ثقافة و فنونعربي كيف استطاع الماركيز دو ساد التربع على عرش الـ”سادو مازوشية” في السينما by admin 25 أكتوبر، 2022 written by admin 25 أكتوبر، 2022 19 الكاتب والفيلسوف الفرنسي يمتلك قوة تأثير لا تنضب على صناع الأفلام على رغم تجربة حياته المنحرفة والغارقة بالفضائح اندبندنت عربية \ جيفري ماكناب باشر فندق فخم في فرنسا قائم بموقع القلعة القديمة العائدة ملكيتها للماركيز دو ساد بفتح أبوابه أمام السياح للقيام بجولات تعريفية في أرجائه خلال ما يُعرف بـ “الأيام التراثية” Heritage Days. ويقع الفندق المذكور في قلب بلدة مازان بمنطقة بروفانس على مسافة 20 ميلاً [33 كيلومتراً] فقط من آفينيون، وهو يحوي 31 غرفة ومكتبة وممرات محجوبة وردهة استقبال فاخرة ومخادع وحدائق شاسعة. والمكان يبدو باذخاً لكنه لا يتخطى المألوف، فالحيوانات الأليفة مرحب بها في أرجائه وشبكة الإنترنت تعمل كما ينبغي، كما جاءت المراجعات التي كتبت عنه إيجابية ومجاملة. والمرء لا يكتشف التاريخ السري لـ “قصر مازان” إلا عندما يقرأ الكراسة الصغيرة المتعلقة به، إذ إن الفندق كان ملجأ للماركيز المنحل والفاسد دو ساد حين كان يمضي وقته خارج باريس، وقد قام الأخير في إحدى المرات بتنظيم مهرجان مسرحي في هذه الحدائق الفسيحة. على أن الأمر لا يتعلق بما إذا كان مهرجان الماركيز تحول إلى حفلة عربدة أم لا، لكن ذلك بالتحديد، على ما يبرز الموقع الإلكتروني للفندق، هو ما يجعل “القلعة متجذرة في التاريخ”. وكما ذكرت محطة التلفزة الفرنسية “فرانس 3” الشهر الفائت “لو بوسع الجدران أن تتكلم لروت قصص تفصيلية عن ليالي الماركيز الملتهبة”. كذلك فإن “قصر مازان” الذي بني سنة 1715 كان أيضاً المكان الذي ولد فيه كل من والد الماركيز دو ساد وعمه آبي دو ساد الذي قام بتعليم الماركيز دو ساد طوال ست سنوات، وخلال الثورة (الفرنسية) وصف دو ساد بـ “غير المرغوب فيه” في مازان وتعرض القصر للأضرار. لقد عاش الماركيز دو ساد (1740 – 1814) حياة مليئة بالفضائح، واتهم بالفجور الجنسي وباصطياد النساء والأطفال، وقضى ردحاً كبيراً من حياته محتجزاً في السجون ومصحات الأمراض العقلية، لكن على رغم هذا فإن الفندق لم يجد أي حرج الشهر الفائت في استقبال الزوار بمقر عائلة الماركيز، المكان الذي سبق واستخدم أيضاً مدرسة دينية ومركزاً للتقاعد، وبذلك غدا الماركيز طعماً مناسباً لاصطياد السياح واجتذابهم، علماً أنه بعد مرور 208 أعوام على وفاته يستمر في شق الآراء، فهو لبعضهم لا يزال رجلاً خليعاً عنيفاً ومنحلاً تتملكه رغبات وحشية، ويبقى لآخرين مفكراً سياسياً وثقلاً أدبياً وازناً بالدرجة الأولى بفضل كتاباته التي وضعها وهو قيد التوقيف، مثل كتب “جوستين” Justine و”120 يوماً في سدوم” The 120 Days of Sodom، و”فلسفة في حجرة النوم”Philosophy in the Bedroom، كما يمكن رصد تأثيراته في ما كتبه فلاسفة وأكاديميون كثر من رولان بارت إلى ميشال فوكو وصولاً إلى إل جايمس في سلسلة كتب “ظلال الرمادي الخمسون”. وفي السياق ذاته يبقى صناع الأفلام عاجزين عن الاكتفاء من الماركيز، فالعديد من رواياته جرى اقتباسها للشاشة الكبيرة، كما كان الماركيز موضوعاً لعدد هائل من أفلام السيرة الذاتية والوثائقيات والأعمال الإباحية، إذ اعتبر قديس الـ “سادومازوشية” في السينما. كذلك أغوي عدد كبير من الممثلين والمخرجين بالماركيز دو ساد، فظهرت خلال الستينيات