يوهان فيرمير: بورتريه ذاتي (متحف فيرمير) ثقافة و فنون ما سر خلفية اللوحتين اللتين حيا فيرمير العِلم من خلالهما؟ by admin 25 أغسطس، 2024 written by admin 25 أغسطس، 2024 38 هل كان الفنان الكبير ابن مدينة “دلفت” الهولندية رساماً أم مخرجاً مسرحياً ابتكر “الميزانسين” وأبدع فيه؟ اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب من المؤكد أن ما من لوحتين لرسام واحد تستحقان معاً لقباً مشتركاً هو “اللوحتان التوأمان” (والأصح لغوياً، اللوحتان التوأم، لكن خطأ شائعاً لا يضير) بقدر ما تفعل اللوحتان اللتان رسمهما الفنان النهضوي الهولندي ابن مدينة “دلفت” يوهان فيرمير تباعاً في عامي 1668 و1669. وليس فقط لأنهما بالتالي وليدا المرحلة نفسها من مراحل نضوجه، وليس أيضاً لأنهما يحملان موضوعين متشابهين إلى حد التطابق وليس كذلك لأنهما متماثلان في المقاييس، علماً أن أولهما وعنوانها “الفلكي” توجد معلقة في متحف اللوفر الفرنسي فيما نجد الثانية، “الجغرافي”، معروضة في قاعات معهد الفن التابع للدولة في فرانكفورت الألمانية، بمعنى أن أياً منهما لا يوجد في وطن اللوحتين الأصلي. وهذا أمر لافت في حد ذاته ويدفع إلى التساؤل. غير أن الأهم من ذلك هو أن اللوحتين اللتين رسمتا في زمن متقارب تكشفان عن “ميزانسين” (أي إخراج مسرحي) لا يمكنه إلا أن يثير الدهشة. فالمقارنة بينهما، في ما عدا عن كونها تفيدنا بأن مقاييسهما متقاربة بشكل من الواضح أنه مقصود (45 سم عرضاً بارتفاع 51 سم للأولى، مقابل أكثر قليلاً من 46 سم عرضاً بارتفاع 53 سم للثانية)، تكشف لنا ما هو أعمق من ذلك. فعلى رغم اختلاف المهنتين إلى حد ما عن بعضهما بعضاً. ففي ذلك الحين لم يعد امتهان علوم الفلك وعلوم الجغرافيا أمراً واحداً خصوصاً أن الجغرافيا كانت قد باتت في السياق التجاري الهولندي فاعلاً سياسياً بل استراتيجياً بالغ الأهمية في حد ذاته. ومن هنا سيدهشنا أن الرسام استعان بنفس “الموديل” في رسم اللوحتين (وهو لم يكن موديلاً محترفاً بل عالماً حقيقياً بدوره) ثم رسم كلاً من اللوحتين في نفس الزاوية من زوايا بيته الذي لكثرة ما استخدمه في رسم لوحاته بات مألوفاً تماماً لمعتادي مشاهدة لوحاته! تبديل طفيف إذاً نفس الزاوية من الصالون ونفس النافذة وربما نفس الطاولة ولكن مع تبديل في توزيع الأثاث والديكورات يستجيب في كل لوحة لنوع وتفاصيل العلم الذي تعبر عنه إنما من دون أن يصحب ذلك أي تغيير في ألوان ثياب العالم المرسوم بحيث يبدو أن ذلك التطابق كان مقصوداً كما كان مقصوداً أن يبدو الأمر بالنسبة للناظر إلى اللوحتين وكأنه يشاهد منصة مسرحية جرت فيها تغييرات طفيفة يجب ألا تكون خفية كي تلائم كلاً من المشهدين المرسومين. وهي تبديلات تطاول الأكسسوارات الجانبية من دون أن تطاول ما هو أساسي. كأن توضع الكرة الأرضية في مركز الاهتمام على طاولة المكتب في أولى اللوحتين، لتركن بعد ذلك، في اللوحة الثانية على ظهر الخزانة التي من الواضح أنها هي ذاتها وفي المكان نفسه إلى جوار النافذة في اللوحة الثانية وهكذا. كما أن “الموديل” إذا يتأمل كالحالم ما يقوم به حاملاً بيكاره