مشهد من "وأبحرت السفينة" لفلليني (1983) (موقع الفيلم) ثقافة و فنون عندما سخر فلليني بحنان من عالم الفن عبر سفينة الموت by admin 6 أبريل، 2024 written by admin 6 أبريل، 2024 149 رماد المغنية والبحر وصفوة المجتمع تحت مجهر أعظم مهرج عرفته شاشات السينما اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب قد لا يكون الفيلم الذي حققه المخرج الإيطالي فدريكو فلليني في عام 1983 بعنوان “وأبحرت السفينة”، واحداً من أكبر أفلامه، لكنه كان بالتأكيد فيلماً كبيراً في مسيرته، بل ربما كان الفيلم الذي عرف فيه أخيراً كيف يبتعد ولو بعض الشيء عن “سينما السيرة الذاتية” التي كان قبل ذلك من كبار مبدعيها في سينما العالم وأوصلها إلى أوجها عبر ما لا يقل عن نصف دزينة من أفلامه الأساسية (من “الحياة اللذيذة” إلى “فلليني روما” و”أماركورد”، وغيرها، مروراً طبعاً بـ”ثمانية ونصف”). ولكن هل تراه ابتعد حقاً عنها في “وأبحرت السفينة”؟ نظرياً الجواب هو “على الأرجح”، ولكن من الناحية العملية، أبداً بالتأكيد. ففي نهاية الأمر كان فلليني (1920 – 1993) من المبدعين الذين يؤمنون بأن الفنان الحقيقي ومهما كان مقدار موضوعيته لا يتقن سوى لغة الذات وسيلة لإيصال أفكاره. ولسوف نرى بعد سطور أن هذه اللغة هي المصدر الجوهري في هذا الفيلم الذي بصورة أو بأخرى يمكننا اعتباره وصية فنان كان يحدس دائماً بأن موته بات وشيكاً، ومن هنا نراه يتعامل مع فيلمه معتبراً إياه وصية يتركها لمتابعي سينماه، بل وصية يسلك فيها درب السخرية التي اعتاد أن يسلكها في نتاجاته الكبرى سخرية مرة تسخر هذه المرة من الذات، وربما دون أن يطبعها بذلك التحنان الذي اعتاد أن يطبع به نظرته إلى ذاته وشبابه. أما إذا تساءلنا ونحن نشاهد هذا الفيلم عن حضور مؤلفه ومخرجه فيه، فربما نجده في معظم الشخصيات مجتمعة، ولكن خاصة في الشخصية المحورية: مغنية الأوبرا الراحلة التي كان كل ما تبقى منها الرماد الذي تحول إليه جثمانها والذكرى الملتبسة التي تركتها بعد موتها. شاغلة الدنيا فالحال أن تلك المغنية التي يقدمها لنا الفيلم فنانة كبيرة تشغل هواة الموسيقى وأهل الفن والمجتمع بحضورها الرائع فيهما – كما حال ماريا كالاس بعدها بنصف قرن في الأقل – فإنها منذ مفتتح الفيلم تشغل صفوة المجتمع لدى موتها عشية اندلاع الحرب العالمية الأولى، بخاصة أنها كانت قد تركت في وصيتها تعليمات بأنها لا تريد أن تدفن، بل إن يحرق جثمانها فيتحول إلى رماد يتم نثره في عرض البحر بحضور نخبة من أصدقائها وزملائها، وكذلك بعض الحيوانات التي تعايشت معها خلال حياتها كما مع ثياب أدوارها الكبرى وما شابه ذلك. وما الفيلم في النهاية هنا سوى نوع من استذكار سيرة الفنانة من قبل أصدقائها ومحبيها، واستذكار أمور كثيرة كانت تواكب سنوات نجاحها. أما لماذا سيتم ذلك الاحتفال في عرض البحر؟ فلأن تلك الفنانة كانت تعشق البحر. وهي كانت تعشقه تماماً كما حال فلليني الذي سئل عندما عرض الفيلم عما إذا كان لرغبة المغنية في أن ينثر رمادها خلال تلك الجنازة و”المقبرة” البحريتين علاقة بمزاجه الشخصي؟ لم ينفِ ذلك مستشهداً حتى بتكرار وجود البحر بالفعل كمكان أثير في أفلامه الأكثر ذاتية – كما الحال في “الحياة اللذيذة” أو “لا سترادا” (الطريق)، بل حتى الظهور المدوي للباخرة الفاشية “الركس” في واحد من أقوى المشاهد الختامية في سينماه “أماركورد”، وصولا طبعاً إلى الحضور الكلي للبحر في سينماه في “وأبحرت السفينة”. ومهما يكن من أمر فإن السؤال حول هذا الأمر جعل فلليني في حينها، وربما في نوع من الاستكمال في عملية تفسير الأمر يقول إن تبرير “مجموع المصادفات” التي تحكم ولادة فيلم من الأفلام لديه قد يبدو عصياً على المبدع، مضيفاً “إنكم بهذا السؤال تجبرونني على أن أكرر أن ولادة فيلم بالنسبة إليَّ إنما ترتبط أول ما ترتبط بتوقيع العقد مع المنتجين وقبض “عربون” سأكون عاجزاً عن رده بعد لحظة القبض التي اعتبرها لحظة سحرية. لحظة يستحيل فيها عليَّ مثلاً أن أزعم عدم المبالاة حين يفتح المنتج محفظته الجلدية ليظهر كل تلك الشيكات التي تحمل اسمي مع الوعد بتسليمي إياها تبعاً لما سأنجزه منذ تلك اللحظة، شئت هذا أن أبيته. من ثم فإنني حين أبدأ بتحقيق الفيلم لا يعود لديَّ أية رغبة في رد العربون. الحقيقة أنني ما بدأت بقول هذا كنوع من الجواب عن سؤالكم، إلا لتوضيح أنني أنتمي إلى تلك الفئة من المبدعين الذين يحتاجون إلى من يدفع لهم أتعابهم كي ينجحوا في تحقيق شيء ما”. فدريكو فلليني خلال تصوير “وأبحرت السفينة” (موقع الفيلم) موت نجمة وأضاف المبدع يومها قائلاً، “وهذا ما يقودني إلى إخباركم بأنه لا وجود للحرية التامة أو الاستقلال في عالمنا الفني. من ثم فإن ما أقدمه إنما هو مزيج يجمع بين مزاجي الشخصي وما يمكنني أن أقبل منه بما يوافق عليه أصحاب المال”. والحقيقة أن هذا المزيج كان نوعاً من غلالة مبتكرة تخفي وراءها بشفافية قد يفوت كثراً إدراكها، علاقته هو الشخصية بتاريخه وبالفن وبما عاشه وسيعيشه بعد عبور الحدث الذي يصوره، بعده الموضوعي متمثلاً في موت نجمة كبيرة وضروب التكريم التي تخص بها من قبل الصحافة وعالم الاستعراض وصفوة المجتمع. وهو ما كان في الحقيقة يتصور، كما سترى الأقلية المقربة التي أدركت الطابع الذاتي لهذا الشريط وعلاقته بالموت المتوقع، ثم الفعلي لمبدع يصر هنا على محاسبة ذاته والتعبير عما يمكنه الآن، وقد “انتهى كل شيء”، أن يقول إنه شكل حياته بحسناتها وبسيئاتها، وتحديداً من خلال نظرة الآخرين إليه، وقد انقسمت هذه النظرة إلى أجزاء تطاول الحياة التي عاشها/ عاشتها تلك المبدعة وإلى حد في المقابلة بين ما تبقى منها في الذاكرة كـ”عملاقة” في فنها وضائعة في حياتها بين تنازلات كان لا بد منها، وأخرى لم تكن ضرورية، وإن بدا أنها ما كانت قادرة على النفاد منها. ولعل من الأمور المهمة هنا ربط هذا البعد الأخير بما قاله فلليني أول هذا الكلام. أين حرية الفنان؟ “لسنا أحراراً نحن معشر المبدعين مهما ادعينا ذلك”، أراد فلليني أن يقول، ولكن لأن فلليني هو فلليني نجده لا يجعل من هذه الحقيقة التي يقولها بكل بساطة في أحاديثه الصحافية نوعاً من دوغما وعظية، بل بقدمها على الصورة التي اعتادها في أفلامه الكبرى التي قد لا ينبغي سبر معانيها وما تعكسه من مرارات حياته تحت قشرتها. ومع ذلك ها هو هنا، مرة أخرى، يعطي المكانة في المقام الأول للقشرة نفسها. لهذا العمل الاستعراضي الكبير بألوانه الزاهية – حتى وإن كانت ألوان الحزن الذي يطبع عادة لحظات الحزن والموت. ترى أفلم يكن فلليني هو الذي قال يوماً، “من المؤكد أننا من الصعب أن نعثر في أي فن من الفنون على لحظات أكثر إثارة للضحك من لحظات الجنازات”؟ نعم هو الذي قال ذلك قولا تبناه معظم السينمائيين الآخرين الذين ساروا في تحفهم على منواله وصولاً إلى “اليوغوسلافي” أمير كوستوريكا. ومن هنا قد لا يغيب عن أذهاننا في كل مرة نتذكر فيها هذا الفيلم أنه ربما يكون الفيلم الأكثر هزلاً في مسار فلليني بما في ذلك ما يمكن أن يثيره من حس سخرية ذلك المشهد الذي يعتبره البعض الأكثر هزلاً في تاريخ السينما الفللينية: مشهد عاصفة النهاية التي تخرب مجمل الترتيبات التي كانت قد رسمت لنهاية المغنية التي أرادت أن يذهب رمادها بكل هدوء كما كانت تتمنى لحياتها نفسها أن تمضي. لقد رتبت كل شيء وجعلته في عهدة عدداً من أبرز مديري القاعات الأوبرالية في العالم (من “كوفنت غاردن” اللندنية إلى “السكالا” الإيطالية و”المتروبوليتان” النيويوركية وغيرها…)، لكن العاصفة العاتية جاءت في النهاية كلعبة سينمائية من ناحية، ولكن من ناحية أخرى كخاتمة لحياة لا بأس من اعتبارها – أي الخاتمة – نوعاً من نبوءة تتعلق بتلك الحرب الكبرى التي تحل فور انتهاء الجنازة لتطبق القول المتشائم: وتقدرون فتضحك الأقدار، ولكن أيضاً لتتنبأ بما هو أكثر راهنية معبرة ربما عما سيختم به فلليني نفسه حياته قائلاً “ومن بعدي الطوفان”. ولعل هذا الأمر الأخير يفتح لنا آفاق التأمل التاريخي فيما آلت إليه أحوال العلم بعد رحيل ساحر السينما عند نهايات القرن الـ20 ومع انطلاقة القرن الذي تلاه. المزيد عن: فدريكو فللينيالسينما الإيطاليةماريا كالاس 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post Halifax hospital to return to normal operations on Monday after water main breaks next post مجلس 2024 المنتخب يعود بالمعارضة الكويتية مقابل خسائر للإسلاميين You may also like أول ترشيحات “القلم الذهبي” تحتفي بالرعب والفانتازيا 17 نوفمبر، 2024 شعراء فلسطينيون في الشتات… تفكيك المنفى والغضب والألم 17 نوفمبر، 2024 “بيدرو بارامو” رواية خوان رولفو السحرية تتجلى سينمائيا 16 نوفمبر، 2024 دانيال كريغ لا يكترث من يخلفه في دور... 16 نوفمبر، 2024 جاكسون بولوك جسد التعبيرية التجريدية قبل أن يطلق... 16 نوفمبر، 2024 المخرج والتر ساليس ينبش الماضي البرازيلي الديكتاتوري 16 نوفمبر، 2024 الحقيقة المزعجة حول العمل الفائز بجائزة “بوكر” لهذا... 16 نوفمبر، 2024 فرويد الذي لم يحب السينما كان لافتا في... 16 نوفمبر، 2024 يونس البستي لـ”المجلة”: شكري فتح السرد العربي على... 15 نوفمبر، 2024 مرصد كتب “المجلة”… جولة على أحدث إصدارات دور... 15 نوفمبر، 2024