نشأت حركة "فرسان الهيكل" في زمن الحروب الصليبية، ففي البداية كان هناك نحو عشرة فرسان فرنسيين مع حاشيتهم يرافقون الحجاج من ساحل البحر المتوسط إلى مدينة القدس (أ ف ب) X FILE فرسان الهيكل… الحقيقة والأسطورة by admin 21 يوليو، 2024 written by admin 21 يوليو، 2024 94 هل من بقية باقية لهم حول العالم ولو في إطار من السرية؟ اندبندنت عربية لعل الحديث عن جماعة “فرسان الهيكل”، يأخذنا في مسارات ومدارات أزمنة غابرة والعودة لأكثر من 800 عام تقريباً، ولهذا تختلط الحقائق هنا مع الأساطير فيراهم البعض أرواحاً شجاعة كرست نفسها لهدف نبيل، هو حماية المقدسات المسيحية في الأراضي المقدسة أي في فلسطين التاريخية، فيما يراهم البعض الآخر خصوصاً من المؤرخين فريقاً من بين فرق جنود الحملات الصليبية، والتي هاجمت الشرق تحت عناوين دينية لعدة عقود. والشاهد أن الحديث عن “فرسان الهيكل” وربما يسميهم البعض “فرسان المعبد” أمر ليس باليسير، وبخاصة في ظل الصورة الذهنية التي رسمتها السينما العالمية لغالبيتهم عبر أفلام هدفها الربح، بأكثر من إظهار الحقيقة وبالأدلجة بما يفوق الحيادية. هل نحن أمام واحدة من الجماعات الظلامية السرية التي عرفها التاريخ الإنساني؟ السؤال يأخذنا إلى منطقة أكثر إثارة وبخاصة في ظل امتلاكها أمرين ربما يتناقضان، السياسة والقداسة في الوقت ذاته، مع الأخذ في عين الاعتبار أن السياسة عمل نسبي يمكن الخلاف والاختلاف من حوله، فيما القداسة شأن مطلق لا يقبل قسمة الغرماء ولهذا فإن تعدديته باطلة، ومن هنا يدور الكلام عن فرسان الهيكل بوصفهم أداة من أدوات الحرب الشرسة التي دارت رحاها في الشرق الأوسط من خلال تقاتل وتلاحم عرب وأوروبيين. هل ندعي أننا نملك الحقيقة الكاملة عن هذه الجماعة؟ بالقطع نتجاوز الحقيقة إن قلنا ذلك ولكنها محاولة لإعادة سيرة ومسيرة جماعة يبدو أنها لم تختف بالمطلق من فوق سطح الأرض، بل تبدو وكأنها كامنة في ثنايا وحنايا عدد من الدول والمؤسسات الكبرى أوروبياً وأميركياً. والمؤكد أن النقاش من حول فرسان الهيكل سيأخذنا حكماً إلى منطقة العلاقة بين هذه الجماعة والبابوية، فهل كانت هي من بارك قيام هذه الجماعة ومن ثم حرمانها ولعنها؟ السؤال مثير، ذلك أن أحفاد الفرسان القدامى يقاضون البابوية في هذا الأيام ويطالبون بتعويضات فلكية من الكرسي الرسولي. من أين للمرء أن يبدأ هذا الحديث الشائك؟ البابوية وعصر الرهبان المحاربين تبدأ القصة في زمن الحروب الصليبية، فخلال عام 1095 دعا البابا أوربان الثاني الفرسان المسيحيين الأوروبيين إلى التوقف عن القتال في ما بينهم واستعادة الأراضي المقدسة من المسلمين، وأدى خطاب البابا إلى تدفق آلاف الفرسان والجنود وقوة عاملة كبيرة داعمة عبر أوروبا، مما أدى إلى الاستيلاء على القدس عام 1099. غير أن هذه الجيوش لم تكن موحدة تحت فريق واحد متماسك، إذ تصرف عدد من الفرسان بصورة مخزية، وبالتأكيد لم يرتقوا إلى معايير الفروسية والصدقة حتى تجاه مسيحيي الشرق، فقد قتلوا منهم كما قتلوا من المسلمين. ونشأت حركة “فرسان الهيكل” في هذه المرحلة الزمنية بالتحديد، ففي البداية كان هناك نحو عشرة فرسان فرنسيين مع حاشيتهم يرافقون الحجاج