرين، صورا أزهى وأبهى وأرقّ وأسمى من اسمها وصوتها وكلمات أغانيها. وهي، بصوتها الغريب، زرعت تلك الصور في مخيلة أجيال لبنانية وعربية كثيرة، وأطلقتها في أرجاء العالم. قد يكون صوتها الغريب، الطالع منفردا من تراتيل معابد قديمة، هو باعث السحر في كلمات أغنية للبنان تعود إلى مطلع الستينات: “ع إسمك غنيت/ عَ إسمك رح غني/ ركعت وصليت/ والسما تسمع مني/ (…) هون السما قريبة/ بتسمعنا يا حبيبي”. وبلهجة أهل قرى جبل لبنان، التي هذّبتها رومنطيقية سحر الحنين إلى صور مجازية لزمنهم الآفل في تلك القرى، غنت بصوتها الابتهالي: “خدني على تلاتها الحلوين/ خدني على الأرض اللي ربّتنا/ انساني على حفاف العنب والتين/ اشلحني على ترابات ضيعتنا/ بواب العتيقة عم تلوّحلي/ وصوت النهورا (الأنهار)/ ينده الغيّاب/ وعيون عشبابيك تشرحلي/ صحاب عم بتقول نحنا صحاب/ (…) خدني ازرعني بأرض لبنان/ بالبيت يلي ناطر التلّي/افتح الباب وبوّس الحيطان/ وإركع تحت أحلى سما وصلّي”. إنها كلمات تضرّع وابتهال للعودة إلى “فردوس مفقود”، مرسوم بألوان الحنين المائية، وبصوت شفاف يرتِّل صلاة خشوعه لما لن يعود ولم يكن أصلا وفصلا. ألا وهو الوطنية اللبنانية. الوطنية اللبنانية الريفيّة أما لبنان الذي غنت فيروز أنها “نذرت صوتها، حياتها وموتها، لمجده”، فهو محض مجاز فني تعبيري فيرروزي – رحباني، على الرغم من أن ولادته قد تنطوي على آثار أو أصداء تحولات اجتماعية وثقافية، تعود إلى ما قبل النصف الثاني من القرن التاسع عشر في مجتمع جبل لبنان، وبيروت تاليا. شكلت تلك التحولات الرحم التي وُلدت منها “وطنية لبنانية” ريفية ومسيحية المصدر الاجتماعي والثقافي والمخيلة. وهي الوطنية التي شكلت نواة “دولة لبنان الكبير” الناشئة في العام 1920، والتي اتُخذت مدينة بيروت عاصمة لها، غداة الحرب العالمية الأولى. وجاءت ولادة تلك الدولة في سياق التجاور والتفاعل النشيط بين مجتمع جبل لبنان ومدينة بيروت. صوتها الغريب، الطالع منفردا من تراتيل معابد قديمة، هو باعث السحر في كلمات أغنية للبنان تعود إلى مطلع الستينات عن تلك التحولات نشأت دوائر جديدة للاجتماع والفعل والتفاعل والتواصل والتبادل والعلاقات والمشاعر والانفعالات والتعبير. وقي تلك الدوائر ارتسمت مسارات ومصادفات ومصائر عائلية وأسرية، شخصية وخاصة جديدة، تنطوي على عمليات تفاعل نفسية بين مجموعات أشخاص وأفراد من منابت وبيئات متفرقة، يجمع بينها وبين أفرادها الانتماء إلى بيئات عدة في جبل لبنان وبيروت. ومن أولئك الأشخاص والأفراد عاصي الرحباني وفيروز اللذين التقيا، كسواهما من أمثالهما الكثيرين، في الإذاعة اللبنانية في مطالع الخمسينات. Wikicommons / فيروز وعاصي الرحباني، عام 1955. الفصام والرومنطيقية في تلك الدوائر الكثيرة بين بيروت وجبل لبنان، وُلِدت وصيغت الوطنية (القومية؟) الجبل لبنانية الريفية الشعبية، المسيحية والمارونية التراث الذاكرة والمخيلة والمشاعر. وهي تشبه في وجوه عدة القومية السورية الجغرافية والطبيعية الحضارية، لرائدها اللبناني الأرثوذكسي المهاجر أنطون سعادة (1904 – 1949). ومن