ثقافة و فنونعربي لقاء استثنائي بين فرويد وسلفادور دالي في المنفى اللندني by admin 15 أغسطس، 2021 written by admin 15 أغسطس، 2021 35 جلسة ممتعة لكن الرسام خرج منها دون اعتراف المعلم به اندبندنت عربية \ إبراهيم العريس باحث وكاتب لعل عالم التحليل النفسي سيغموند فرويد لم يلتق عدداً كبيراً من الناس والمشاهير خارج إطار الزيارات الطبية والتحليلية المعتادة، بقدر ما فعل خلال العامين الأخيرين من حياته، اللذين أمضاهما في المنفى اللندني الذي كان وصله بمساعدة ماري بونابرت من ناحية وإرنست جونز من ناحية ثانية بعد ما غادر فيينا التي وقعت تحت سيطرة النازيين. وراحت كتبه تحرق فيها في احتفالات هتلرية صاخبة إلى درجة جعلته يعلق قائلاً، “آه كم تطورنا منذ القرون الوسطى. حينها كانوا سيحرقونني حياً أما الآن فإنهم يكتفون بإحراق كتبي!”. المهم أن أي يوم من أيامه اللندنية لم يكن ليخلو من زيارة أو أكثر يقوم بها أشخاص يتوقون إلى لقائه والتعرف عن كثب إلى الـ”هير بوفوسور” الذي كان ملأ دنيا العلم وشغل ناسها طوال عقود من السنين. الرسام السوريالي في حضرة المحلل النفسي من بين أولئك الزوار كان ثمة واحد لم تكن شهرته في ذلك الحين تقل عن فرويد وإن كان يصغره بنحو نصف قرن: سلفادور دالي، الرسام “السوريالي” الأشهر الذي كان قد طلب من الكاتب ستيفن تسفايغ الذي يعيش منفياً في لندن بدوره أن يطلب له موعداً مع مؤسس التحليل النفسي، هو الذي كان صديقاً مقرباً من فرويد واعتاد أن يصطحب أصدقاءه إليه في زيارات كان شرطها أن تكون سريعة وقصيرة إلى البيت الذي يقيم به فرويد في لندن. بعد تردد يومها وافق فرويد على استقبال دالي بصحبة تسفايغ وفي رفقتهما الشاعر الأميركي إدوارد جيمس. وحمل معه دالي لوحة كان يزمع إهداءها إلى فرويد ولم نعرف ما إذا كان أعادها معها هو الذي سيقول لاحقاً إن الزيارة لم تكن ناجحة. والحقيقة أنه لم يكن دقيقاً في ذلك الحكم بالنظر إلى أن كل ما حكي عن الزيارة، بما في ذلك مراسلة بين فرويد وتسفايغ بشأنها لاحقاً أن تؤكد أن فرويد نظر إليها بعين الجدية حتى وإن لم يكن قد تكلم كثيراً ليس بسبب نفوره من التبادل مع دالي، بل بسبب إصابته في فمه ستميته لاحقاً. لكنه كان مستمعاً من طراز رفيع وتحديداً بحسب ما روى دالي نفسه في بعض صفحات كتابه الذي أصدره بعد حين بعنوان “حياة سلفادور دالي السرية”. لقاءات فيينا الفاشلة منذ البداية حدث دالي العالم العجوز عن توقه القديم للقائه وهو توق جعله يتوجه إلى فيينا مرات عديدة لكنه لم يوفق في الوصول إلى منزل فرويد. وأكد دالي أن ذلك نابع من تبنيه التام في مجال الرسم لنظريات فرويد حول اللاوعي والأحلام وقد استقاها مباشرة من قراءته لمعظم كتب المعلم “على عكس السورياليين الآخرين” الذين تعرفوا على فرويد بالواسطة، لا سيما “بشكل أعرج” بواسطة أندريه بريتون. وهنا انفرجت أسارير فرويد كما يروي دالي؛ إذ اكتشف في لهجة الأخير نوعاً من النفور من بريتون الذي لم يكن هو يستسيغه، وأدرك أن دالي قطع علاقته بمؤسس السوريالية فأثنى عليه لذلك. وروى له كيف أن بريتون زاره دون موعد ذات مرة في فيينا طارقاً باب بيته فرفض استقباله فما كان منه إلا أن زعم لاحقاً أن فرويد قد سرق منه نظرية الأحلام. حينها ناول فرويد نسخة كان أتى بها معه من مقال سبق له هو أن نشره حول اللاوعي. وهنا، بحسب ما يروي دالي، “حدث أمر غريب. فقد أمسك فرويد بالأوراق دون أن ينظر إليها ولو لثانية وأخذ يحدق بي دون أن تظهر على وجهه أي ملامح خاصة. ورحت أنا أشير إلى الأوراق التي بين يديه محاولا لفت نظره إليها لكنه لم يتوقف عن التحديق بي وكأنني غير موجود. شعرت أنه يدرسني لكنه بدا في الحقيقة وكأنه غائب عن الوعي. وحين نبهته، أخيراً، إلى وجودي وحديثي بلفتة لطيفة بدا وكأنه قد استعاد وعيه، فيما كنت لحظتها منهمكاً في رسم كليشيه بعد الآخر له”. نقل الإعجاب كتابة إلى تسفايغ والحقيقة أن ذلك التأمل الذي من الواضح أن دالي لم يفهم سره في تلك اللحظة بالذات، يمكننا أن نفهم سره من خلال رسالة سيبعث بها فرويد إلى ستيفن تسفايغ لاحقاً يشكره فيها على اصطحابه “ذلك الفنان الشاب الإسباني الذكي والمهذب” له قائلاً بالحرف “إن علي في الحقيقة أن أشكرك على المبادرة الرقيقة التي تمثلت في اصطحابك هذين الزائرين