والسبعينيات وحدها عشرات الأفلام المقتبسة من أعمال هذا الفرنسي الخليع والفظ. ممثل صموئيل بكيت المفضل باتريك ماغي لعب دور الماركيز في الفيلم الذي أخرجه بيتر بروك سنة 1967 بعنوان “مارات/ساد” Marat/Sade وهي صيغة سينمائية لعمله المسرحي الشهير المستند إلى نص للكاتب الألماني بيتر فايس Peter Weiss، والأخير تخيل دو ساد في فترة متقدمة من حياته كزعيم مختل يشرف على مجموعة من النزلاء في مصح تشارينتون للأمراض العقلية، وهم يقدمون مسرحية لجمهور من البرجوازيين تروي قصة قتل القائد الثوري الفرنسي جان بول مارات على يد شارلوت كورداي التي أدت دورها غليندا جاكسون حين كانت في عز شبابها. التزم بروك التزاماً شديداً بنص الكاتب الألماني فلم يحاول حتى التصرف بالقصة كي تماشي متطلبات الشاشة الكبيرة، لكن عبر وضع الجمهور السينمائي في قلب المصح وإظهار دو ساد ومجموعته لهم من مسافة فظيعة ومروعة، فقد مد بروك الفيلم بكثافة افتقرت إليها الصيغة المسرحية، وما ساعد في الأمر هو أن خطوط الصدع والانقسامات في فرنسا سنة 1808 كانت محاكية على نحو لافت للانقسامات التي شهدتها الولايات المتحدة وأوروبا بعد 160 سنة، إذ اتسمت الإحالات إلى العنف الثوري بثقل مضاعف في آواخر الستينيات المضطربة والمحيرة التي اعتبرت حقبة للثقافة المضادة، وتشارلز مانسون [زعيم طائفة ومجرم مدان] وصيف الحب، كما أن ماغي لعب دور دو ساد بشخصيته الخبيثة العبوسة التي تستمد متعة منحرفة مما تتسبب به من فوضى وانحلال وعبث. وفي أعقاب “مارات/ساد” ظهرت اقتباسات عدة لأعمال الماركيز مستفيدة من أجواء التساهل والتسامح المستجدة، وجاء في السياق اقتباس جيس فرانكو لرواية دو ساد “جوستين” (1969) بأداء الممثل الألماني المزاجي والمميز كلاوس كينسكي الذي لعب شخصية دو ساد بطريقة رومنطيقية كحالم وشاعر. كو ستارك، الصديقة الحميمة السابقة للأمير البريطاني أندرو في الاقتباس البريطاني الرديء عام 1977 لرواية “جوستين” (موفي ستار/شاترستوك) كما قامت الممثلة كو ستارك، الصديقة الحميمة السابقة للأمير [البريطاني] أندرو، بلعب دور البطولة في فيلم كريس بوغير الذي شكل سنة 1977 صيغة بريطانية رديئة من رواية “جوستين”، ولقد لعبت ستارك دور فتاة ساذجة بريئة ونبيلة المقاصد تنجر إلى حياة في منتهى الرذيلة والانحطاط، وفيما تكابد تلك الفتاة ما راحت تعيشه تبحر شقيقتها الماكرة جولييت (ليديا ليسلي) في قلب حياة الرذيلة من دون مواجهة أي عقاب تجاه سوء أفعالها. “ما من امرأة عانت أكثر منها” كُتب على ملصق الفيلم، وكأن معاناة جوستين مثلت نقطة الترويج الأساس، وقد عرض الفيلم بالتزامن مع عرض فيلم إباحي آخر هو “أورجي عطلة نهاية الأسبوع” Weekend Orgy، بطولة نادين بيرليس. اقتباس آخر من الرواية نفسها صنعه المخرج الفرنسي كلود بيرسون بفيلم عنوانه “انتهاكات جوستين” (1974) The Violation of Justine الذي ظل يعرض في الصالات البريطانية لسنوات عدة، أما النقاد من جهتهم فاتخذوا مواقف سلبية تجاهه واعتبروه “صيغة بورنو مملة للغاية”، إذ “تتلقى بطلته البريئة وقوية البنية أليس آرنو العقاب بأشكاله الشائعة”، بيد أن ذلك لم يوقف المحبين عن شراء التذاكر. وفي ذلك الوقت كانت الاقتباسات عن دو ساد قد بلغت كماً كبيراً، لكن المفارقة في الموضوع تمثلت في أن أعماله بالأساس غير قابلة للتحول إلى أفلام، فكتبه شديدة الفحش لدرجة أن كل من يحاول اقتباسها على نحو يحترم الأصل يرجح أن ينتهي في السجن، مثل الماركيز دو ساد. المحلل النفسي الألماني والباحث في قضايا الجنس إيفان بلوخ (1872 – 1922) أعاد اكتشاف دو ساد ونشر روايته غير المنجزة “120 يوماً من سدوم” 120 Days of Sodom واعتبر من المقدرين لأعماله، ويكتب بلوخ عن “العبقرية المثابرة” التي تميز بها دو ساد وعن الغنى الفلسفي في رواياته، لكنه اعتبر أيضاً أن كتب دو ساد “لا تزال مثيرة للاشمئزاز وكريهة ومنفرة لكل شخص حتى للأكثر تحرراً وانحلالاً، وأعتقد أنه سيكون من الصعب إيجاد شخص بالغ السوء قادر على عدم الارتعاد أمام بعض المشاهد والشخصيات في [جوستين] أو [جولييت]”. ومن ناحية أخرى في مقاربة أعمال دو ساد ثمة أيضاً العناصر العملانية، فقد كان لدو ساد مخيلة منحرفة على نحو مذهل، لذا من الصعب جداً تصوير بعض المشاهد بالغة التطرف في رواياته، مثل تلك المتعلقة بشخصيات يعدد بلوخ فظائعها التي منها “شرب دم والتهام خصيتي الصبية من ضحاياهم، وأكل البراز وممارسة الجنس مع الحيوانات والجثث وحتى مع التماثيل، أو إدخال الشموع المشتعلة في فتحات الأجساد. تصوير هكذا أفعال يتطلب براعة أمهر المصورين السينمائيين وفناني المؤثرات الخاصة، ولا أحد قد يود مشاهدة هكذا مواد مقززة على أي حال. أما بالنسبة إلى الأبعاد الفلسفية في أعمال الماركيز فهي أيضاً تطرح تحديات كبرى، إذ في سلسلته الـ “بورنوغرافية” المؤلفة من 10 أجزاء مثل “جوستين” والعمل المرافق لها “جولييت”، تمكن دو ساد من اقتطاع بعض الوقت من سردياته ليقدم آراء في العلم والأدب والسياسة، وهذه ببساطة مواد تتخطى ما يمكن تقديمه في فيلم مدته ساعتين. وحاول بعض المخرجين الوفاء لروحية الماركيز دو ساد وتقديمه على نحو معمق، والأبرز في هذا الإطار ربما هو المخرج الإيطالي بيار باولو بازوليني باقتباسه لـ “سالو أو 120 يوماً من سدوم” Salo, or the 120 Days of Sodom الذي ظهر سنة 1975 بعد أسابيع قليلة من مصرع بازوليني على يد عامل في الدعارة، وتخيل بازوليني وقائع فيلمه في إيطاليا بدل فرنسا بحقبة ما قبل الثورة، ومع ذلك فإن قصته حول ما كان يقوم به الفاشيون من عمليات تعذيب وقتل بحق المعتقلين الشباب في قصر أنيق عكست مجمل فظائع مخيلة دو ساد، وقد رفضت “الهيئة البريطانية لتصنيف الأفلام” (BBFC) منح الفيلم رخصة للعرض بذريعة فحشه البالغ، وحين عرضت نسخة كاملة منه بناد سينمائي خاص في لندن قامت الشرطة بدهم المكان وصادرت النسخة المعروضة. لكن من سخرية القدر أن رئيس الـ BBFC جايمس فيرمان كان من المعجبين بفيلم المخرج الإيطالي، وقد رأى أن بازوليني كان يكشف “الفظائع التي يمكن للجنس البشري أن يقترفها عندما تمارس السلطة المطلقة على نحو فاسد”. هذا ما أراده بازوليني ربما، لكن الفيلم انتظر أكثر من 20 عاماً كي يمنح رخصة عرض في المملكة المتحدة. فيلم آخر حاول وبدوافع مختلفة جداً أن يأتي وفياً بقدر الإمكان في تقديمه للمرتد الفرنسي، وهو فيلم السيرة الذاتية المعنون “ماركيز دو ساد” Marquis De Sade الذي أخرجه سنة 1994 ملك الاستغلال السينمائي [الأفلام التي لا تكترث سوى للربح المادي] جو داماتو، وأدى بطولته ممثل البورنو الإيطالي روكو سيفريدي، بيد أن هذا أيضاً لم يكن أكثر من فيلم جنس مثير قليل الاهتمام بأفكار دو ساد، إذ إن تلك الأفكار تبقى أساسية في سمعة الماركيز المستمرة حتى اليوم. “لقد قام دو ساد في استكشاف الخط الفاصل بين الإنساني