الخميس, نوفمبر 28, 2024
الخميس, نوفمبر 28, 2024
Home » لماذا لم يلتق فلوبير بفلورانس نايتنغيل خلال تلك الرحلة المصرية الفاتنة؟

لماذا لم يلتق فلوبير بفلورانس نايتنغيل خلال تلك الرحلة المصرية الفاتنة؟

by admin

 

الكاتب والممرضة معاً من دون أن يدريا على متن سفينة سياحية تمخر صفحة النيل الهادئ

اندبندنت عربية \ إبراهيم العريس باحث وكاتب

الزمان: شتاء عام 1949. المكان: متن سفينة سياحية تشق طريقها بكل هدوء على صفحة نهر النيل في مصر. الحدث: لا حدث على الإطلاق. بل حتى ولا لقاء استثنائياً على ظهر تلك المركب. كل ما في الأمر أن ثمة بين الركاب شاباً وامرأة سيصبح كل منهما لاحقاً، سيداً في مجاله وربما سيأسفان كثيراً حين يعرفان أنهما كانا معاً على ظهر المركب في الوقت نفسه، لأنهما لم يتعارفا. وهما لن يتعارفا على الإطلاق بعد ذلك. وليس فقط لأنهما إنجليزية وفرنسي من النمط الذي لم يكن من السهل عليه أن يبادر، بل لأنه لم يكن ثمة ما يجمعهما. فهو يتطلع إلى أن يكون كاتباً كبيراً، بينما هي تأمل في أن تصبح ممرضة. هو لأنه يريد – ومن دون أن يعرف كيف – أن يثوّر الكتابة الروائية الفرنسية، وهي لأنها تريد أن تثور فن التمريض على الصعيد العالمي. إنها تعرف كيف لكن ذويها لا يريدون لها إلا أن تتزوج لتصبح ربة بيت لا أكثر. كانت هي في الـ29 واتخذت قرارها بأن تكون رحلتها المصرية تلك نقطة انعطافية في حياتها تقرر بعدها أي طريق ستسلك. وهو كان في ريعان شبابه يريد أن يبرأ من الخيبة التي سببها له نشر روايته الأولى “إغواء القديس أنطوان”، إذ نصحه أصدقاؤه بعدم تكرار تجربتها بل الانصراف نهائياً عن الكتابة، لأنها ممارسة لم يخلق لها.

معاً على متن السفينة

كان غوستاف فلوبير إذاً على متن سفينة تقوم برحلة سياحية في ذلك الشتاء الوديع فوق صفحة نهر النيل، وكانت فلورانس نايتنغيل رفيقته في الرحلة من دون أن يلتقيا. ومهما يكن، ما كان من شأنهما أن يلتقيا، فهي كانت تستغل كل وقفة للسفينة كي تغادرها لتتمتع بالبر المصري وآثار هذا البلد وفتنته، كما ستقول في مذكراتها. أما هو فسيفضل دائماً البقاء في السفينة فإن غادرها لساعات فإنما لكي يزور الملاهي وبيوت الهوى لا أكثر. لكن ما سيجمعهما على أية حال هو أن تلك الرحلة ستغير حياة كل منهما بصورة جذرية: هو سيتخذ قراره بألا يتخلى عن الكتابة “على رغم كل شيء” وبهذا ستولد لديه خلال تلك الرحلة بالذات، بذور الرواية الكبرى التي سيصدرها بعد سنوات قليلة، “مدام بوفاري” التي بالفعل ستثور الفن الروائي لكنها ستبدل حياته جذرياً حتى وإن كانت الشهرة التي ستمنحها له، شهرة فضائحية أول الأمر (اتهام الرواية بالإباحية والتعدي على الأخلاق ومحاكمتها وما إلى ذلك من الحكاية المعروفة)، أما هي فإن مصر ستربطها بعالمي الشرق والإسلام إلى درجة ستكون معها حرب القرم التي ستشارك فيها كممرضة، طريقها لتحقيق مشاريعها التجديدية في عالم التمريض. ولئن كانت زيارة فلوبير إلى مصر مجرد فعل نقاهة بالنسبة إلى الكاتب الفرنسي الشاب في ذلك الحين، فإن تلك الزيارة نفسها كانت بالنسبة إلى فلورانس رحلة العمر. “البداية الحقيقية لحياتي” كما ستقول لاحقاً، مضيفة أن الاختلاط بالمصريين علمها كيف تحب البشر. والحقيقة أن فلورانس اختلطت بالمصريين في القاهرة وعلى طول مجرى النيل، واختلطت بهم بشغف جعلها ذات مرة تتنكر كرجل مرتدية ثياب الرجال على الطريقة الشرقية كي تدخل إلى أحد مساجد القاهرة وقت الصلاة. وروت كيف كادت تدفع ثمن تلك المغامرة غالياً.