من ساحل البحر المتوسط إلى مدينة القدس المقدسة وغيرها من المواقع في المنطقة، مثل بيت لحم وبيت عنيا والناصرة ونهر الأدرن. وكانت قوات الشرق المسلمة استطاعت تنظيم صفوفها بسرعة وبدأت باستعادة الأراضي في الفترة نفسها. وأدت انتصارات هؤلاء إلى الحملة الصليبية الثانية (1147- 1149) التي روج لها برنارد دل كليرفو، الراهب الدومنيكي صاحب مشروع الإصلاح الكنسي الشهير. وبحلول هذا الوقت أصبح واضحاً أنه من أجل أن يتمكن المسيحيون الأوروبيون من الحفاظ على قبضتهم على القدس والحفاظ على الممرات المؤدية إلى القدس آمنة، كان لا بد من إنشاء وجود عسكري أكثر تنظيماً واستمرارية. وفي ذلك الوقت غادر معظم فرسان الحملة الصليبية الأولى القدس ببساطة بعد الاستيلاء على المدينة عام 1099، وأصبحت تلك المجموعة من الفرسان الفرنسيين المرافقين بذرة فرسان الهيكل. عاملة في مجال الآثار تعرض سيفًا يُعتقد أنه من فترة الحروب الصليبية، في الموقع الذي تم فيه بناء كنيسة صغيرة لفرسان الهيكل بقلعة ليماسول التي تعود للقرون الوسطى، والتي تضم الآن متحف قبرص للقرون الوسطى (أ ف ب) من أين أخذ فرسان الهيكل اسمهم؟ الشاهد أنهم اتخذوا لهم هذا الاسم انطلاقاً من مقرهم الرئيس الواقع عند ما يسمونه “جبل الهيكل” في القدس، والذي يقطعون بأنه كان فيه هيكل سليمان قائماً منذ نحو 970 عاماً، ولهذا يطلق عليهم أيضاً اسم “فرسان المعبد” أي معبد سليمان نفسه. وضمت منظمة “فرسان الهيكل” في أوجها خلال قرون الحروب الصليبية نحو 300 فارس نذروا أنفسهم على ثلاثة عهود، وكان عدد من هؤلاء الفرسان في العشرينيات من عمرهم عندما انضموا إلى المنظمة، وكان من المفترض أن يكونوا غير متزوجين وخالين من الديون ومن أصل شرعي، وكانوا يرتدون دروعاً مطلية باللون الأبيض مع صليب أحمر بارز. وانضم إلى الفرسان ما يصل إلى 900 جندي من غير النبلاء وقاتلوا سيراً كمشاة لتكملة سلاح الفرسان. وكان هناك المئات غيرهم ممن نسميهم اليوم طواقم الدعم اللوجيستي، من حدادين وطباخات وحائكات ملابس وصناع أسلحة، وبدوا وكأنهم تنظيم ديني عسكري معاً يديرون أنفسهم بصورة تعاونية للغاية وكل شيء بينهم مشترك ومن غير ملكية خاصة، ويقودهم رئيس عظيم يختاره الفرسان المتعهدون في انتخابات مباشرة. هل من سمات أو صفات بعينها ميزت فرسان الهيكل في ذلك الوقت؟ منظر جوي يظهر قرية فينيكس القبرصية المهجورة التابعة لفرسان الهيكل (أ ف ب) انضباط عسكري وروحانية دينية خلف “فرسان الهيكل” في زمانهم الغابر كتيب يعرف بـ”قاعدة فرسان الهيكل” وهو شبه مدونة مفصلة تحكم السلوك اليومي لحياة الفارس منهم وكان لزاماً عليهم أن يعيشوا عيشة متقشفة، لا يتناولون اللحوم إلا مرات قليلة شهرياً باستثناء الأعياد لاعتبار أن اللحوم تفسد الجسد. وكان الفراء والملابس الفاخرة محظورين وكذلك كان الأمر بالنسبة للأحذية المدببة وأربطة الأحذية، لأن “هذه الأشياء البغيضة تنتمي إلى الوثنيين” في تقديرهم. وبطبيعة الحال كانت العفة أمراً لا بد منه، إذ كان يحظر على فرسان الهيكل تقبيل أية امرأة حتى أمهاتهم، وبحال انتهاك القواعد كان الفارس منهم يتعرض لعقاب صارم كالضرب أو النفي من الجماعة، أو عقوبات تحقيرية