ثقافة هاتين الوطنية والقومية، المتنافرتين والمتعاديتين سياسيا، والمتشابهتين في مخيلتهما التعبيرية، نشأ ما يسمى الأدب اللبناني المهجري، ورائده الأبرز جبران خليل جبران. سعيد عقل (1902 – 2014) والأخوان رحباني عاصي (1923- 1981) ومنصور (1925- 2009) وميشال طراد (1912 – 1998)، من رواد صوغ اختلاط ثقافة هاتين المخيلتين التعبيريتين، باللهجة المحكية لجبل لبنان، وهي مصدر ومادة “لغة” مجاز لبنان الفيروزي الفني التعبيري والشعري. لكن صوغ شعرية ذاك المجاز يكشف عن ظاهرة ثقافية وتعبيرية مسيحية لبنانية، رومنطيقية فُصامية: بعد انسلاخ المسيحيين الاجتماعي والمادي عن الأرض، وتركهم مواطنهم في القرى الريفية، وطلاقهم نمط الحياة الفلاحية والزراعية، وإقبالهم على الهجرة الداخلية والخارجية والتعليم والمهن والأعمال المحدثة… بعد هذا كله، صاغوا الوطنية اللبنانية في خطاب معنوي، أدبي رومنطيقي، عاطفي وجداني ولغوي، مداره ومدده التعلّق الشغوف بالأرض والريف، تمجيدهما والتشبث بهما والانغراس فيهما والحضّ على عدم هجرانهما، واعتبارهما الملاذ أو الحصن الوطني الأول والأخير. استغرقت الفنون الفولكلورية اللبنانية في مديح الأرض والموطن الأول وطبيعته الريفية، وفي الحض على التشبث بها والحنين إليها، وإلى نمط الحياة الريفية والافتتان والشغف بها. وهذا ليس وليد استمرار الإقامة والتوطن واتصالهما، بل على العكس ولّده الانتقال والانقطاع والانسلاخ والنزوح عن الأرض والموطن، تركهما وهجرانهما. لكن هذا كله ظل متأرجحا وملتبسا حتى بدايات الحروب الأهلية والإقليمية في لبنان (1975 – 1990). شكلت تلك التحولات الرحم التي وُلدت منها “وطنية لبنانية” ريفية ومسيحية المصدر الاجتماعي والثقافي والمخيلة وهذا مرآة فصام ثقافي رومنطيقي ملَكَ على كثيرين من الكتاب والشعراء والرسامين اللبنانيين المحدثين لغتهم التعبيرية والأدبية والجمالية. وهي لغة استرسلت في إضفاء هالات من السحر والتقديس والعبادة على الموطن والأرض والطبيعة ونمط العيش الريفي، بصفتها مادة الشعور الوطني اللبناني ومصدره. وقد تكرس هذا مذهبا تعبيريا لا يخلو من رجع شبه ديني وصوفي في تدفقه الوجداني الغزير والراعف. AFP / معجبون بفيروز يتظاهرون في بيروت دعماً لأيقونتهم 2010. لبنان الفيروزي الأرجح أن هذا يطابق الوطنية اللبنانية الفيروزية – الرحبانية التعبيرية المجازية، والمنطوية على مشاعر وعواطف وانفعالات وأحاسيس ذوقية حفرت بقوة في صدور فئات وأجيال متنوعة من اللبنانيين، ومن البلدان العربية. وذلك أكثر بكثير وبأشواط، من الوطنية اللبنانية الرسمية الجامعة الباردة، أي وطنية مؤسسات الدولة والنشيد الوطني والعلم اللبناني وعيد الاستقلال وسائر مكوِّنات عقد الجماعات اللبنانية الرسمي. ومن أسماء ذاك العقد، “الصيغة والميثاق الوطني” بين الجماعات الطائفية في البلاد. تكاد الوطنية هذه تكون لفظية، وخالية من المشاعر والانفعالات والعواطف الجيّاشة، سوى عند المسيحيين، والموارنة منهم تحديدا، الذين يعتبرون مؤسسي ما يسمى “الكيان اللبناني”. أما في وطنية لبنان الفيروزي فيحضر شغف جمالي