وغير الإنساني بطريقة فريدة، وهذا بهرني على الدوام” قال المخرج الفرنسي بونوا جاكو الذي صنع في العام 2000 سيرة ذاتية معمقة وصادقة للماركيز بعنوان “ساد” Sade، حيث لعب دانيال أوتيويل دور الماركيز السجين، مظهراً إياه أستاذاً مسناً فصلته إدارة الجامعة عن التعليم بسبب أفكاره الراديكالية. أما فيلم “كويلز” Quills الذي أخرجه فيليب كوفمان سنة 2000 عن السنوات الأخيرة التي قضاها دو ساد محتجزاً في مصح تشارينتون، ولعب بطولته جيفري راش بدور الماركيز ومايكل كاين بدور طبيب أرسله نابليون إلى مصح الأمراض العقلية كي يحطم الماركيز، وكايت وينسليت بدور خادمة السجن التي تهرب مخطوطات الماركيز، فقد أصاب بالفعل نقاطاً جوهرية في سيرة الرجل. يبدأ الفيلم بواقعة إعدام امرأة بواسطة المقصلة أمام جمهرة صاخبة من الأوغاد، إذ إن نواحي العنف والوحشية في كتب دو ساد التي تحدث عنها المنتقدون كانت منتشرة آنذاك في المجتمع الفرنسي في كل الأحوال، ولم تكن فقط وليدة بنات الأفكار المحمومة في رأس الماركيز وخياله. على أن أهمية دو ساد حتى اليوم تكمن في الطريقة التي يستكشف بها حدود حرية التعبير والقول والرقابة، فهو يبقى شخصية مثيرة للشقاق وكتبه لا تزال محظورة في العديد من البلدان. قناة “سي أن أن” أشارت في تقرير حديث لها إلى أن بعض أعماله لا يباع في كوريا الجنوبية إلا ضمن أغلفة بلاستيكية مختومة للراشدين ممن هم فوق سن الـ 19، لكن من الناحية الأخرى قامت الحكومة الفرنسية سنة 2021 بدفع أكثر من 5 ملايين دولار لاقتناء مخطوطة الماركيز من كتاب “120 يوماً من سدوم” لمصلحة المكتبة الوطنية (الفرنسية)، حيث وصفت العمل المذكور بأنه “كنز وطني”. والأمر يعكس التناقض الذي يكتنف جولات “الأيام التراثية” السياحية والمتاحة في دارة عائلته على رغم استمرار اعتباره “أكثر الرجال انحلالاً في التاريخ”، وما يتيحه الفندق القائم في موقع قلعة دو ساد القديمة للزوار اليوم هو “السلام والسكينة والفخامة والسحر”، وطبعاً هذه أمور لن يجدها المرء في أي من أعمال الماركيز دو ساد ولا في الأفلام الكثيرة التي اقتبست منها. نشر في اندبندنت بتاريخ 14 أكتوبر 2022 © The Independent المزيد عن: الماركيز دو ساد\السادية\المازوشية\الأدب الفاحش\الأفلام الإباحية\السينما العالمية\بازوليني 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post داريو فو الفنان الإيطالي الذي جعل الخشبة في خدمة السياسات الأكثر راديكالية next post المغرب الكبير… إرث ثقافي واحد يتنازعه شركاؤه You may also like استعادة كتاب “أطياف ماركس” بعد 20 عاما على... 28 نوفمبر، 2024 تحديات المخرج فرنسوا تروفو بعد 40 عاما على... 28 نوفمبر، 2024 21 قصيدة تعمد نيرودا نسيانها فشغلت الناس بعد... 28 نوفمبر، 2024 الرواية التاريخية النسوية كما تمثلت لدى ثلاث كاتبات... 28 نوفمبر، 2024 بودلير وهيغو… لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم... 27 نوفمبر، 2024 شوقي بزيع يكتب عن: شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد... 27 نوفمبر، 2024 محمود الزيباوي يكتب عن: ماجان القديمة …أسرارٌ ورجلٌ... 27 نوفمبر، 2024 «سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد 27 نوفمبر، 2024 محمد خيي ممثل مغربي يواصل تألقه عربيا 27 نوفمبر، 2024 3 جرائم سياسية حملت اسم “إعدامات” في التاريخ... 27 نوفمبر، 2024