ثقافة و فنونعربي في وداع حسن عبد الله.. الغرق الأخير by admin 24 يونيو، 2022 written by admin 24 يونيو، 2022 33 “بتنا نخاف على من بقي من ذلك الجيل، جيل منظمة العمل الشيوعي، وجيل اليسار، كأننا نريد أن نتمسك بهم كي لا يأخذهم الزمن، كأننا مقيدون بهم، فللحياة مقاس خاص بلون الغرق يخرج منها الشعراء فارغين وساكنين كالكهوف لكن الكثير منهم يبقى معنا” العربي الجديد – ضفة ثالثة \ دارين حوماني قال الشاعر حسن عبد الله إثر وفاة الشاعر جوزيف حرب: “لا أذكر كلمة واحدة مما تحدثنا به؛ ولا بد من أن نكون قد اتفقنا على أن نلتقي مجددًا؛ إذ ليس من الممكن أن نكون قد افترقنا من دون الاتفاق على لقاء مُقبل… ولا بدَّ من أن نكون قد اتفقنا على اللقاء في بيته… وإلا فما سرّ هذا الإحساس بالنَّدم الذي أشعر به الآن لأنني أجّلت أكثر من مرّة مشروع ذهابي إلى هناك؟…”. قد تكون هذه الجمل إحدى أكثر الكلمات تمثيلًا لنا، لذلك الندم الذي يحدث مع أولئك الذين لا نصدّق خسارتهم، نشعر أنه كان يجب أن يكون ثمة لقاء، ثمة وصل، وصل كان يجب أن يكتمل ولم يكتمل، وهكذا رحل حسن عبد الله قبل أن أجري معه ذلك الحوار الذي أجّله مرارًا، لأنه كما قيل عنه “شاعر الظل”، لرغبته بالإقامة في الظل والعيش على الهامش، ولخطأ في تقدير أعماله وعدم تسويق نفسه كشاعر غنّى من قصائده مارسيل خليفة وأحمد قعبور وخالد الهبر.. شاعر لم يتوقف عن كتابة شذراته الشعرية حتى آخر أيام حياته. توفي صاحب “أجمل الأمهات” عن عمر يناهز 79 عامًا يوم الثلاثاء الفائت بعد صراع مع المرض. حسن عبد الله هو شاعر وكاتب ورسام من طراز نهر “الدردارة” في بلدته “الخيام”، هادئ وممتلئ بالعاطفة وبالعذوبة، وكأنه لم يكبر يومًا، وكأني به ذلك الصبي الشقي مع مراهقي البراري البريئة في قريته بقيادة “الماريشال تيتو”، لا يزال يفتش هناك عن الثمار بين الأشجار التي شكّلت الأساس للوحاته التشكيلية ولنقاء روحه الشعرية. يقول خلال افتتاح معرضه الوحيد “المقام الأخضر” عام 2017: “هذه اللوحات قادمة من ذاكرة الطفولة حيث كنت أعيش في بلدة محاطة بالاخضرار والمروج والحقول والأودية، ولا شك أن لوحاتي هي ترجمة للطبيعة في بلدتي الخيام”. ورغم أنه كان يرسم منذ طفولته ويعلّق لوحاته في الصف إلا إنه لم يقرر أن يكون رسامًا إلا عندما جاءت إليه الفنانة التشكيلية خيرات الزين بهدية عبارة عن ألوان الرسم وقالت له بحزم: “اُرسُم يا حسن: لقد أمضيتَ حياتك وأنت تنقّب في الأرض فماذا جنيت؟ لِمَ لا تحمل معولك وتتجّه إلى السماء؟”. كتب حسن عبد الله أكثر من ستين قصة للأطفال رغم أنه لم يتزوج ولم يكن له أطفال، وقد غنّى الفنان أحمد قعبور عددًا منها. منحته وزارة الثقافة المصرية عام 2002 جائزة عن مجمل أعماله الأدبية للأطفال، ونال عام 2012 جائزة الإبداع الأدبي في حقل أدب الأطفال من مؤسسة الفكر العربي، كما نال جائزة الشيخ زايد لأدب الأطفال في دورتها الحادية عشرة عن كتابه “صديق النجوم” في عام 2016. لكن ذلك المراهق الشقي الذي كتب الشعر منذ كان في الثانية عشرة من عمره، قصد بيروت عام 1964 