بالطبيعة، وبالحنين إلى البراءة الريفية وزمن البطء الريفي القديم وصفائه. وعلى الرغم من بلوغ فيروز التسعين – و”من يعش ثمانين حولا لا أبا لك يسأمِ”، حسب شاعر إحدى المعلقات العربية الجاهلية، زهير بن أبي سُلمى – فإن لبنان الفيروزي على وسائط التواصل الاجتماعي اليوم، يزداد سحره والشغف به بريقا وألقا مشوبين بحنين أليم وجارف، كلما ازدادت المآسي والكوارث الطاحنة على لبنان البلاد وجماعاتها في الواقع المعيش. وهي (الكوارث والمآسي) صارت منذ العام 1975 لصيقة باسم لبنان، وكُرِّس وشاع مصطلح اللبننة لوصف مجتمعات الاحتراب الأهلي والإقليمي والخراب السياسي والاجتماعي والاقتصادي، والتي يعيش لبنان المتشظي اليوم فصلا من فصولها، وقد لا يخرج منه إلا ركاما بشريا تائها في العراء. أما الاعترافُ بأن لبنان بلدٌ صعب، قلق ومضطرب وهجين وهش التركيب الاجتماعي والسياسي والثقافي منذ نشأته العام 1920، فلا يترتب عليه أية عقلانية وحكمة سياسيتين. ولا يقلل (الاعتراف) قط من سحر صور لبنان الفيروزية في مخيلة اللبنانيين ومواطني البلدان العربية. وهو سحرٌ مسكون بذاك الحنين الرومنطيقي الأبدي، وشغوف بتلك الصور وبالتماهي المتطابق معها، والذوبان الكامل فيها. XAVIER BARON – AFP / ميليشيا “المرابطون” خلال الحرب الأهلية اللبنانية 1976. الحنين والابتهال الطهراني يعود للأخوين رحباني تدريب صوت فيروز وصقله واختيار نبرته وفضائه التعبيري، وكذلك صناعتهما شخصيتها الفنية النجومية. وهنا يتفوق دور زوجها عاصي على أخيه منصور. وشخصية فيروز النجومية التهمت التهاما تاما وحتى المحو الكامل الصبية الخجول والمتواضعة طبقيا واجتماعيا التي كانتها نهاد حداد. حدث الالتهام والمحو تدريجيا وبطيئا، ووفق خيارات عاصي الرحباني وقيمه الأخلاقية والاجتماعية والعائلية، طموحاته ومثالاته وتصوراته، لتحويل تلك الصبية المتواضعة المنبت الاجتماعي إلى نجمة غناء إذاعي. ثم نجمة مهرجانات مسرحية فولكلورية في لبنان والبلدان العربية والعالم. وكان لنجوميتها السينمائية نصيب في عدد من الأفلام. وعلى الرغم من بلوغ فيروز التسعين فإن لبنان الفيروزي يزداد سحره والشغف به بريقا وألقا مشوبين بحنين أليم استجابت صورة فيروز وشخصيتها النجوميتان، حضورها وصوتها، لطهرانية الحنين أو للحنين الطهراني الابتهالي، ذاك المنذور للوجد الصوفي الساحر. وهو وجد يعزّي ويواسي ويشفي من كل ما يتصل بتدافع تناقضات الواقع الحي المعيش وتناسله المضطرب. وكذلك من كل ما يترتب على ذلك من مشاعر وانفعالات متنازعة في صدور البشر، ما خلا تلك التي تجد تصريفها في طهرانية الحنين المتعالي والمتسامي في سحر الوجد الصوفي. على الصعيد الفني، الوضعي والزمني، كان الأساس في متطلبات بناء النجومية الفيروزية وتميزها، هو الابتعاد، بل الخروج عن الذوق الغنائي المصري السائد بقوة في الخمسينات. وكذلك عما يسميه كثيرون آنذاك، الذوق “البدوي” الشائع في “بلاد الشام”. أما الرحلة الفيروزية – الرحبانية التي يسميها كثيرون “لبننة” الأغنية والذوق الغنائي – أي ليصيرا لبنانيين ومصدر “لغتهما” ومخيلتهما وقيمهما