مشتغلاً على خرائط دونما حاجة إلى الكرة الأرضية في لوحة “الجغرافي” نراه في لوحة “الفلكي” ينظر بكل اهتمام وبصورة ميدانية إلى نفس الكرة الأرضية التي لم تعد في حاجة إليها كما يبدو في لوحة “الجغرافي”. ولعله يكون محقاً ذلك الدارس للوحتين حين يخلص هنا بالتحديد إلى أن ثمة ما يبدو خطأ في عنونة اللوحتين وذلك من خلال التأمل الحالم الذي يبدو على محيا الجغرافي وهو يشتغل على موضوعه، والتأمل العلمي الميداني الذي يلوح عليه في اللوحة الأولى التي تصف لنا عمله كفلكي. فما الحكاية هنا؟ أسئلة لا إجابات عليها في الحقيقة أن أياً من الباحثين في فن فيرمير والمشتغلين خصوصاً على هاتين اللوحتين، لم يتمكن من الوصول إلى جواب شاف يتعلق بهذا الموضوع في وقت كان فيه دائماً إجماع على أنه ليس ثمة أي خطأ في توزع العنوانين. ومهما يكن من أمر سنتوقف هنا عند إجماع من نوع آخر يتناول هذه المرة الفكرة الإجمالية المتعلقة بهذا الاهتمام بالعلم في لوحتي فيرمير هاتين. فبالنسبة إلى تلك المرحلة البالغة الأهمية من التاريخ الاجتماعي الهولندي التي وضعت عنها دراسات بالغة الأهمية في العصور الحديثة، كان العلم قد بدأ يحتل مكانة عملية بعد انفصاله عن الفلسفة في المراحل السابقة. فالجغرافيا والفلك، وقد باتا العلمين الرئيسين في هولندا المركانتيلية التي راح ازدهارها ينمو من خلال التجارة البحرية والاستيراد من مناطق الهند الشرقية والعالم الجديد المكتشف حديثاً بخيراته العميمة، صارا مسألة حيوية في حياة ذلك المجتمع وما لوحتا فيرمير هاتان سوى انعكاس للأهمية التي باتت الجغرافيا والفلك يحتلانها في الوفرة الاقتصادية المستجدة. من هنا كان من الطبيعي لفنان مغرق في “الواقعية” كفيرمير أن يعبر عن العلم بقدر تعبيره عن شؤون المجتمع وفنونه. العالم والمسرح والمرصد ففيرمير من مرصده لما يدور حوله انطلاقاً من مدينته دلفت، كان من الطبيعي له أن يرسم ما يتعلق بالعلمين الرئيسين المتعلقين بالسفر ومن هنا أتت “الفلكي” و”الجغرافي” المرسومتان في حقبة واحدة، لتكشفا عن المكانة المهمة لهذا النوع العملي من العلوم في حياة المجتمع، كما أسلفنا، مستعرضة كيف أن رجال العلم قد باتوا من مفاخر المجتمع الجديد. ولا بد أن ننقل هنا عن دارسي عمل فيرمير ما يتعلق بسؤال أساسي كان يطرح باستمرار من حول هاتين اللوحتين تحديداً يتعلق بما إذا كان الرسام قد اشتغل عليهما معاً منذ البداية كعملين متكاملين أم إنه اشتغل عليهما كعملين مستقلين عن بعضهما البعض تماماً. لوحة “الجغرافي” لفيرمير (1669) (متحف فيرمير) ومع ذلك لم تفت أياً من الدارسين العلاقات القوية بين اللوحتين لا سيما واقع أن “الموديل” فيهما واحد ولقد رجح كثر من الباحثين أن “الموديل” ربما يكون العالم أنطوني فان ليفينهوك الذي كان معروفاً بكونه من أصدقاء فيرمير المقربين بمعنى أنه قد يكون هو من فاتح الرسام بإنتاج هاتين اللوحتين مع أنه هو نفسه لم يكن في الحقيقة لا جغرافياً ولا فلكياً، بل كان عالماً خبيراً في تصنيع وضبط المجاهر علماً أن الصداقة بين الرجلين جعلت ذلك البروفيسور يتولى تنفيذ وصية فيرمير لدى رحيل هذا الأخير. ومن