كتناول وجبات الطعام على الأرض. على أن المثير في المشهد على رغم هذه العيشة البسيطة أنهم كانوا فرساناً أشداء ومقاتلين محترفين، فخلال الحروب الصليبية كانت بعض قوات المسيحيين عبارة عن جيوش مبعثرة ذات تدريب ضئيل، لكن الأمر لم يكن على هذا النحو بالنسبة إلى فرسان الهيكل. وكانت جماعة “فرسان الهيكل” مدربة تدريباً عسكرياً عالياً وأصبحوا معروفين بقدراتهم على خوض المعارك والقتال بشراسة، وعملوا كقوة متقدمة في عدد من معارك الحروب الصليبية بما في ذلك معركة “مونتجيسارد” أو “تل الجزر”، التي دارت بين الأيوبيين ومملكة القدس عام 1177، وذلك عندما ساعدوا قوات مسيحية تفوق عددهم بصورة كبيرة في هزيمة جيش صلاح الدين. وربما كان جزء من هذه الشراسة نابعاً من التدين الذي سمح لهم برؤية كسر عهودهم كمصير أسوأ من الموت. كما كانت “قاعدتهم” تدعوهم إلى عدم التراجع أو الاستسلام أو الهجوم من دون أمر بذلك، وهي سمات ممتازة لأي جيش يحتاج إلى البقاء منضبطاً. ومن بين السمات المهمة التي ميزت فرسان الهيكل عن غيرهم من قوات الصليبيين، أنهم كانوا من التثقيف الدنيوي والترفع الروحي ما جعل منهم مفكرين استراتيجيين إضافة إلى كونهم مقاتلين متحمسين. وكان الفرسان ينصحون غيرهم من قوات الصليبيين بعدم القيام بأي فعل متهور كالدخول في معارك غير مخطط لها بصورة جيدة. أما الأمر الأكثر إثارة في تاريخهم فيتعلق بأنهم كانوا على علاقة ودية مع العرب المحيطين بهم خصوصاً أنهم كانوا يقدمون لهم خدمات طبية مجانية، وكثيراً ما شرحوا للعرب من حولهم أن فكرة الحرب فكرة رديئة لكنهم أجبروا عليها. وهنا تقول المؤرخة بجامعة ملبورن في أستراليا غيلمور برايسون “كان دورهم مهماً للغاية في توجيه الجنود القادمين من أوروبا للتو ومحاولة تهذيب أفكارهم العسكرية، وبطبيعة الحال لم يجعل هذا فرسان الهيكل مسالمين بأية صورة من الصور إذ أرادوا فقط بناء جيوش أكبر حتى يتمكنوا من سحق القوات الإسلامية بفعالية”. على أن أحد الأسئلة المثارة دائماً وأبداً هو كيف كانت علاقة فرسان الهيكل بالبابا والبابوية؟ الفرسان ومباركة البابوية أولاً تبدو علاقة “فرسان الهيكل” بالبابوية ملتبسة جداً، ذلك أنها حين نشأت على يد الفارس الفرنسي المدعو “هيوغز دي باينز” وبدعم من “بلدوين الثاني” حاكم القدس واجهوا انتقادات واسعة من بعض الزعماء الدينيين. غير أنه عام 1129 حصلت جماعة فرسان الهيكل على التأييد الرسمي من البابوية ودعم مطلق من المصلح البنيدكتي “برنارد دي كلايرفو”، الذي ألف نصاً يمجد فرسان الهيكل ويعزز نموهم ويحمل عنوان “في مدح الفروسية الجديدة”. ولعل البعض يتساءل عن السبب الحقيقي وراء الثراء الفاحش الذي عرف به أعضاء هذا التنظيم. ويبدو وراء ذلك أنه عام 1139 أصدر البابا إنوسنت الثالث مرسوماً بابوياً منح “فرسان الهيكل” حقوقاً خاصة، ومن بين هذه الحقوق إعفاؤهم من دفع الضرائب وسمح لهم ببناء مصلى خاص بهم ولم يخضعوا لسلطة أحد سوى البابا نفسه. وكان فرسان الهيكل يعقدون جميع مداولاتهم وتصويتاتهم في سرية تامة، وعندما كانوا يقاتلون المسلمين ويحمون الحجاج لم تكن هذه القضية تشكل مشكلة ولكن عندما انتهت الحروب الصليبية واستعاد المسلمون