الجمالية والأخلاقية في “الريف اللبناني” المتمدن – فكانت قد بدأت بمنح حليم الروحي (1919- 1983) نهاد حداد اسمها الفني، منذ التحاقها بكورس الإذاعة اللبنانية في العام 1950. ومن ثم تعريف الرومي منشدة الكورس بالملحن الإذاعي عاصي الرحباني، فاقترنا سنة 1954. توازي صناعة شخصية فيروز الفنية وصورتها النجومية بتعقيداتها، صناعة صورة لبنان الفيروزي الرحبانية، ما بين منتصف الخمسينات ومنتصف السبعينات، عندما بدأ لبنان ينهار أخيرا ويغرق في حربه الأهلية الإقليمية (1975- 1990). وشمل الانهيار الأسرة الرحبانية: انفصال فيروز عن عاصي، بعد إصابته سنة 1973 بجلطة دماغية عنيفة دمرت الكثير من حواسه وذاكرته وحساسيته الفنية. ولا تنفصل صناعة صورة لبنان الفيروزي، وصناعة نجومية فيروز الفنية وابتلاعها ومحوها الصبية الخجول المتواضعة نهاد حداد، عن تطور نمط العيش والقيم والذوق وأساليب التعبير والمشاعر والعلاقات العاطفية بين الجنسين في لبنان المعاصر. RAMZI HAIDAR -AFP / فيروز في مهرجان بيت الدين 2002. مؤسسة النجومية الفيروزية ونشأت لرعاية نجومية الظاهرة الفنية الرحبانية وصوتها الفيروزي الفريد، “مؤسسة استشارية” فنية من مثقفين وكتّاب وشعراء وصحافيين لبنانيين بينهم أصحاب خبرات فنية عربية، وخصوصا فلسطينية، لرعاية الظاهرة الفنية الجديدة ومسارها النجومي. والأرجح أن ما خاطب هؤلاء وحملهم على التحلق حول الظاهرة الجديدة، هو شغفهم بصوت فيروز “الملائكي”، الغريب بقَمَريّته الحالمة، الحزينة حزنا شفيفا ومعزيا، حسبما بدأ يصوغه الرحبانيان. وكان في طليعة المتحلقين الشاعر العظامي، عاشق الأمجاد والبطولة ولبنان الحضارة الفينيقية حتى الهوس شبه العنصري… سعيد عقل. وهو كان الراعي أو الركن الأساس في تلك المؤسسة الاستشارية. وقال مرة إنه أراد صناعة صورة فيروز الملائكية والأيقونية لتكون شبيهة بالسيدة مريم العذراء. أما الشاعر أنسي الحاج (1937- 2014) فكان في الستينات أشد الفيروزيين حماسة لفيروز وشغفا بها في تلك المؤسسة. وكتب مرة مقالة عنها في “ملحق النهار” الثقافي، عنوانها “أحبها بإرهاب”. وهناك كثرة من الشعراء اللبنانيين والعرب كتبوا قصائد في فيروز وصوتها، أو مرّ ذكرهما في قصائدهم. يعود للأخوين رحباني تدريب صوت فيروز وصقله واختيار نبرته وفضائه التعبيري، وكذلك صناعتهما شخصيتها الفنية النجومية وساهم لفيف تلك المؤسسة في صناعة صورة المغنية – النجمة الأيقونة، لتكون مطابقة لصورة لبنان بصفته وطنا مؤنثا، كما يؤنث في بعض بلدان عربية في طليعتها مصر، رغم أنه مذكر. والوطنية اللبنانية الرسمية قبل انفجارها وتشظيها في الحروب الأهلية الإقليمية المتناسلة، كانت خفيفة باردة وتقتصر على شعائر الدولة الرسمية. كما أنها لم تكن عضوية وتفتقد المشاعر الحارة والمتجذرة، إلا في بيئة المسيحيين اللبنانيين الذين أطلق حزبهم الأكبر والأقوى – “الكتائب اللبنانية” – شعارا موجها إلى المسلمين قال لهم فيه بدايات الحروب الأهلية “أحبوه (أي لبنان) أو غادروه”. وكان مؤسس هذا الحزب سنة 1936، بيار الجميل (1905- 1984)، لا يكف عن تكرار