ليدرس في دار المعلمين فشكّل ذلك العام تحولًا في حياته بعد لقائه بشعراء مجلة شعر، وشعراء مجلة الآداب، ثم سيشكّل جماعة “شعراء الجنوب” مع عصام عبد الله ومحمد عبد الله وإلياس لحود وجوزيف حرب وشوقي بزيع وغيرهم. ثم تم تعيينه أستاذًا في إحدى مدارس مدينة صيدا ليلتقي بمهدي عامل (حسن حمدان) ويتأثر بالشيوعية، لكنه لم ينتسب فعليًا لها، ويقول: “كنا موجودين في الحزب الشيوعي ولم يشعر بوجودنا أحد، وخرجنا ولم يشعر أحد بوجودنا أيضًا”.. وقد شكّل له اغتيال مهدي عامل عام 1987 صورة طبق الأصل عن اغتيال الوطن؛ يكتب في ديوانه “راعي الضباب” مستذكرًا “فاطمة” الفتاة التي كان يحبها، وكان مهدي عامل يحبها أيضًا: “مرّ مهدي ولم يرها/ مرّ بين الثلاثاء والأربعاء/ ثم اختفى/ وهو مهدي/ وهي الندم القارص العمر/ فكر بي ونهاني عن الشعر/ قلت له: إنها، ولنسيانها أنا أحتاج رطلًا من العضلات.. فاطمة/ وغياب عميق لمهدي كأن مات/ أما أنا/ فيقول الطبيب…/ قال لي/ قال لي/ بعدما جسّ صدري/ وحدّق في سقف حلقي/ وأصغى إلى وصلة من سعالي/ انتبه! قال/ أنت تموت رويدًا رويدًا”.. لشاعرنا أربع مجموعات شعرية هي: “أذكر أنني أحببت” (1978)، “الدردارة” (1981)، “راعي الضباب” (1999)، و”ظل الوردة” (2012)، وقد كتب مؤخرًا عددًا من القصائد على صفحته الفيسبوكية وفي جريدة الأخبار اللبنانية، قصائد كان من المفترض أن يصدرها في كتاب لكن الموت كان أسبق. “يكتب حسن عبد الله: “أغرب ما في الحياة/ هو تعاملُنا معها/ على أنها شيء مألوف!” و”كل حياة هي مأساة/ بما في ذلك/ حياة زهور الحقل”، هكذا تعامل شاعرنا مع الحياة دائمًا، كشيء غير مألوف، عاش وحيدًا بين زهور حقوله، محبًا للظل لذلك لم يأخذ حقه، وبقي حاملًا قلب الشاعر الصغير نفسه الذي جاء به من “الخيام”” بدا راعي الضباب منذ قصيدته الأولى متأثرًا باليسارية التي رافقته حتى الرمق الأخير دون أن يغيّر قناعاته. يقول في ديوانه الأول: “حفروا في الأرض/ وجدوا امرأة تزني/ ملكًا ينفض عن خنجره الدم/ حفروا في الأرض/ وجدوا فخارًا/ أفكارًا/ لحنًا جوفيًا منسربًا من أعماق البحر/ حفروا في الأرض/ وجدوا رجلًا يحفر في الأرض”. وفي قصيدته “أجمل الأمهات” التي غناها مارسيل خليفة يقول: “أجمل الأمهات التي انتظرت ابنها/ أجمل الأمهات التي انتظرتهُ/ وعاد/ عادَ مستشهدًا/ فبكتْ دمعتين ووردة/ ولم تنزوِ في ثياب الحداد/ لم تَنتهِ الحرب/ لكنَّهُ عادَ/ ذابلةٌ بندقيتُهُ/ ويداهُ محايدتان/ أجمل الأمهات التي عينها لا تنامْ/ تظل تراقبُ نجمًا يحوم على جثة في الظلام/ لن نتراجع عن دمه المتقدّم في الأرض/ لن نتراجع عن حُبِّنا للجبال التي شربت روحه/ فاكتست شجرًا جاريًا نحوَ صيف الحقول/ صامدون هنا/ صامدون هنا قرب هذا الدمار العظيم/ وفي يدِنا يلمعُ الرعب، في يدِنا/ في القلبِ غصنُ الوفاء النضير/ صامدون هنا، صامدون هنا باتجاه الجدار الأخير”. وقد كان موقف حسن عبد الله من مقاومة المحتل مبدأ ثابتًا لم يتبدّل: “جيم جيم، الجنوب، أو جبل عامل/ الجنة أو الجحيم/ الجنة عندما يكون لي/ والجحيم عندما يكون لعدوي”، و”الحشرة