بصورة منهجية الأرض المقدسة وتفاوضوا على معاهدات لتوفير ممر آمن للحجاج المسيحيين، بدأ “فرسان الهيكل” يفقدون سبب وجودهم هناك. وأخيراً حين استولى الشرقيون على عكا عام 1291 انتهت الحملات الصليبية على الأرض المقدسة فعلياً، مما أدى لاحقاً إلى ما يمكن تسميته الفصل الأخير من تاريخ “فرسان الهيكل”. وكان تداخل السياسة والدين عاملين مهمين للغاية في الأزمات التي ستتراكم فوق رأس الفرسان مع عقد المشهد وبقوة مع البابوية، والتي ستقدم على ما لم يكن من الممكن تصوره من قبل..؟ ترانا عما نتكلم؟ نسخة من كتاب “تاريخ النظام العسكري لفرسان الهيكل: أو فرسان معبد القدس” لبيير دوبوي، الذي نُشر عام 1751، في معرض بجامعة بوزنان في بولندا (أ ف ب) الفرسان وأول نظام مصرفي عالمي لعله من الطبيعي القول إنه دائماً وراء ستار الدين ترتكب كثير من الموبقات والخطايا وهذا ما طال فرسان الهيكل، ولأنهم كانوا من الأثرياء حقاً فقد تركوا وراءهم في دولهم الأوروبية المختلفة ثروات كبيرة وعقارات واسعة باتت تدر عليهم أموالاً طائلة، ووجد فريق يدير تلك الأموال ببراعة. وأنشأ “فرسان الهيكل” شبكة مزدهرة من البنوك واكتسبوا نفوذاً مالياً هائلاً، وسمح نظامهم المصرفي للحجاج الدينيين بإيداع الأصول في بلدانهم الأصلية وسحب الأموال في الأراضي المقدسة. ومع نمو حجم “فرسان الهيكل” ومكانتهم أسسوا فروعاً جديدة في جميع أنحاء أوروبا الغربية. وفي ذروة نفوذهم امتلك “فرسان الهيكل” أسطولاً كبيراً من السفن، وامتلكوا جزيرة قبرص في البحر المتوسط، وعملوا كبنك أساس ومؤسسة إقراض للملوك والنبلاء الأوروبيين. وعطفاً على إعفائهم من الضرائب من قبل البابا “إنوسنت الثالث” جمع فرسان الهيكل التبرعات من جميع أنحاء أوروبا. وأعطاهم الملوك والملكات عقارات ضخمة، فعلى سبيل المثال ترك لهم “ألفونسو الأول” من أراغون ثلث مملكته في وصيته، وقدم أشخاص عاديون تبرعات في وصاياهم مما ترك للفرسان قطعاً صغيرة من الأرض تتراكم. وانتهى الأمر بالفرسان إلى امتلاك القلاع والمزارع وأسطول كامل من السفن إضافة إلى جزيرة قبرص، ومن الواضح أنهم لم يتمسكوا بهذه الممتلكات فحسب، بل استخدموها لتوليد مزيد من الثروة وتجارة المحاصيل والصوف والنبيذ في جميع أنحاء أوروبا، عطفاً على تأجير الأراضي. هل يمكن القول إن “فرسان الهيكل” هم أول من أنشأ نظاماً مصرفياً منذ 800 عام خلت؟ هذا وارد وبقوة خصوصاً أن الغرض الرئيس لهم هو حماية الحجاج المسافرين إلى القدس وكانوا على دراية تامة بالخطر الذي يشكله اللصوص في الرحلة الطويلة، لذا أنشأوا نظاماً للمساعدة إذ كان بإمكان المسافرين إيداع النقود في كنيسة المعبد في لندن والحصول على خطاب ائتمان يمكنهم من استردادها في القدس، كما قدموا عدداً من الخدمات المالية الأخرى للملوك والنخب. وفي القرن الثالث عشر حصلوا على جواهر التاج الإنجليزي كضمان لقرض، وعندما أراد الملك هنري الثامن شراء جزيرة أوليرون لم تكتف المنظمة بوساطة الصفقة فحسب بل جمعت أيضاً أقساطاً من الملك. واستخدمت وزارة الخزانة الفرنسية “فرسان الهيكل” كنوع من المقاولين من الباطن لعدد من الوظائف. وهنا يبدو التساؤل المطروح منطقياً، هل كان ولا بد أن يخاف البعض سواء من الإكليروس أي رجال الدين أو من العلمانيين أي المدنيين من السطوة والقوة اللتين بات التنظيم يمتلكهما، ومزجه بين القوة العسكرية والقوة المالية؟ وهل كان هذا الخوف بالفعل كافياً لينهي الأسطورة الخاصة بفرسان الهيكل مرة وإلى الأبد، أم أنها لا تزال قائمة متخفية ضمن عدد من المؤسسات السرية كالمتنورين والماسونيين، وبقية الأخويات المثيرة للحذر في التعاطي معها، وبخاصة في ظل المرويات التي تمتلك نوعاً من الحقيقة بدرجة أو بأخرى؟ كليمنت الخامس ونهاية الفرسان يعد عدد وافر من المؤرخين الكنسيين والمدنيين أن فرسان الهيكل بلغوا من أمرهم أنهم أضحوا بمثابة ماكينة صرف لأوروبا. وكان من الطبيعي جداً أن يستجلب هذا على رؤسائهم أعداء كثراً، كان أسوأهم فيليب الرابع ملك فرنسا ويعرف أيضاً تاريخياً باسم “فيليب الوسيم”، الذي حكم من عام 1285 إلى عام 1314 وكان دائم المحاولة للسيطرة على البابوية والكنيسة في فرنسا، وهو من فرض ضرائب باهظة على رجال الدين الفرنسيين من دون إذن بابوي. واستمر فيليب في الضغط على البابوية وهذه المرة في شخص البابا الضعيف “كليمنت الخامس” (1305-1314)، وكان يقيم في منطقة آفنيون الفرنسية وليس في روما كالمعتاد. وأشعل فيليب غضب كليمنت ضد فرسان الهيكل وبخاصة أنه كان غارقاً في الديون العسكرية، وفي محاولة منه للتهرب من السداد اتهم الملك الفرنسي فرسان الهيكل بخسارة الأرض المقدسة، وعدم الالتزام بمعاييرهم العالية. وللقضاء عليهم دفعة واحدة، واستغل فيليب الغموض الكامن وراء ممارسة فرسان الهيكل السرية واتهمهم بالسحر الأسود والشذوذ الجنسي، وتدنيس الصليب والقربان المقدس وخطط لاعتقال جماعي لفرسان الهيكل بين عشية وضحاها في أكتوبر (تشرين الأول) 1307. وعلى مدى الأعوام الأربع التالية تمت تبرئة جميع “فرسان الهيكل” تقريباً في محاكمات عقدت في جميع أنحاء أوروبا باستثناء فرنسا، إذ “اعترف” بعضهم بعد تعرضهم للتعذيب بارتكاب أشياء مثل البصق على الصليب أو إنكار المسيح أثناء طقوسهم السرية، غير أن عدداً منهم تراجعوا لاحقاً عن تلك الاعترافات، قائلين إنهم قالوا ذلك تحت وطأة الألم والتعذيب والخوف من الموت. وتم الفصل الأخير في المجلس الكنسي العام الذي عقد في فيينا بين عامي 1311 و1312، وكان فيليب الرابع مسؤولاً وحرص على حضور الأساقفة المؤيدين له فحسب وليس البابا كليمنت، إلى درجة شطب أسماء الأساقفة المناهضين للملكية من قائمة المدعوين، وحتى تحت ضغط الملك الفرنسي صوت الأساقفة بغالبية كبيرة ضد إلغاء “فرسان الهيكل” وقالوا إن التهم الموجهة إليهم لم تثبت. ولعب فيليب دوره مرة أخرى بالتهديد بالعنف ضد البابا، إذ ضغط على كليمنت لإدانة سلفه البابا بونيفاس باعتباره هرطوقياً، وكان ما أراده الملك الفرنسي حقاً هو التخلص من ديونه لفرسان الهيكل والاستيلاء على أصولهم. وسمح البابا كليمنت بدفع فرسان الهيكل إلى حافة الهاوية من خلال تبادل التهديد ضد بونفياس، مما من شأنه أن يعرض مكانته كخليفة بابوي للخطر. وعارض كليمنت أساقفته وقمع فرسان الهيكل استناداً إلى سلطته البابوية. ووبساطة شديدة كان البابا تعرض للتنمر من قبل الملك فاستسلم وأشاد كليمنت “بابننا