شعاره الذي يطابق صورة المرأة في الثقافات التقليدية: “لبنان قوي في ضعفه”. والشعار هذا ينطوي على دعوة العرب إلى تجنيب لبنان الهش والضعيف الزج به في صراعهم وحروبهم مع إسرائيل. وهكذا كانت صورة لبنان الفيروزية، أي وطنا في منتهى الهشاشة والجمال القمري الحالم في إحدى أغاني فيروز الرحبانية: “لبنان يا أخضر حلو عَ تلال/ يا حكاية القلب وحنين البال”. أو كما في أغنية أخرى: “نحنا والقمر جيران/ بيتو خلف تلالنا بيطلع/ من قبالنا يسمع الألحان”. وهو دائما على هذه الصورة الأيقونية الثابتة في الزمن، كمثل أسطورة سحرية وساحرة، مدارها التقديس والابتهال والعبادة. وقد يكون سعيد عقل أهم من صاغ هذه الصورة بلغة الفصاحة العربية الأصيلة في تجديدها: “لي صخرة عُلّقت بالنجم أعبدها، تلك لبنان”. وهو من قال في إحدى قصائده العظامية، كعاشق المجد والأمجاد: “أنا حسبي أنني من جبل/ هو بين الله والأرض كلام”. وهذا في ختام قصيدة مدح فيها دمشق الشام ومجدها، وغنتها فيروز في العاصمة السورية، ويقول أحد أبياتها مخاطبا دمشق: “أهلك التاريخ فضلتهم/ ذكرهم في عروة الدهر وسام/ أمويون فإن ضقتِ بهم/ ألحقوا الدنيا ببستان هشام”. صبايا الريف الخجولات لكن الفن الفيروزي – الرحباني شهد تحوّلات وتطورات من داخل منظومته الفنية والتعبيرية، في استجابة داخلية لتغير الذوق وقيمه الجمالية من جيل إلى جيل. وذلك تماشيا مع تجدد التقنيات والأساليب الفنية والتعبيرية، والأدوات الموسيقية وفنَّي التلحين والغناء، والحساسية السمعية البصرية… وهذا كله لا ينفصل عن تغير وتطور أنماط العيش والحياة اليومية وأشكال التخاطب العاطفي والتعبيري عن الانفعالات والمشاعر. Hasan MROUE – POOL- AFP / فيروز تشدو في مسرح أثينا التاريخي 2007. وكان هناك مصدران اجتماعيان وثقافيان أساسيان متجاوران ومتداخلان في بعض وجوههما، لتلك التطورات والتغيرات التي استُدخلت في الحساسية الشعرية والموسيقية الرحبانية، وفي صناعة صورة شخصية فيروز النجومية. والمصدران هما: مجتمع جبل لبنان الريفي شبه المتمدن جراء احتكاكه بقيم التعليم الغربي، أقله منذ نيله حكما ذاتيا سُمّي “نظام المتصرفية” في العام 1860. مجتمع الانفتاح والخليط المديني البيروتي، منذ تأثر نخب المدينة وفئاتها المتوسطة بالتحديث الغربي والثقافة الغربية، قبل إعلان بيروت عاصمة ولاية عثمانية في العام 1888. وفي صناعتهما الفن الفيروزي وشخصية فيروز النجومية، شذّب الرحبانيان وإلى جانبهما تلك المؤسسة الاستشارية النشيطة، تراث جبل لبنان الشعبي، فأخرجا منه تاريخه الاجتماعي المضطرب والمتدافع ونزاعاته الأهلية الدامية. ثم حولا ذاك التراث صورا فولكلورية بسيطة في رومنطيقيتها وفي أناقة حنينها المتعالي، الحزين والمعزّي، إلى طيب العيش وبراءته في الريف الذي تحوّل في الفن الرحباني – الفيروزي لوحات مرسومة بألوان مائية. ساهم لفيف تلك المؤسسة في صناعة صورة المغنية – النجمة الأيقونة، لتكون مطابقة لصورة لبنان بصفته وطنا مونثا وهي لوحات أو صور خالدة للزمن الهارب في صوت فيروز، الطالع من هروب الزمن والأعمار، كصدى مصنوع من نور قمري شفيف وظلال، ومن صفاء ماء الينابيع، ومن براءة صبايا الريف وخجلهن وانتظاراتهن العاطفية المشوبة بنداءات رغباتهن المتعالية عن الشهوة والمتعة البدنيتين الدنيويتين، وغير القابلتين للتحقق في مجرى تدافع الزمن والعيش، إلا في مؤسسة الزواج التقليدية. معجزة وقف الزمن أخيرا، كيف يُعاش اليوم ذلك الحنين الجارف والجريح إلى عالم لبنان الريفي في المجاز الرحباني وبالصوت الفيرزوي؟ على صفحتها في “فيسبوك”، تضرعت قبل أيام صبية لبنانية، فكتبت: “يا رب تنتهي الحرب لنتخلص من الاستماع القهري إلى فيروز”. وهناك كثيرون من أجيال سابقة – ذهبوا بعيدا في كهولتهم (وأنا كاتب هذه السطور منهم)، وبعضهم رحل عن عالمنا – سبقوا الصبية (يارا نحلة)، في عقود المرارات اللبنانية والعربية أيضا، إلى التوقف عن الاستماع إلى فيروز، مستبدلين بالحِداد الدائم والجفاء حنينهم إلى عالم أغانيها المجازي كله، ذاك الذي تليق تسميته “متحف البراءة”. لكن شاعرا لبنانيا كهلا، لا يزال يقيم على فيروزيته الثابتة منذ مراهقته، قال إن صوت فيروز، أو فيروز الصوت، هو/هي معجزة تُوقِف الزمن، مثل الشعر العظيم والموسيقى العظيمة. أما أنا، الفيروزي المراهقة النفسية والعاطفية والتعبيرية، فمن أين وأمثالي أن نوقف تدافع الزمن والأقدار المفاجئة الطاحنة، تلك التي تعصف بعالمنا وحياتنا العامة والخاصة وتطحنها، في كل يوم وساعة؟ لكن فلنختتم بالمقطع الأخير من أغنية فيروزية تعود إلى العام 1972، وقد تكون غادرت الحنين إلى متحف البراءة القديم، إلى ما يشبه عبثية من دون التخلي عن اللغة الرومنطيقية: “شو بيبقى من الروايه/ شو بيقى من الشجر/ شو بيقى من الشوارع/ شو بيقى من السهر/ شو بيقى من الليل/ من الحب من الحكي من الضحك من البكي/ من الناس اللّي حبّوا/ من اللَّوْعَة من الضَّجَرْ/ شو بْيِبْقَى من البَحْر/ من الصيف من الْـ مَضَى/ من الحزْن من الرِّضَى؟/ شو بيقى … شو بيقى … شو بيقى … يا حبيبي؟/ بيبقى قصص زغيري عم تشردها الريح”. المزيد عن: فيروز لبنان الموسيقى عاصي الرحباني منصور الرحباني الحرب الفن بيروت 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post العراق… الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟ next post من هي إيزابيلا بيتون أشهر مؤثرات العصر الفيكتوري؟ You may also like فيلم “مدنية” يوثق دور الفن السوداني في استعادة... 21 نوفمبر، 2024 البلغة الغدامسية حرفة مهددة بالاندثار في ليبيا 21 نوفمبر، 2024 من هي إيزابيلا بيتون أشهر مؤثرات العصر الفيكتوري؟ 21 نوفمبر، 2024 محمود الزيباوي يكتب عن: فيروز… من فتاةٍ خجولة... 19 نوفمبر، 2024 محمود الزيباوي يكتب عن: أسود منمنمة من موقع... 19 نوفمبر، 2024 براعة باخ في كونشرتوات براندنبورغ وأثرها الدائم 19 نوفمبر، 2024 في روايته الجديدة… أوبير حداد يصوّر الحرب بعيني... 19 نوفمبر، 2024 16 فيلم رعب تسببت بصدمة نفسية لممثليها 19 نوفمبر، 2024 العداوة والعدو كما فهمهما الفلاسفة على مر العصور 19 نوفمبر، 2024 قصة واحدة من أكبر الأكاذيب في تاريخ حكايات... 19 نوفمبر، 2024