غوستاف فلوبير (1821 – 1880) (غيتي)

على اسم المدينة

والحال أن مؤسسة فن التمريض الحديث ستظل تحكي عن رحلتها المصرية تلك طوال حياتها التي تواصلت مدة 90 سنة (فهي المولودة في مدينة فلورنسا الإيطالية عام 1820 لترحل في لندن عام 1910، علماً أن أباها الذي علمها بنفسه سماها على اسم المدينة الإيطالية التي شهدت ولادتها)، وتقول إن شيئاً واحداً ظلت تندم عليه طوال حياتها وهو عدم تعرفها على فلوبير خلال الرحلة. وهي قالت هذا طبعاً بعد سنوات وحين بات الكاتب واسع الشهرة فتنبهت إلى أنهما كانا رفيقي رحلة واحدة. أما بالنسبة إلى الكاتب فإنه لم يذكر الممرضة الشابة ولم يبد عليه أبداً أنه يتذكر وجودها على متن السفينة. فالسفينة النيلية كانت حينها تعج بالركاب من كل ملة وجنسية، يتدافعون لزيارة هذا البلد الذي كان في تلك السنوات بالذات يشكل هوساً أوروبياً حقيقياً. ومن هنا كانت الرحلة النيلية على صفحة النهر العظيم، كزيارة أهرام الجيزة والتوغل في مصر الفرعونية ولا سيما في جنوب البلاد، ناهيك بالتنقل في أرجاء “الفسطاط” (القاهرة الإسلامية القديمة)، كانت نوعاً من ممارسة حتمية لا بد أن يقوم بها كل أوروبي متنور بصرف النظر عن وضعه المالي أو الاجتماعي.

رحلة للارتداد على الذات

أما بالنسبة إلى فلوبير فكانت الرحلة، في تلك المرحلة في الأقل، نوعاً من النقاهة للارتداد على الذات بشكل يمكن الكاتب من أن يتلمس خطواته المقبلة. ولاحقاً سيكون هنا لتلك “الرحلة المصرية” بالنسبة إليه، بعد آخر يتمثل في التوغل، كما فعلت نايتنغل من قبله، في الآثار والمواقع المصرية، ولا سيما حين بات برفقة صديقه المصور مكسيم دي كار الذي التقط خلال زيارتهما المشتركة مئات الصور كما تبادل مع فلوبير نفسه، خلال مراحل تالية متنوعة، مئات الرسائل التي تحدث فلوبير في كثير منها عن شغفه المصري، ولكن بشكل عام أيضاً، عن ذلك الولع بالشرق الذي راح يستبد به وصولاً إلى كتابته عديداً من النصوص الطويلة والقصيرة، التي استلهمها من ذلك الشرق ولا سيما منها روايته “سالامبو” التي تدور أحداثها في قرطاجة وتبدو أقرب إلى الأدب الاستشراقي. ولعل في إمكاننا أن نقول إن هذا الهوى الشرقي كان هو أيضاً ما جمع بين فلوبير ونايتنغيل من دون أن يجتمعا حتى وإن كان تولد لديهما في الرحلة نفسها. فالممرضة لن يفوتها أن تشير لاحقاً في حياتها وبعد حرب القرم التي شهدت ولادتها الحقيقية كـ”عاملة في خدمة الإنسانية عن طريق التمريض، والتمريض العسكري خلال الحروب تحديداً”، إلى أن من فوائد رحلتها المصرية التي مكنتها مخالطة الشعوب الشرقية التي خالطتها، أنها “قربتني من الشرق إلى حد أنه لم يكن غريباً بالنسبة إلي أن أشعر بأية غربة لاحقاً، ولا سيما حين اخترت أن أعمل خلال حرب القرم في مستشفيات ومستوصفات تقع في الأراضي التركية كي أعتني بالجرحى المتساقطين خلال تلك الحرب”. ومن الواضح أن فلورانس نايتنغيل كان تعني بذلك أنها لولا التمهيد الذي قدمته لها الرحلة النهرية المصرية لما كان في وسعها أن تتآلف مع الشرق تآلفاً سهل عليها الإقامة لاحقاً في تركيا والاختلاط بالناس هناك من مرضى وممرضين وهي الإقامة التي نعرف أنها كانت حاسمة ليس في حياتها وحسب، بل كذلك في التجديد الذي طرأ على مهنة التمريض نفسها على يديها.