العزيز في المسيح فيليب، ملك فرنسا الشهير”. وأضاف بصورة لافتة للنظر أنه “لم يكن يحركه الجشع، ولم تكن لديه أية نية للمطالبة بأي شيء من ممتلكات فرسان الهيكل أو الاستيلاء عليها لنفسه”. لكن بدل تسليم أموالهم وممتلكاتهم إلى فيليب أظهر البابا بعض الشجاعة وخصص أصول فرسان الهيكل لـ”فرسان المستشفى”، أولئك الذين سيعرفون تاريخياً لاحقاً باسم ” فرسان الأوسبتاليه” غير أن فيليب حصل على نصيبه بالطبع، وتحرر من الديون المستحقة عليه لفرسان الهيكل إذ لم يعد لهم وجود، ولكنه لم ينتصر بالكامل ذلك أن البابا كليمنت لم يحسم الأمر قط، بمعنى أنه لم يشر إلى ما إذا كانوا هراطقة ضد الإيمان، ولم يحكم عليهم بجرم روحي البتة. هل استيقظ فرسان الهيكل أخيراً من سبات 800 عام، وها هم يعودون إلى المشهد البابوي من جديد مطالبين بتصحيح الأخطاء التاريخية التي ارتكبت في حقهم؟ السيد الأكبر السابق لمنظمة فرسان مالطا، يسير في موكب مع فرسان مالطا الآخرين قبل انتخاب السيد الأكبر الجديد في 29 أبريل 2017 في مقر المنظمة في روما (أ ف ب) فرسان الهيكل يقاضون البابوية يبدو أن التاريخ عند البعض لا يموت، فخلال عام 2008 قامت مجموعة من الأشخاص الذين يدعون أنهم ورثة “فرسان الهيكل” الأسطوريين برفع دعاوى قضائية ضد البابوية، ووقتها كان الجالس على كرسي مار بطرس (كبير حواريي المسيح) البابا بندكتوس السادس عشر، مطالبين باسترداد أكثر من 150 مليار دولار عن الأصول التي استولت عليها الكنيسة الكاثوليكية قبل سبعة قرون، أي في زمن البابا كليمنت الخامس. هل المطلوب هو تعويضات مالية فقط؟ يبدو أن الأمر بالفعل أبعد من ذلك بكثير ذلك أنهم يريدون استرداد سمعة المنظمة، بعد أن تعرضت لنوع كبير من الظلم الأدبي والمعنوي من قبل تحالف الملك فيليب مع البابا كليمنت. وتقول فيونا جوفان التي كتبت الدعوى القضائية لصحيفة “ديلي تليغراف” اللندنية إن أسراراً كثيرة أحاطت بالحكم على فرسان الهيكل، وربما حان الآن وقت إماطة اللثام عن حقيقة المشهد. هل ما نشر في خريف عام 2007 كان هو السبب وراء محاولة تبرئة فرسان الهيكل من الاتهامات التي وجهت إليهم قبل سبعة عقود؟ خلال عام 2001 اكتشفت الباحثة الفاتيكانية باربرا فرايل في أرشيف حاضرة الفاتيكان وثيقة غير محفوظة في ملف أطلق عليها اسم “رق شينون”، وتحوي سجلات لمحاكمات فرسان الهيكل جرت باللغة اللاتينية وهي لغة الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في ذلك الزمان، وبالتحديد خلال الفترة ما بين عامي 1307 و1312. ونظراً لأهمية هذه الوثيقة تم إنتاج طبعة محدودة منها عام 2007 تحت عنوان “محاكمة ضد فرسان الهيكل”، تكلفت كل نسخة من النسخ الـ799 أكثر من 8000 دولار، وتم تقديم النسخ مجاناً للبابا بندكتوس. وتثبت مخطوطة شينون أن البابا كليمنت كان يعتقد على وجه اليقين خلال عام 1308 أن تهمة الهرطقة الموجهة إلى فرسان الهيكل لم تكن صحيحة، وربما كانوا مذنبين بجرائم أخرى أصغر لكن كليمنت لم يكن قوياً بما يكفي لحماية فرسان الهيكل من الفناء. وأخيراً خلال عام 1314 أحرق كبير فرسان الهيكل “جاك دي مولاي” حياً باعتباره مهرطقاً مرتداً. وجرى ذلك على رغم إقراره لاحقاً بأن الاعترافات