الذهبية الطائرة/ عندما انقض عليها العصفور الطائر/ بدت سعيدة… بأن تلتهم”! و”أدفع ثمن مواقفي أكثر مما أدفع ثمن طعامي وشرابي/ ها أنا أخيرًا حرّ بعد استقالتي من العمل/ إن ذلك يشبه عطسة حُبست طويلًا”، ومؤخرًا كتب: “غرب العالَم متوحش/ والشرق كذلك/ ومع ذلك، فلا يزال هناك من يقول/ بأنك لا تحتاج إلى السلاح في قبو بيتك/ من أجل الدفاع عن البيت/ وأن النشيد الوطني كافٍ”. عند رحيل الشاعر عصام عبد الله عام 2017 شعرنا أن مقاهي شارع الحمرا ببيروت فقدت دفعة واحدة أدباءها وفنانيها الذين رحلوا بالتتابع، انفرطت الطاولات، لم يعد من مكان واحد يجمعهم، وكأنه لم يعد من مكان لهم، والآن مع رحيل حسن عبد الله نشعر أن هذه الطاولات فرغت تمامًا من أصواتهم، لا بل أصبحنا نحمل في دواخلنا مقاهي فارغة ومظلمة.. يكتب المخرج والكاتب المسرحي يحي جابر على صفحته الفيسبوكية في رحيل حسن عبد الله: “صباحًا يموت الممثل خضر علاء الدين، مساءً يموت الشاعر حسن عبد الله. أجدني أول التسعينيات من القرن الماضي وبعد انتهاء الحرب الأهلية في شارع الحمرا في مقهى الويمبي المضاء مع مطعم بربر للمناقيش بزعتر قبل الشاورما. أجلس مساء نحتسي القهوة مع حسن العبد الله نتابع مشهد دخول الجمهور إلى مسرح البيكاديللي ليتفرجوا على ابن شوشو “آخ يا بلدنا”، ويحتدم النقاش حول ثقافة ما قبل وبعد الحرب الأهلية.. عصام محفوظ، نزيه خاطر، محمد العبد االله، موسى وهبة، غازي قهوجي، عصام عبد الله، داوود الرز، عادل فاخوري، عماد عبد الله، رياض الريس، عناية جابر، منى السعودي، رفيق شرف، أنسي الحاج، أمين الباشا، لقمان سليم، رضوان الأمين وكتار كتار، نناقش كل واحد على طاولة وكل طاولة تجد نفسها مائدة، وكل وليمة هي العشاء الأخير.. مسرح، شعر، سينما، لوحة، سياسة، فلسفة، غزل، ثم ننهض جميعنا لنتابع الجدل في حانة “الشي أندريه”، كاسك مش كاسك، بكرهك، بحبك.. كل هذا على رصيف الوجود في شارع كان اسمه شارع الحمرا، كان عاصمة بيروت التي كانت عاصمة لبنان الذي كان عاصمة العرب والعالم”، وكأن يحي جابر أراد أن يعدّ موتانا الذين رحلوا دون أن يتركونا، بتنا نخاف على من بقي من ذلك الجيل، جيل منظمة العمل الشيوعي، وجيل اليسار، كأننا نريد أن نتمسك بهم كي لا يأخذهم الزمن، كأننا مقيدون بهم، فللحياة مقاس خاص بلون الغرق يخرج منها الشعراء فارغين وساكنين كالكهوف لكن الكثير منهم يبقى معنا.. نحن جميعًا بلون الغرق وبلون الهزيمة حين يتعلق الأمر بالحياة والموت. وكتب عباس بيضون أكثر الكلمات وجعًا وتمثيلًا لخوفي الدفين حين قال “أحسستُ به خبرًا عن نفسي”: “البارحة وأنا أقرأ من قصيدة صور لم أكن أعرف أن شقيقتها صيدا تودع. القصيدتان كتبتا في نفس الوقت وكانتا تحملان ذات اللحظة وذات التطلب. لم يكن هذا هو اللقاء الوحيد بيننا. قاسمت حسن عبد الله بيته وقتًا بعد أن صار الاحتلال على أبواب مدينتي صور. أحببنا صديقتين كنا نلاقيهما في نفس البيت، ولم أستغرب أن يخلط واحد بيننا. لم نكن في يوم الشخص نفسه لكني بعد أن وصلني خبر حسن في ساعة من الليل أحسست به