وخسر الكاتب روايته

فإذا أضفنا إلى ذلك التأثير الذي كان للرحلة المصرية على نايتنغيل، التأثير المختلف كلياً في تفاصيله ونتائجه طبعاً الذي كان للرحلة نفسها على الكاتب الفرنسي، يمكننا في الحقيقة أن نفهم كثيراً عن ذلك الهوس بمصر الذي أشرنا إليه أعلاه باعتباره لعب دوراً كبيراً في أواسط القرن الـ19 في الأقل، في ضخ الحياة الاجتماعية الأوروبية والثقافية بحيوية يمكن تعميم مجرياتها، فيما يتجاوز حالتي الكاتب والممرضة ليوصل إلى أعداد لا تحصى من حالات مماثلة لعبت خلالها مصر، سواء بفضل رحلة نيلية أو غير ذلك، دوراً بالغ الأهمية وربما على غرار ما حدث للأمبراطورة الفرنسية أوجيني التي شغفت بدورها بمصر خلال زيارة لها، وكان الكاتب المصري الراحل جمال الغيطاني من الفطنة بحيث كرس لحكايتها “المصرية” رواية قد لا تكون أهم رواياته، لكنها أكثرها طرافة. ولعل هذا يضعنا أمام سؤال لا مفر من طرحه هنا: ترى لو تعرف فلوبير على فلورانس على متن تلك السفينة أما كان من شأنها أن توحي إليه بنص روائي ما، وهو الذي كان شغوفاً بحكايات النساء الاستثنائيات؟

المزيد عن: غوستاف فلوبيرفلورانس نايتينغيلنهر النيلالكتابةالتمريضمصرأوروباالاستشراق

 

You may also like

Editor-in-Chief: Nabil El-bkaili

CANADAVOICE is a free website  officially registered in NS / Canada.

 We are talking about CANADA’S international relations and their repercussions on

peace in the world.

 We care about matters related to asylum ,  refugees , immigration and their role in the development of CANADA.

We care about the economic and Culture movement and living in CANADA and the economic activity and its development in NOVA  SCOTIA and all Canadian provinces.

 CANADA VOICE is THE VOICE OF CANADA to the world

Published By : 4381689 CANADA VOICE \ EPUBLISHING \ NEWS – MEDIA WEBSITE

Tegistry id 438173 NS-HALIFAX

1013-5565 Nora Bernard str B3K 5K9  NS – Halifax  Canada

1 902 2217137 –

Email: nelbkaili@yahoo.com 

 

Editor-in-Chief : Nabil El-bkaili
-
00:00
00:00
Update Required Flash plugin
-
00:00
00:00