السابقة في شأن الارتداد عن الإيمان أخذت منه تحت وطأة التعذيب، مما قطع ببراءته تالياً. ولم تكن هذه هي الدعوى الوحيدة التي رفعت ضد البابوية، فخلال عام 2023 رفعت جمعية “الفرسان السياديين لمعبد المسيح” الإسبانية التي تعد نفسها المنظمة الشرعية لفرسان الهيكل، دعوى قضائية ضد البابا فرنسيس أمام المحكمة مطالبة بإعادة الاعتبار للفرسان الذين حلهم البابا كليمنت عام 1312. ودعوى الأحفاد الإسبان إن كانوا أحفاداً بالفعل تكشف لنا عن أمر غريب، وهو أن كثيراً جداً من ممتلكات فرسان الهيكل تم تسليمه إلى منظمة “فرسان مالطة”، وهي جمعية أخرى لها أهداف مدنية وبعيدة من مجالات الحروب وإن كانت قريبة من حيث الشكل والملابس الخارجية والطقوس، غير أنها لا تحارب وغالب أعمالها في إطار المستشفيات وعلاج المرضى. أبعد من ذلك فإن الأحفاد أنفسهم يطالبون رسمياً السدة البابوية بالاعتراف بهم رسمياً كمنظمة أسقفية شخصية داخل الكنيسة الكاثوليكية، شأنهم شأن مؤسسات أخرى لا يقل الحديث عنها أو الجدل من حولها مثل “أوبوس داي”، والتي تعد المنظمة السرية الوحيدة المعترف بها داخل الفاتيكان بصورة قانونية على رغم غموضها البالغ. إضافة إلى ذلك فإن الجمعية التي نصبت نفسها خليفة لفرسان الهيكل تريد من بين أمور أخرى الفوز بحق بناء أماكن العبادة، والحصول على حيازة ملفات أرشيف الفاتيكان الخاصة بفرسان الهيكل، عطفاً على ضرورة الاعتراف بفرسان الهيكل من القرن الـ14 الذين قتلوا في سياق حظر المنظمة كـ”شهداء”. ووفقاً لبيان الدعوى يرى فرسان الهيكل أن مهمتهم المستقبلية هي إنشاء “جيش أو فيلق مسلح” يمكنه التدخل في النزاعات الدينية والتوسط بين الأطراف المتعارضة. هل هذه الدعاوى قابلة للتحقق؟ بالقطع لا، إذ لن يقوم الفاتيكان أبداً بتعويض هذه المجموعات، لأن أعضاءها لا يستطيعون إثبات أنهم من نسل فرسان الهيكل. أما التساؤل الذي ربما يستدعي منا قراءة مكملة فهو ماذا عن نسلهم وإرثهم وحضورهم حول العالم؟ أين يوجدون؟ وما الأدوار التي لعبوها في القرنين الماضيين، ولا يزالون يقومون عليها حتى الساعة؟ المزيد عن: فرسان الهيكلفرسان مالطةالحروب الصليبيةالبابا كليمنتالملك فيليب الرابعالقدسالفاتيكان 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post نانو بلاستيك وكيمياويات أبدية تخالط حليب الأمهات next post إعلام إسرائيلي.. تأكيد نجاح محاولة اغتيال ضيف والإعلان قريبا You may also like أحوال وتحولات جنوب لبنان ما بعد الهدنة مع... 24 نوفمبر، 2024 غسان شربل يكتب عن: صهر صدام حسين وسكرتيره... 24 نوفمبر، 2024 كارين هاوس: مساعدو صدام حسين خافوا من أن... 23 نوفمبر، 2024 حافظ الأسد كان قلقا من أن تلقى سوريا... 21 نوفمبر، 2024 غسان شربل يكتب عن: بن لادن استقبل مبعوث... 21 نوفمبر، 2024 من مول استهداف ملحق سفارة أميركا لدى بيروت... 17 نوفمبر، 2024 مرافق سفير بريطانيا لدى لبنان أنقذ الأميركيين من... 15 نوفمبر، 2024 بغداد: قصة مدينة عربية بُنيت لتكون عاصمة إمبراطورية... 15 نوفمبر، 2024 “إسرائيل الكبرى”… حلم صيف يميني أم مشروع حقيقي؟ 12 نوفمبر، 2024 الشرق الأوسط الكبير حلم أم كابوس؟ 7 نوفمبر، 2024