خبرًا عن نفسي. سأعيش بالطبع، في الآونة الأخيرة كنا قلما نلتقي، لكن لا أعرف، مع ذلك، كيف أكون بدون حسن عبد الله، كيف يكون العالم بدونه”. وكتب شوقي بزيع أيضًا على صفحته الفيسبوكية: “’الماء يأتي راكبًا تينًا وصفصافًا/ يقيمُ دقيقتين على سفوح العين/ ثم يعود في “سرفيس بيروت – الخيام”’ . بهذه الكلمات المؤثرة استهل حسن عبد الله قصيدته “الدردارة” قبل نيّف وأربعين عامًا، والآن قرر الشاعر الذي أهدى إلى الماء أعذب ما جادت به قرائح الشعراء من قصائد، أن يعود برفقته إلى الجذوع العميقة للينابيع الأم، حيث لا تملك الدموع أن تحاكي طهارة قلبه الطفولي، ولا تجد السهول ما يكفي من الانكسار الحنون لكي تنقل صوته إلى سنابل القمح. وداعًا يا أنبل الشعراء، وأغزرهم موهبة، وأكثرهم تواضعًا ونزاهة، وتعلقًا بالظلال.. وداعًا حسن عبد الله”.. يكتب حسن عبد الله: “أغرب ما في الحياة/ هو تعاملُنا معها/ على أنها شيء مألوف!” و”كل حياة هي مأساة/ بما في ذلك/ حياة زهور الحقل”، هكذا تعامل شاعرنا مع الحياة دائمًا، كشيء غير مألوف، عاش وحيدًا بين زهور حقوله، محبًا للظل لذلك لم يأخذ حقه، وبقي حاملًا قلب الشاعر الصغير نفسه الذي جاء به من “الخيام”، يقول: “لم أتعامل مع نفسي كأديب مثلما تعاملت مع نفسي في تلك الفترة. مع الوقت، ضعف لدي حسّ الأديب وتميّزه ورسالته”، وتلك الفترة هي فترة مراهقته، وربما هكذا يمكن أن نفهم هذا الشاعر المتواضع وأن نفهم رؤيته للحياة. “لم يحدث يومًا أن غرِقتُ/ في نهر أو بحر/ والمرات الكثيرة التي حدث فيها ذلك/ كانت هنا على اليابسة!”- كانت هذه الكلمات المستعادة من تمهيد ديوانه “ظل الوردة” آخر ما كتبه الراحل على صفحته الفيسبوكية قبل الغرق الأخير.. غرق لا يسعنا تصديقه وكأننا به يبحث في غيابه عن الحقيقة التي كتب عنها ذات يوم “الحقيقة تقيم في النصف المظلم من الإنسان، والترهات في نصفه المضيء”، وها هو يقرر أن يضع قلمه وريشته وأطفاله جانبًا ليرتاح في الفراغ المظلم من الكون. 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post محادثات “اللحظة الأخيرة” لبحث الإطار الدستوري للانتخابات الليبية next post وزيرة الطاقة الإسرائيلية: حقل كاريش “إسرائيلي” ونملك “شراكة استراتيجية” مع مصر You may also like أول ترشيحات “القلم الذهبي” تحتفي بالرعب والفانتازيا 17 نوفمبر، 2024 شعراء فلسطينيون في الشتات… تفكيك المنفى والغضب والألم 17 نوفمبر، 2024 “بيدرو بارامو” رواية خوان رولفو السحرية تتجلى سينمائيا 16 نوفمبر، 2024 دانيال كريغ لا يكترث من يخلفه في دور... 16 نوفمبر، 2024 جاكسون بولوك جسد التعبيرية التجريدية قبل أن يطلق... 16 نوفمبر، 2024 المخرج والتر ساليس ينبش الماضي البرازيلي الديكتاتوري 16 نوفمبر، 2024 الحقيقة المزعجة حول العمل الفائز بجائزة “بوكر” لهذا... 16 نوفمبر، 2024 فرويد الذي لم يحب السينما كان لافتا في... 16 نوفمبر، 2024 يونس البستي لـ”المجلة”: شكري فتح السرد العربي على... 15 نوفمبر، 2024 مرصد كتب “المجلة”… جولة على أحدث إصدارات دور... 15 نوفمبر، 2024