هنا ومن دون أي أثر لوجود ما هو مصطنع في أي من اللوحتين، يمكن الحديث عن نوع من “ميزانسين” تعاون الرجلان في تنفيذه في اللوحتين كنوع من التحية من قبلهما لجانب أساسي من جوانب الاهتمامات المتجددة في الحياة الهولندية. المسرح شاهد ولأننا لسنا هنا أمام ما يصح اعتباره “بورتريهاً” بالمعنى الحقيقي للكلمة يفضل الباحثون دائماً الحديث عن غياب هذا النوع الفني في اللوحتين وهو ما قيل دائماً في ما يتعلق بالعدد الأكبر من لوحات فيرمير إذ يندر التعرف على شخصية تحضر في اللوحة انطلاقاً من كينونتها الحقيقة. فـ”الفتاة ذات اللؤلؤة” ليست في الحقيقة سوى خادمة صبية في بيت الرسام. والنساء المرسومات كربات بيوت أو عاشقات أو عازفات أو حتى فتيات هوى في لوحات أخرى للفنان لسن سوى من أهل بيته وقفن أمامه للقيام بأدوار رسمها هو لهن طالباً من كل منهن القيام بدورها الذي حدده هو من دون أن يعكس ما يفعلن حقاً في الحياة. لوحة “الفلكي” لفيرمير (1668) (متحف فيرمير) ومن هنا الحديث بصدد فيرمير عن كونه، بقدر ما هو رسام مجتهد ومجيد عرف كيف ينقل على لوحاته مشاهد من الحياة الاجتماعية الكاشفة عن التحولات المدهشة التي كان بلده يعيشها في تلك المرحلة المفصلية من تاريخ البلاد الواطئة وذلك غالباً في داخل بيته وربما في الزوايا نفسها من ذلك البيت مستخدماً أهل البيت وخدمه وربما الجيران والبنات والأبناء والأصدقاء على شكل ممثلين يؤدون أدواراً رتبها هو وأخرج مشاهدها ما يجعله واحداً من أوائل المخرجين المسرحيين في أوروبا إلى جانب كونه رساماً كبيراً. ولعل هاتين اللوحتين تعكسان ذلك الواقع بأكثر مما تفعل أي لوحات أخرى من إنتاج هذا الفنان الذي لم يعش طويلاً على أية حال بل عاش فقط 43 سنة، بين عامي 1632 و1675، ولئن كان قد أنتج عدداً كبيراً من اللوحات خلال تلك الحياة القصيرة فإن عدداً كبيراً من لوحاته قد ضاع بحيث لم يصلنا من إنتاجه سوى عدد يرى كاتبو سيرته أنه لا يمثل في الحقيقة سوى جزء ضئيل من إنتاجه الفعلي. المزيد عن: يوهان فيرميرهولنداجغرافيافلكفرانكفورتألمانيامتحف اللوفرميزانسينالفلك 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post وودستوك من منظور جديد: ما الذي حل بحلم الهيبيين؟ next post ندى حطيط تكتب عن: في مئويته… بالدوين لا يزال الضحيّة والشاهد You may also like أهم إصدارات الكتب في بريطانيا لنوفمبر 2024 15 نوفمبر، 2024 “بناء العقل الثاني” يواجه أخطار التكنولوجيا وإدمان الإنترنت 15 نوفمبر، 2024 مهى سلطان تكتب عن: التشخيص والتجريد يتآلفان في... 15 نوفمبر، 2024 عندما لاعب التلفزيون الذكي كاسباروف على رقعة الشطرنج 15 نوفمبر، 2024 غريملينز يحول فوضى فيلم “درجة ثانية” إلى نجاح... 15 نوفمبر، 2024 فلسطين حاضرة في انطلاق مهرجان القاهرة السينمائي 14 نوفمبر، 2024 أنجلينا جولي تواجه شخصية ماريا كالاس في فيلم جديد 14 نوفمبر، 2024 المسرح الباريسي يتذكر شوينبرغ من خلال 12 حياة... 14 نوفمبر، 2024 الكنز المفقود… ماذا يخفي نهر النيل؟ 13 نوفمبر، 2024 سيمون فتال: السومريون أنتجوا أجمل الفنون وهي الأساس 13 نوفمبر، 2024