إلي في الأمس. فقد كنت في الواقع أنظر إلى السورياليين الذين جعلوا مني معلماً فكرياً لهم، بكونهم مجانين خالصين (أو مجانين بنسبة 95 في المئة كما حال الكحول الخالصة) أما هذا الشاب الإسباني الذي زارني بعينيه المرحتين كعيون غلاة المتعصبين وسيطرته الكاملة على تقنيته فإنه يرغمني الآن على إعادة النظر في موقفي هذا. فالحال أنه سيكون من المثير للاهتمام حقاً دراسة التكوين النمطي للوحة من هذا التيار، مع أن من وجهة النظر النقدية من المؤكد أن اللعبة الفنية لا تستقيم مع الشروع في مثل ذلك التحليل المتعلق بالرابط الكمي بين المادة غير الواعية والاشتغال الفني السابق للوعي. ومهما يكن فمن المؤكد أن المسألة هنا مسألة سيكولوجية أكثر مما هي فنية”. ويقيناً أنه كان من شأن مثل هذا الحكم الفرويدي أن يفرح دالي حتى وإن كان المعلم قد أكد له خلال حديثهما أنه سيظل يفضل فنون المعلمين الكلاسيكيين الكبار على هذه الفنون السوريالية الجديدة. ولعل في إمكاننا أن نفترض هنا أن ذلك التأكيد هو الذي جعل دالي يتراجع في اللحظات الأخيرة عن إعطاء فرويد لوحته التي كان يريدها أن تكون هديته له وهي لوحة تمثل “نرسيس” أمام صورته في الماء. وفي المقابل نعرف أن فرويد قد تقبل بكل ود وإعجاب عدداً من الإسكتشات التي التقطها دالي له خلال الجلسة. الفشل في مكان آخر وبعد ذلك كله سيكون من حقنا أن نتساءل عم جعل دالي يكتب لاحقاً أن تلك الزيارة أسفرت عن فشل ذريع مع أن كل ما أحاط بها وتمثل في تعليقات فرويد ووصف إرنست جونز وردود فعل ستيفن تسفايغ وبعد ذلك في ما كتبه الشاعر المرافق للزائرين يفيد أن ما من زيارة أشعرت فرويد في ذلك الحين بالسرور قدر ما أشعرته تلك الزيارة. وليس أدل على ذلك مما قاله الكاتب الأميركي بالفرنسية جوليان غرين لاحقاً في مجال استعادته للحكاية من أن “دالي راح يتحدث إلى فرويد بنفس التبجيل الذي يتحدث به المسيحيون إلى الأناجيل، هو الذي سيشعر بسرور مطلق حين أخبره تسفايغ أن فرويد قال له في صدده: أنا في حياتي لم ألتق إسبانياً يتسم بهذا القدر من النمط الإسبانيولي الخالص!”. مهما يكن من أمر فمن الواضح في نهاية المطاف أن دالي كان يأمل من الزيارة أن تقنع فرويد بإبداء قدر أكبر من الحماس تجاه فنه وربطه هذا الفن بعالمي الأحلام والوعي الباطني. ويبدو أن فرويد لم يتردد في أن يقول له ذات لحظة وقد حاصره دالي طالباً منه رأيه في ما عرض أمامه من أعماله، “أنا أيها الشاب أبحث عن اللاوعي في لوحات كبار الفنانين بينما أجدني أبحث في لوحاتك عن الوعي نفسه”. وعلى الرغم من الغموض الذي يكتنف هذا الجواب ويجعله يبدو كنوع من التهرب من جانب فرويد، شعر دالي بشيء من المهانة هو الذي كان يزور فرويد ساعياً خلف نوع من اعتراف المعلم به، ليس فقط كرسام “فرويدي” بل كذلك كباحث خارج إطار الممارسة الفنية. ولكن كانت خيبته في هذين المطلبين كبيرة، ولم يخرج من زيارته للعالم الكبير بأكثر من لحظات ممتعة ونظرات مبهمة وكلمات إطراء تحيي الجانب الإسباني في شخصيته. المزيد عن: فرويد\لندن\سلفادور دالي\علم النفس\ستيفن تسفايغ 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post السودانية البريطانية ليلى أبو العلا تواجه الإسلاموفوبيا بالحب next post لبنان يدخل رسميا مرحلة الانهيار “الجهنمي” على وقع أزمة المحروقات You may also like بودلير وهيغو… لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم... 27 نوفمبر، 2024 شوقي بزيع يكتب عن: شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد... 27 نوفمبر، 2024 محمود الزيباوي يكتب عن: ماجان القديمة …أسرارٌ ورجلٌ... 27 نوفمبر، 2024 «سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد 27 نوفمبر، 2024 محمد خيي ممثل مغربي يواصل تألقه عربيا 27 نوفمبر، 2024 3 جرائم سياسية حملت اسم “إعدامات” في التاريخ... 27 نوفمبر، 2024 سامر أبوهواش يكتب عن: “المادة” لكورالي فارغيت… صرخة... 25 نوفمبر، 2024 محامي الكاتب صنصال يؤكد الحرص على “احترام حقه... 25 نوفمبر، 2024 مرسيدس تريد أن تكون روائية بيدين ملطختين بدم... 25 نوفمبر، 2024 تشرشل ونزاعه بين ثلاثة أنشطة خلال مساره 25 نوفمبر، 2024 Leave a Comment Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment.