بأقلامهمعربي عبدالرحمن بسيسو : خِضْرٌ مَتْروكٌ وتِنِّينٌ مُهَيْمنْ by admin 13 مارس، 2020 written by admin 13 مارس، 2020 142 الْقِنَاعُ والْقِنَاعُ النَّقِيضُ في قَصِيْدَة خَلِيل حَاوِي: “لِعَازَر عَام 1962“ بثَّتْ قَصِائدُ السَّيابِ الَّتي أعْقَبَتْ قَصِيْدَتَهُ الرَّائِدةِ “الْمَسِيْحُ بَعْدَ الصَّلب”، لِكَونِهَا أَوَّلَ قَصِيْدةِ قِناعٍ تَكوينيٍّ مُحْكَمٍ في الشِّعْرِ الْعَربِيِّ، شَبَكاتٍ دلاليةً تُومِئ إلى استمرار واقع الحَيَاة في القبر، وذلك بسببٍ من “أفضال” ثورة 14 تموز 1958 وإنجازاتها التي تكشَّفت عن ظلاماتٍ ومظالمَ جسَّدت حقيقتها، فقد هيمنت على نسيج تلك القصائد، وعلى شبكاتها الدَّلالية، رموزُ الموت والانبعاث الزَّائف المُشَوَّه، ومن بينها رمز “إلِعَازَر” النَّقِيض؛ أي “إلِعَازَر” الذي يبتعثهُ “يهوذا” لا “الْمَسِيْح”، فيظلُّ مقترناً بباعثه، مسكوناً بخصائصه، ودالاً على حُضُورِهِ فيه. ولئن كان السَّياب قد وظَّف هذا الرَّمزَ توظيفاً جزئياً في قصائد من مثل “مدينة السِّندباد”، و”رؤيا في عام 1956″، و”سفر أيُّوب”، ليُحمِّلهُ دلالات الموت في الحَيَاة على المستويات المختلفة، فليس بلا دلالة أنْ يتحوَّلَ هذا الرَّمزُ، المُوظَّفُ جزئياً في قصائد السَّياب، إلى رمزٍ محوريٍّ كُلِّيّ يتشكَّل في سياق بناء قناعٍ سالبٍ، أو قناعٍ نقيض، يخوض تجربة ابتعاث مُشوَّه، فتتملَّكه شهوة موتٍ تُحَجِّرهُ، وتُحوِّله إلى إله خصبٍ زائفٍ، إلى تنيِّن قحطٍ وهلاكٍ وموتٍ، وذلك في قَصِيْدَة “لِعَازَر 1962” للشَّاعِر خليل حاوي. لَطَالمَا آمنَ الشَّاعر خَلِيل حَاوِي بانبعاث الذَّات الْعَرَبِيَّة، والحَضَارة الْعَرَبِيَّة، من رقادهما الذي طالَ أمدهُ إلى ما يزيد على الأَلفِ منَ الأعوام، فاشتعلت في دمه، وفي وجدانه وقصائده، رؤى انبعاثٍ أصيلٍ يخرجهما من الانحطاط والجمود ويدخلهما في صيرورة نهضةٍ تكتنزُ تحوِّلاً إنسانيِّاً وحضاريِّاً يتواصلُ تحقيقهُ، ويتعزَّزُ حضورهُ، ويرسخُ، جيلاً بَعْدَ جِيلٍ. وما أنْ انبثقت هذه الرؤى في القصائد الأخيرة من ديوانه الأول “نهرُ الرَّماد”، الذي عاين فيه واقع الانحطاط والتَّرَدِّي في الحضارة الإنسانية؛ الغربية والشَّرقية، كاشفاً حقيقة أنَّ “بَعْضَهَا طينٌ مُحَمَّى، بَعْضَهَا طينٌ مَوَات“، حتَّى راحَ يغني انبعاث هذه الحضارة، ويُنبىئُ بحدوثه، في قصائده اللاحقة، ففي قَصِيْدَة “وجوه السِّندباد” تنفتحُ ذاتهُ الشَّاعِرَة على رؤيا انبعاثٍ جذريٍّ، أصيلٍ وكُلِّي: أَسْنِدي الأنقاضَ بالأنقاضِ شُدِّيها .. على صَدْرِي اطْمَئِني، سَوفَ تخضَرُّ، غداً تَخْضَرُّ في أعضاءِ طِفلٍ عُمْرُهُ مِنْكِ ومِنِّي. ثُمَّ سرعانَ ما تصبحُ هذه الرُّؤيا، النَّابعة عن تصوُّر وجودِ تفاعلٍ خلاَّقٍ منفتحٍ على الحَيَاة بين الإنسانِ والحضارة، مصدراً لتوليد رؤيا تُجَسِّدُ انبثاق هذا الانبعاث، وتدلُّ على اقتراب موعد تحقُّقه في الواقع الفعليِّ، وما تلك إلا رؤيا تحقُّق “الوحدة الْعَرَبِيَّة” التي تنبَّأ بها الشَّاعر في قَصِيْدَة “النَّاي والريح في صومعة كمبردج”: ماذا سِوى عَقْدِ القبابِ البيضِ بيتاً واحداً يزهو بأعمدةِ الْجِبَاهْ يزهو بغاباتٍ من المُدنِ الصَّبايا لِينَ أرصفةٍ وجَاهْ أَيَصِحُّ عبرَ البحرِ تفسيخُ المياه؟! ثُمَّ عاينَ الشَّاعرُ هذه الرُّؤيا يقيناً يتحقَّقُ في الواقع، لا خبراً تحدو به الرّواةُ، ففي العام 1958، أُبْرِمَت الوحدة بين مصر وسوريا، فرأى فيها إرهاصاً بانبعاثٍ حضاريٍّ أصيل، وبنهضةٍ تحملُ الحضارة الْعَرَبِيَّة الجديدة، ومبدعتها الذَّات الْعَرَبِيَّة الجديدة، إلى أَعْمَاقٍ وآفَاقٍ ومداراتٍ أبعد، عُمْقِيَّاً وأُفقياً، بحيثُ تنهضُ الوحدة الْعَرَبِيَّة الشَّاملة على تَفجُّرٍ من أعماقِ الذَّات، فتشملُ العرب كلَّهم، وتُنهي تشظِّيهم إذْ تجمعُ شَتَات أقطارهم، فتحتضنُ البحرَ الذي لا يَصِحُّ تفسيخَ مياهه، فَغَنَّى هذه الوحدة التي تصوَّرها ناهضةً على مشروع نهضةٍ تتأسَّس عليهِ فِيْمَا هِيَ تَنْهَضُ بإنجازه، وذلك في قصيدته “السِّندباد في رحلته الثَّامنة”: ما كانَ لي أنْ أحتفي بالشَّمسِ لو لم أرَكُمْ تَغْتَسِلُونَ الصُّبحَ في النِّيلِ وفي الأردُنِّ والفُراتْ من دَمْغةِ الخطيئةْ وكلُّ جسمٍ ربْوَةٌ تَجَوْهَرتْ في الشَّمسِ، ظِلٌ طيِّبٌ، بُحيرةٌ بريئة، أَمَا التَّماسيحُ مَضَوْا عن أرضِنَا وفارَ فيهم بحرُنا وغارْ … وسوفَ يأتي زمنٌ أحتضنُ الأرضَ وأَجْلُوا صَدْرَها وأمسحُ الْحُدُود. ولكن سرعان ما كَذَّبَ الواقعُ الرُّؤيَا، مثلما كذَّبَ ما بدا أنَّه تَجَسُّدٌ لحقيقتها فِي رِحَابِه، وذلك على غرار ما كذَّب واقعٌ قريبٌ منه افْتِراضَ تَجَسُّد رؤيا السَّيَّاب في اندلاع ثورة تموز 1958 العراقية، فَعِوَضَاً عن ترسيخِ الوحدة وتوسيعها عبر “مسحِ الْحُدُود” وعبور الجُسُور صوبَ الذَّات الْعَرَبِيَّة الجديدة، والحضارة الْعَرَبِيَّة الجديدة، و”الشَّرق الجديد”، تنهارُ الوحدة المصريَّة – السُّوريَّة في العام 1961 جرَّاءَ انقلابٍ انفصاليٍّ، فَيُفجَعُ الشَّاعرُ في رؤياهُ، وفي أحوال الْعَرَب المتشبِّثين بالبقاء العاجز في أقبية العتمة. وإذْ بدا الانفصالُ تجلياً إضافياً من تجليات الاستبداد، والانحطاط، والانبعاث الزَّائفِ المُشَوَّه، استعادت رؤيا “الْكَهْف المُظْلِمِ” حضورها الرَّاسخ في الواقع الْعَرَبِيّ، وفي ديوان “بيادر الجوع”، لتحلَّ محلَّ ومضةٍ أبرقت، في الشِّعر المُسْتَشْرِفِ، وفي الواقع المُتطلَّع إليه، برؤيا “القبَّةِ المُنِيرة”، والانبعاث المُضِيءْ. زِيْفُ الانْبِعَاثِ وَوَهْم الْقِيَامَةْ في أعماق هذا الْكَهْف المُعتم وأغواره السَّوداء، تتحجَّرُ الذَّات الإنسانيةُ وتنحطُّ الحضارة، ويصيرُ الزَّمن ثقيلاً باهِظاً تُعَانِي الذَّات الشَّاعِرَة وطأته، فقد استحالت دقائقهُ إلى دُهُورٍ، وما عاد أمام الشَّاعر من خيارٍ سوى استبدال الأقنعة والرُّموز؛ فمن المُغامر الجوَّال الجوَّاب المُنْفَتِحِ على الحَيَاة والعالم؛ أي من “البحَّار” و”السِّندباد” و”النَّاي” و”الرِّيح”، و”الْجِسِرِ”، تِلكَ المفتوحة جميعاً على كل أُفُقٍ وبُعْد، والمنطوية على دلالة الاتصال والانفصال والصَّيرورة والتَّحوُّل، إلى “الْكَهْف” و”الكاهن”، كرمزين على احتقان الذَّات والحَضَارة، وتحوُّل حَيَوِيَّتِهما الخلاَّقة إلى كبريتٍ حارقٍ ونارٍ مُجرِمة، ثُمَّ إلى “لِعَازَر عام 1962” الَّذي يَدلُّ اسمه، استناداً إلى زيف انبعاثه ووهم قيامته من الموت، على مكونات هُويَّته المُعْتِمَةِ التي تُتأسَّسُ على حَياةٍ في الموت وموتٍ في الحَيَاة، والَّتي تَعكِسُ جَوهَرَ كيانِه الَّذي يُجسِّدُ، في ذاتهِ، واقعَ أجيالٍ “يُبتلى فيها القويُّ الخيِّرُ بالمحال فيتحوَّلُ إلى نقيضه” مُحيلاً الحَيَاة إلى رُعبٍ وموت، ومُحَجِّراً الواقع في جحيم شهوات مُتحجِّرةٍ تنبعُ من “شهوة الموت” التي تتملَّكهُ، فَيُجَسِّدها، عبر حضُورِ الْمَوتِ المُتَحَجِّرِ في كيْنُونَتِه والْمُهَيْمِنِ علَى هُوِيَّتِه، في شَتَّى أَحْيَازِ الْحَيَاةِ ومداراتِ الْوُجُود. الْمَرْجِعِيَّة الزَّمكانيَّة والنَّصِّيَّة تنهض صيغة عنوان الْقَصِيْدَة “لِعَازَر عام 1962” بتوليد دلالةٍ مؤدَّاها أنَّ هذه الْقَصِيْدَة، الموسومة بهذا العنوان، تتمحورُ حولَ لِعَازَر مُتَعيَّن ومُحَدَّد هو لِعَازَر المنسوب زمنياً إلى العام 1962. ولأنَّ الزَّمان لا يتجسَّدُ إلا في المكان، فإنَّ هذه النِّسبة الزَّمَنِيَّة تظلُّ منطويةً على نسبة مكانيَّة تتوضَّحُ من خلال علاقة العنوان بالْقَصِيْدَة، وعلاقة الْقَصِيْدَة بالسِّيَاق الشِّعْري للثَّقَافة التي تنتمي إليها، وبالثَّقافةِ الإنْسَانيَّة عَلَى تَنُوُّعِهَا، ووُسْعِها، وتَعَدُّد سياقاتها، وبالمجتمع الذي أُنتجت في رحابه، وبالشَّاعر الذي أبدعها؛ فإذْ نعرف من خلال تقصِّي تلك العلاقات وإدراكها أنَّ العنوان يسمُ قَصِيْدَة عربية تنتمي إلى الشِّعْر الْعَرَبِيّ الحَدِيث، وإلى الثَّقَافَة الْعَرَبِيَّة، وأنَّ هذه الْقَصِيْدَة قد كُتبت ونُشرت في حقبة زمنية كانت فيها الذَّات الشَّاعرةُ التي أبدعتها حاضرةً في قلب الواقع الْعَرَبِيّ، وفي مدينة عربية عاينت فيها تلك الذَّات وقائعَ وأحدائاً، فإنَّ ذلك يُحيِّلُ النِّسبة الزَّمَنِيَّة الْمَكَانِيَّة إلى أداء وظيفة “نعتٍ” لاسم الْعَلَم “لِعَازَر” فيوضِّحهُ، ويُزيده تعيُّناً، إذْ يجعل من العام 1962 صفةً أساسية من الصفات الكامنه فيه، أي غير المُسْقَطَة من خارجه عليه، وذلك لأنَّه يرتبطُ بها ارتباطَ انْتِسَابٍ وعيش، بحيثُ يُمْكِنُنَا، في ضوء دلالة الزَّمان على المكانِ الذي فيه يتجسَّدُ مُتَمَرْئِياً بِهِ، ومُتَنَاظِراً مَعَهُ، أنْ ننسب “لِعَازَر عام 1962” إلى أي من المدن الْعَرَبِيَّة، ولا سيما منها بيروت ودمشق والقاهرة، فهو البيروتي، والدِّمشقي، والقاهري، …إلخ، كَمَا يُمْكِنُنَا أنْ ننسبه إلى الذَّات الْعَرَبِيَّة الكُلِّيَّةِ التي تحتضُ ذوات المدن الْعَرَبِيَّة جميعاً، فنكونُ إزاء “لِعَازَر الْعَرَبِيّ” المُتَشَكِّلِ في مُخَيِّلة الشَّاعر خليل حاوي التي جسَّدت حضورهُ في واقع الحَيَاة نصَّاً هُو الْقَصِيْدَة الَّتي تقول تجربته المديدة، والمتغايرةِ، والمَحْمُولةَ على تَوالي الأزمنةِ الْعَجْفَاء. لَطَالمَا آمنَ الشَّاعر خَلِيل حَاوِي بانبعاث الذَّات الْعَرَبِيَّة، والحَضَارة الْعَرَبِيَّة، من رقادهما الذي طالَ أمدهُ إلى ما يزيد على الأَلفِ منَ الأعوام، فاشتعلت في دمه، وفي وجدانه، وقصائده، رؤى انبعاثٍ أصيلٍ يخرجهما من الانحطاط والجمودِ، ويدخلهما صيرورة نهضةٍ تكتنزُ تحوِّلاً إنسانيِّاً وحضاريِّاً يتواصلُ تحقيقهُ، ويتعزَّزُ حضورهُ، جيلاً بَعْدَ جِيلٍ. وإذْ يحملنا تَحْدِيدُ الْمَرْجِعِيَّة الزَّمَنِيَّة الْمَكَانِيَّة على هذا النَّحو إلى استرجاع الأحداث التي وقعت في العام 1962 وما سبقها من أحداث وقعت في أعوام سابقة عليه، فأفضتْ، بالتَّضافِرِ مع عواملِ أُخْرى، إلى وقُوعِ مَا قَدْ وقع فيه، فإنَّ اقتران اسم لِعَازَر بهذا العام يُنْتِجُ مُفَارَقَتينِ مُتَدَاخِلَتينِ: زَمَنِيَّة، ونَصِّيَّة. أما المُفارقة الزَّمَنِيَّة، فإنها تنبعُ من نسبة “لِعَازَر” إلى عام بعينه بغية تمييزه عن آخرين يحملون الاسم نفسه وينتسبون إلى أعوام أخرى سابقة أو لاحقة، أو بغية الإيحاء باستمرار وجود “لِعَازَر” واحدٍ خاضعٍ لصيرورة تجارب وتحولاتٍ لا تتناهى إذْ تتواصلُ، متغايرةً ومتبدِّلةً في تَسَاوقٍ مُنْسَجمٍ أو في تَنَاقضٍ فَادِحٍ، عبر الأزمنة، بحيثُ تتعدَّد تجليات “لِعَازَر” بتعدُّد تَجاربِه وتَحَوُّلاتِهْ. وإذْ تَتَحَرَّكُ هذه المُفَارَقَةُ الزَّمَنِيَّة على المستويات الثَّلاثة: الماضي، والحاضر، والمُسْتَقْبَل، فإنها ترتبطُ بمفارقة نَصِّية تتحرَّك على المستويات الزَّمَنِيَّة الثَّلاثة نَفْسِهَا، حيثُ يدعونا اقتران اسم “لِعَازَر” بالماضي إلى البحث عن شخصيات حقيقية، أو مُبْتَدَعَة، حملت الاسم نفسه وحقَّقت لنفسها حُضُوراً في التاريخ والنَّص، فتذهبُ الذَّاكِرة، مشفوعةً بالتنقيب والاستقصاء والبحث، إلى استدعاء سَمِيْيِهِ وردائفه، وإلى تعرُّف ما تُواريه ذَاكرةُ الْمٍجْتَمَعَات والثَّقَافَات، التي حفظت أسماءهم من تجاربهم المنقولة إليها عبر أيٍّ من وسائل التَّوصيل والبثَّ، أو عبر الاتِّصال المُباشر بالنُّصوص الأُوَلِ الَّتي حَمَلَتْ أَسْمَاءَهُم، وحفظت تجاربهم، وصَاغَتْ هُوِيَّاتِهِم. ولعلَّ “لِعَازَر” الأرسخَ حُضُوراً في الحَيَاة والتَّاريخ، وفي ذاكرة الثَّقَافَةِ، والتُّرَاثِ الْمُتَداوَلِ، والذَّوات القَارئة، ألا يكون أحداً إلا “لِعَازَر” المرتبط بالسَّيد الْمَسِيْح، وذلك لأنه الأكثرَ هيمنةً على وسائل التوصيل والبث، ولأنه الأقدم تحقٌّقا في النص، ولأن نصوصاً لا تُحصى قد تناصت، بطريقة أو بأخرى، مع تجربته المروية، لأول مرة في “إنجيل يوحنا”، تناصاً مباشراً، أو عبر نصوص وسيطة تحقق له تواصلاً واستمراريةَ حضورٍ في الأزمنة والأمكنة والثَّقَافَات. وعلى ذلك، فإن لِعَازَر الإنجيلي المرتبط بالْمَسِيْح؛ لِعَازَر الْعِنْيَاوي (نِسَبةً إلى القريَة الْفِلَسْطِيْنِيَّة “بِيتْ عِنْيَا”)، هو الأَسْرَعُ حُضُوراً إلى سطح الذَّاكِرة، بحيث تَتَوَلَّدُ عن حضوره مُفَارَقَةٌ زمَنِيَّةٌ تفصل ما بين لِعَازَر العام 1962 ميلادي ولِعَازَر الَّذي بعثه الْمَسِيْح من الأموات في يوم من أيام العام 29 ميلادي. فيما هي تصل بينهما عبر تجديد حضور لِعَازَر القديم في نصٍّ شِعْرِيٍّ يتحقق بعد ألف وتسعمائة وثلاثة وثلاثين عاماً من زمن معجزة انبعاثه، وبعد ما يقرب من تسعة عشر قرناً من التَّحَقُّق النَّصِّيِّ الأول لقصة تلك المعجزة التي لم يكنْ لِعَازَر غَير موضوعٍ لِتَجْلِيَتِهَا. وبانبثاق هذه المُفَارَقَة الزَّمَنِيَّة وتداعياتها، تنبثقُ مُفَارَقَة نصيةٌ؛ لِنَكُونَ إزاء لِعَازَرَ القديمِ المُتَحَقِّقِ في “إنجيل يُوحَنَّا”، ولِعَازَر الجديد الذي سنتعرَّفهُ في قَصِيْدَة خليل حاوي التي يدلنا عنوانها على أنها تتمحور حوله، وذلك على النَّحو الذي يُنتجُ فَرْضِيَةً نصِّيةً تتجاوب مع الْفَرْضِيَّةِ الزَّمَنِيَّة من وجْهَاتِ الاتصال والانفصال، والتواصل والانقطاع، بحيث نفترض حضور تجربة لِعَازَر القديم في قاع الْقَصِيْدَة التي تتمحور حول لِعَازَر الجديد المتصل بالقديم والمنفصل عنه في آنٍ، وبحيث ينتجُ عن ذلك احتمال أنْ يتواصل النَّصُّ الجديد – الْقَصِيْدَة، مع النَّص القديم – الإنْجِيل، كَنَصٍّ رئيسٍ، ومع النُّصُوص الْمَصْدَرِيَّة الأخرى: الأَنَاجيل الأُخْرى ورُبَّما النُّصوص الثَّواني المنبثقة عَنْهَا، فيما هُوَ يُغَايِرُهَا، ويَنْقَطِعُ عَنْهَا، حَتَّى وإنْ كرَّرهَا في زمن ليس هو زمنها الأَصْلِ! مَا عاد أمام الشَّاعر من خيارٍ سوى استبدال الأقنعة والرُّموز؛ فمن المُغامر الجوَّال الجوَّاب المُنْفَتِحِ على الحَيَاة والعالم؛ أي من “البحَّار” و”السِّندباد” و”النَّاي” و”الرِّيح”، و”الْجِسِرِ”، تِلكَ المفتوحة جميعاً على دلالات الاتصال والانفصال والصَّيرورة والتَّحوُّل، إلى “الْكَهْف” و”الكاهن”، كرمزين على احتقان الذَّات والحَضَارة، وتحوُّلِهَما إلى كبريتٍ حارقٍ، ونارٍ مُجرِمة! أما اقتران اسم لِعَازَر بزمن كتابة الْقَصِيْدَة ونشرها لأول مرة في النَّاس، أي بالزَّمن الحاضر المُزَامِنِ إنتاج الْقَصِيْدَة، إبْداعِيَّاً، ونشرها، فإنَّهُ يعطي دلالة تكرار جوهر تجربة لِعَازَر القديم في الحقبة التي استدعت إعادة إنتاج تجربته في نص جديد، فيضعنا أمام فَرْضِيَّةِ أَنَّ الْقَصِيْدَة ستنهض على قول تجربة انبعاثٍ تَحَقَّقَ في تِلْكَ الْحِقْبَةِ، أو في ذلك العام على وجه التَّحْديد، أو أَنَّهَا، على أقل تقدير، ستُومِئُ إلى بشائر انبعاثٍ صائرٍ نحو الاكتمال، وذلك على اعتبار أنَّ تجربة لِعَازَر القديم تلقي بِظِلالِهَا على العنوان، فَتُرّشِّحُ الْقَصِيْدَة لأن تحمل تجربةً مُوازيةً لتجربة لِعَازَر الإنْجِيْلِيَّة، ومتجاوبةً على نَحوٍ أو آخَرَ مَعْهَا، وذلك في سياق اتصال وانفصال يتحركان في إطار من التَّوازي المتجاوب، فنكون إزاء مُفَارَقَةٍ نَصِّيَّةٍ تُمَوضِعُ النَّصَّ القديمَ في زمن كتابة النَّصِّ الجديد، وتذهب بالنَّصِّ الجديد صوب اختراق الأزمنة والنُّصُوص القديمة، فيما هي تذهب به صوب اختراق أزمنة المُسْتَقْبَل الآتية لِتُمَوْضِعَهُ في أحقابها المتواصلة، ولِتَحْفُرَ له في سِيَاقِهَا الْعَامِّ سياقا خاصاً به في مَداراتِ الْحَقْلِ الإبْدَاعِيِّ (الْجنس أو النَّوعِ أو الشَّكْلِ) الذي ينتمي إليه، وفي المجال الثَّقَافي العام، أيْ سِيَاقَاً يتغير موضُوعُه بتغير مُكَوِّنات كُلٍّ من الْحَقْلِ والْمَجَالِ، وبحيث يَنْجُمُ عَنْ حضُورِه على ذَلكَ النَّحْوِ المُتَغَيِّر حُضُورٌ مُتَعَيَّنُ، ومُتَعَدِّدٌ، يَتَجَلَّى في تَحَقُّقِهِ كَنَصٍّ جَديد، وحُضُورٌ إِضَافيٌّ للنُّصُوص الكَامِنَةِ في قاعِهِ الْعَميقِ، والتي تخترق نسيجه عَبْرَ دياكتيك التَّناصِّ وآلياتِه، مثلما تخترقُ الْحَقْلَ الإبداعي وسِيَاقَاته، والمجال الثَّقافي العام وأَنساقَهُ، وتَسْكُنْهُا جميعاً، وتَنْحَمِلُ عليها فيما هي مسَكُونةٌ بِهَا. الزَّمَنُ ومُسْتَقْبَلُ النَّصِّ وليس المُسْتَقْبَل بالنِّسْبَةِ للنَّصِّ، إلَّا رَدِيْفَاً لِأَزْمِنَةِ قِراءَتِهِ، أو مشاهدته المُتَواصِلة بعد تَجَسُّدِه في شريط مُصَوَّر، أي أنَّ مُسْتَقْبَل الْقَصِيْدَة التي نحنُ بصددها وكلِّ قَصِيْدَة/ هو زمن إعادة إنتاجها عبر القراءة التي تُحَقِّقُ لهَا حُضُوراً في حاضر القراءةِ، وفي الحَيَاة، فيكون حاضِرُ القراءةِ هُوَ المُسْتَقْبَلُ الْمُسْتَمِرُّ للقَصِيْدَة، فِيْمَا النَّصُّ الَّذِي يَكْمُنُ في قاعها هو ماضيها، ويكون حاضر كتابتها هو حلقة من حلقات سلسلة الماضي بالنِّسْبَةِ لزمن القراءة، فيما مُسْتَقْبَل زمن القراءة هو القِراءَاتُ اللَّاحِقَةُ الَّتي ستتواصل في الزَّمن. وعلى ذلك، فإنَّ اتِّصَالَنَا بالْقَصِيْدَة، في هذه اللَّحظة مِنْ هَذَا العام أو ذاكَ، أي في أي لحظة من أي عام قادم، سيحقق حضورها في زمن القراءة، لِيَجْعَل حاضرها هو لحظة القراءة، أو الحقبة الزَّمَنِيَّة، أو الْبُرْهَة، التي تحتضن هذه اللَّحظة (وليس لحظة الإبداع أو لحظة النَّشْر لأول مرة)، بينما سيكون ماضِي الْقَصِيْدَة مُتَجَسِّداً في زمن كتابتها من جهة، وفي الأحقاب الزَّمَنِيَّة التي تَمْلأُ المسافة ما بين زمن كتابتها ونشرها وزمن قراءتنا لها، من جهة ثانية، وفي أزمنة النُّصُّوص الكامِنَةِ في قاعها، والمُنْسَرِبَةِ في نسيجها من جِهَةٍ ثَالِثَة. وعلى ذلك، فإنَّنَا إذْ نقرأ قَصِيْدَة “لِعَازَر عام 1962″، في هذه اللَّحظة من لحظات عامنا هذا، فإننا نقرأ فيها تجربة لِعَازَر العام 29 ميلادي، وتجربة لِعَازَر العام 1962 ميلادي، وذلك في الوقت الذي نبحث فيه عن لِعَازَر اللَّحظة الَّتي نعيشُ هُنَا والآن، أي لِعَازَر الذي يَخُصُّنَا، والَّذِي ينتسب إلى زمننا وإلينا، وهكذا نكون إزاء ثَلاثَةِ نُصُوصٍ، عَلَى الأَقَلِّ، ثَلاثَةِ نُصُوصٍ تَسْكُنُ نَصَّاً إبْدَاعيَّاً واحِدَاً هو الْقَصِيْدَة التي نَقْرأُ، ويكون النَّصُّ الأَوَّلُ (القديم) مُتَجَلِّيَاً عبْرَ طريقة إعادة إنتاجه في الْقَصِيْدَة الَّتي يكمنُ في قَاعِها ويُومِضُ في نسيجِهَا، ويكون النَّصُّ الثَّاني هُوَ الْقَصِيْدَةُ النَّاهِضَةُ عَليه، فيما النَّصُّ الثَّالث هو قراءتنا لها في ضوءِ مَعَارِفِنَا ومعطيات رؤيتنا الواقعَ الذي نعيش، وهي القراءة التي تتفاعل مع الرؤية التي تبثها الْقَصِيْدَة في واقعنا، وتلك التي تبثها في الواقع الذي استدعى إنتاجها، ورُبَّمَا في جميعِ الأزمنة الَّتي تَلته. ذاك جانبٌ من المعطيات والدَّلالات والمُفارقات التي تنطوي عليها، وتولِّدها، صيغة عنوان الْقَصِيْدَة عبر العلاقات الدَّاخليَّة المنسوجة بين مكوِّناتها من جهة، وعبر العلاقات التي تنسجها تلك المُكوِّنات مع الْقَصِيْدَة ومصاحِباتها النَّصِّيَّة والنُّصُوص الْمَصْدَرِيَّة التي يحتمل أنْ تُنشيءُ القاع الذي ستنهضُ عليه من جهةٍ أُخرى. وإذ أفضى تحليل تلك العلاقات إلى تحديد المرجعيَّات الزَّمَنِيَّة والنَّصِّيَّة على مستوياتها المختلفة، وإلى تأكيد أن الواقع الْعَرَبِيّ في العام 1962، هو الْمَرْجِعِيَّةُ الواقعيَّةُ المُزامِنةُ كتابة الْقَصِيْدَة ونشرها لأول مرة، وأنَّ “إنجيل يوحنا”، الذي ينفرد وحده برواية قِصَّة بعث لِعَازَر من الأموات، هُوَ الْمَرْجِعِيَّة النَّصِّيَّة والزَّمَنِيَّة القديمة للقَصِيْدَة، فإنَّ المُصَاحِبْ النَّصِّي (المقتبس) المرتبط بالعنوان في علاقة مُجَاورة سِياقِيَّة ودلاليَّة، يُؤّصِّلُ فَرْضِيَّة أنْ يكون “إنجيل يُوحَنَّا” هو النَّصُّ المصدريُّ الرئيسُ الذي تنهض عليه الْقَصِيْدَة وتتناصُّ مَعَهْ. ما إنْ نُكملَ قراءة العنوان حتى نجدَ المُصَاحب النَّصي التالي، فنقرأ: “وذهبت مريم، أخت لِعَازَر، إلى حيث كان النَّاصِرِيِّ، وقالت له: “لو كنت هنا لما مات أخي”، فقال لها: “إن أخاك سوف يقوم.”، ثمَّ نجد إشارة تدلُّ على انَّ هذا المُصاحبَ النَّصيَّ مُقْتَبَسٌ من إنجيل يوحنا. وإذْ نُدقق في الأمر بالرجوع إلى هذا الإنجيل لمقارنة ما ورد فيه بما هو وارد في المُصاحب النَّصي (المقتبس)، نجد أنَّ آليات الأخذ والحذف والتَّعديل والتَّحويل والإضافة قد اعتمدت في بناء صيغته بغية إنتاج دلالاتٍ جديدة لعلَّ أبرزها إدراج النَّصِّ في زمكانٍ مُتَغَايِر لا يَتَنَاهَى، وتوليد احتمالات عديدة بشأن الصَّوت الذي سنسمعه في الْقَصِيْدَة، وبشأن النُّصوص التي ستتفاعل معاً في بناء هُويَّة ناطقها، وتشكيل تجربته المروية فيها، وبناء قَاعِهِا العميق. وظَائِفُ التَّقْديْم النَّثْريِّ ما إنْ نهيء أنفسنا، ونحنُ نَقْلِبُ الصَّفْحَةَ الأولى التي تتضمَّن العنوان والمُصَاحب النَّصِّيِّ، للدُّخول إلى رِحابِ الْقَصِيْدَة، ولتعرٌّف طبيعة حضور “لِعَازَر عام 1962” فيها، بما يكفل إزاحة الفُروض والاحتمالات المُتباينة حول صوت ناطقها، وبما يهيئنا لاعتماد آلِيَّاتٍ قِرائِيَّةٍ موائمة للنَّصِّ الذي سنقرأ، حَتَّى نُوَاجَهُ بتقديمٍ نثريٍّ يستغرق الصَّفحات الأربع اللَّاحقة، فنحمل الفُروض والاحتمالات، ونُواصل القراءة، فماذا يَقُولُ التَّقْدِيمُ؟ وما الوظائف التي يؤديها بوصفه جزءاً أساسِيَّاً من الْقَصِيْدَة، كالعنوان والمُصاحبات النَّصِّيَّة الأخرى؟ وما الدَّلالات المُتَوَلِّدةُ عنه على مستوييِّ التَّماهي والتَّناص وما يتصلُ بهما من فروض واحتمالات؟ فَلْنَقْرأُ إذنْ: “كُنْتَ صَدَى انهيارٍ في مُسْتَهَلِّ النِّضال، فغدوتَ ضجيجَ انهياراتٍ حين تطاولت مراحلهُ. ثُمَّ راحت ملامحُكَ تُكَوِّنُ ذاتَها في ذاتِي، وتعتصرُ من كُلِّ مُناضلٍ ينهار أخصَّ صِفَاتِهِ وأَعَمَّها، كذلك راحَ الضَّجيجُ يستقرُّ على صُورةٍ صَافِيَةِ الإيقاع تشفُّ عن أعماقه المُعْتَكِرة. ويوم تمَّ تكوينُكَ، يوم طلعتَ من بخار الرَّحم ودخان المصهر، كُنْتَ لعينيَّ وجعاً ورعباً. حاولتُ أنْ أهدمكَ وأبنيكَ، وكانت مراراتٌ عانيتها طويلاً قبل أنْ أنتهي عن رغبتي في أنْ تكون أبهى طلعةً وأصلبَ إيماناً وأجلَّ مصيرا.” يُمْكِنُنَا، في ضوء دلالة الزَّمان على المكانِ الذي فيه يتجسَّدُ مُتَمَرْئِياً بِهِ، ومُتَنَاظِراً مَعَهُ، أنْ ننسب “لِعَازَر عام 1962” إلى أي من المدن الْعَرَبِيَّة، ولا سيما منها بيروت ودمشق والقاهرة، فهو البيروتي، والدِّمشقي، والقاهري، …إلخ، كَمَا يُمْكِنُنَا أنْ ننسبه إلى الذَّات الْعَرَبِيَّة الكُلِّيَّةِ التي تحتضُ ذوات المدن الْعَرَبِيَّة جميعاً، فنكونُ إزاء “لِعَازَر الْعَرَبِيّ” تلكم هي الفقراتُ الثلاث الأولى من التَّقديم، تضعنا الفقرة الأولى إزاءَ ذاتٍ مُتَكَلِّمةٍ، وأخرى مُخَاطَبَةٍ، فنفترض أنَّ الذَّات الشَّاعِرَة، أو المؤلف الضِّمني، تُخاطِبُ ذاتاً لها خصائصُ مُنَاضِلٍ موسوم بالسُّقوط المُريَعِ، والانهيار المُدَوِّي. أما مطلع الفقرة الثَّانيَّة: “ثُمَّ راحت ملامحُكَ تُكَوِّنُ ذاتهَا في ذاتِي” فإنها تضعنا إزاء ذات واحدة، هي الذَّات الشَّاعِرَة وقد انْشَطَرتْ إلى متكلم ومخاطب، أو إلى مُتَأَمِّلٍ ومُتأَمَّلٍ فيه، أو إلى “أنا” هو (المتكلم)، و”أنا مُغَاير” هو الأنت (المُخَاطَب)، بحيث تتعرف الأنا الْمُتَكَلِّمَة ذاتها، وتكشف خصائصها، في عَينِ اللَّحظة التي تتأمل فيها الأنتَ (المُخاطب) لِتَتَعَرَّفَهُ عبر اكتشاف مميزاته، وخصائصه، ومكونات هُوِيَّته. ذاتٌ مُشظَّاةٌ واصْطِراعٌ دَاخِلِيٌّ هكذا تكون الأنا الْمُتَكَلِّمَة قد وضعت نفسها إزاء نفسها، في تضادٍّ حادٍّ يعكسه التَّضَادُ مع الأنت المُخاطب، كتضادٍّ يُمَظْهِرُ الاصطراع الدَّاخليَّ العنيف الَّذي يَمُوُر في أعماقها، إذ يتناقض واقع حالها مع تطلعاتها تناقضَ واقع إحالتها الموضوعية لذاتها في الواقع الفعْلِيِّ وفي الممارسة والسُّلوك، مع الرؤى والتَّصورات التي بنتها لنفسها عن ذاتٍ جوهرية عميقة تطلعت إلى اكتسابها، وإلى تَحقيق حُضُورها الْفَاعل في حَيَاةٍ هِيَ الحَيَاة. وهكذا يصيرُ المتكلمُ نقيضَ المُخَاطَب، المُتَأَمِّلُ نقيضَ المًتَأَمَّلِ فيه؛ فَلَئِنْ كانت الأنا الْمُتَكَلِّمَة قد دفعت نفسها في مجرى النِّضال لتعثر على ذاتها، فإنَّ تطاول مراحل النِّضال، وتصاعد وتائر الضَّجيج الصَّاخب الذي رافقه، تكشَّفا عن واقع انهياراتٍ صارخة لازمت ذلك النِّضَال مُذْ مُسْتَهَلِّهِ، وحَتَّى آخر مراحله، بحيث خرجت الذَّات المُكَوَّنَةِ داخل هذا الرَّحْم – المصهر، ذاتاً مُشَوَّهَةً هي النَّقِيضُ الصَّارخُ للذَّات التي تطلَّعت الأنا الْمُتَكَلِّمَة إلى اكتسابها، وإلى تحقيق حضورها في أعماق كيانها كَجَوهَرٍ لكينونتها. خِضْرٌ مَتْرُوكٌ وتنِّينٌ مُهَيْمنْ يُؤسِّسُ التَّقْدِيمُ النَّثريُّ هُوِيَّةَ “لِعَازَر” على “خِضْرٍ” متروك، و”تِنِّيْنٍ” مُهَيْمِنٍ، فيجعلهُ قناعاً نقيضاً، فليعازر الإنجيلي؛ لِعَازَر – الإنسان، يتكَّشفُ عن نقيضه: الْهَوْلَة الْحَيَوانِيَّة الخُرافِيَّة المُتَوَحِّشَة. ولِأَنَّ التَّرك والاكتساب والتَّكَشُّفَ قد تحققوا جميعاً في مجرى تجربة واقعية استدعت، في سياق عملية تحويلها إلى شعر يقتنص الرُّؤى ويجسدها، استلهام موازياتها الأُسطورية، ونقائضها التَّاريخية – الدِّينية المسكونة بمعجزات تَصِلُنَا بأساطير الموت والانبعاث، فإنَّ هذه المنابع الثَّلاثة: التَّجربة الواقعيَّة؛ أساطير الموت والانبعاث؛ وقصة “لِعَازَر” المروِيَّة في “إنجيل يُوحَنَّا”، تتفاعل في قاع النَّصِّ، وتَتَصَارع مفرداتها، أَو تتراسَلُ، في نسيجه، لتبني رُؤْيةَ الأنا النَّاطقة، أي الذَّات الشَّاعِرَة، لنقيضها: “لِعَازَر”، ولِتَنْهَضَ بتعميم حُضُورهِ في الزَّمان والمكان، وفي كثرةٍ لامُتَنَاهِيَةٍ من الذَّوات المسكونَة بالْعَتَمِ الظَّلامي والتَّكلُّسِ المُهْلكِ والموت، على امتداد الأزمنة والأحقاب، والمجتمعاتِ، والثَّقَافَات. ولئن اكتسب لِعَازَر من الأسطورة طبيعة التِّنْينِ، فَإنَّهُ يكتسب اسمه من إنْجِيلِ يُوحَنَّا، بينما تعطيه التَّجربة الواقعية المتجسِّدة في انبعاثٍ مُشَوَّهٍ خصائص مُنَاقِضَة للِعَازَرِ الإنجيلي، وتُكْسِبُهُ صفةَ “الطَّاغِيةِ”، “والْعَمِيل”، الَّذي تكُون مذلَّتُه مصدرَ تَعَاظُمه: “مارداً عاينتهُ يَطْلُعُ من جَيْبِ السَّفير“. وفي سياق تأسيس التَّناقض بين لِعَازَر العام 29 ميلادي، و”لِعَازَر عام 1962” تتكشَّفُ ملامح التَّجربة التي خاضها كلاهما، وتنكشفُ الأسبابُ الكامنةُ وراءَ انبعاثِ الأول انْبِعَاثاً أَصِيْلاً، وإنْ بَدا مُعْجِزاً، وتَمَخُّض تجربة الثَّاني عن انْبِعَاث مُشَوَّهٍ. وهَكذا تتوازى التَّجربة الواقعيَّة مع نقيضِ التَّجربة الدِّينيَّة – الأُسطوريَّة التي تُومئ إلى التَّجربة الواقعيَّة، أو تقولها من خَلالِ رمزيتها المَعْكُوسَة: “وما شأني إنْ تَكُنْ عنايةُ النَّاصِرِيِّ أبت عليك أنْ تموتَ وأنتَ بطلٌ تراجيديٌ يتوهَّجُ بجلالِ التَّضحية ونشوتها بالجراح: “مُبْحِرٌ، سكران، ملتفٌ بزهر الأرجوان” وكيف تبعثك العناية وأنت مَيْتٌ حجَّرته شهوةُ الموت، وفي طبيعة الانبعاث أنْ يكونَ تفجُّراً من أعماق الذَّات“. ترى الذَّات الْمُتَكَلِّمَة هنا أنَّ “لِعَازَر” الَّذي أقامَهُ “النَّاصِرِيُّ” من الموت كانَ “خِضْراً” حقيقياً، بطلاً تراجِيديَّاً مسكوناً بالوفاء، أي مُوازياً لباعِثِهِ النَّاصِرِيِّ. غَير أنَّ اصْطِدَامِهِ بالمُحَالِ، ويأْسَهُ من تطاول مراحل النِّضَال، ثم سقوطه وعمالته، أَحَالَتْهُ، بتضافرها، إلى نقيضه، فَعِوضَاً عن موته في الموتِ بطلاً تراجيدياً عظيماً، أَصبح مَيْتاً في الحَيَاة، فما إنْ تملَّكته شهوة الموت وحَجَّرته، حتَّى صار مستحيلاً على “النَّاصِرِيِّ” أنْ يبعثه من جديد، وذلك لأَنَّ “في طبيعة الانبعاث أنْ يكون تَفَجُّراً من أعماق الذَّات“، لا مجردَ إسقاط خارجي. وليس للناصري طالما هو حاضرٌ حُضُوراً مُفَارِقاً، أنْ يَقْدِرَ على بَعْثِ من لا تَسْكُنُهُ رغبةٌ عارمةٌ في الانْبِعَاثِ، أي من لا يَسْكُنُ النَّاصِرِيُّ المُتَصَوَّرُ أعماقَهُ. قِنَاعُ الحَيَاة والْعَالَمْ ومثلما حاولت الذَّاتُ الشَّاعِرَةُ، في سياق التَّقْدِيمِ النَّثْرِيِّ، هَدْمَ “لِعَازَر” وإعادة بنائه ليكون هو الأَبْهَى والأصلَبُ والأجلُّ، كذلك تفعل زوجة لِعَازَر، التي هي بمثابة مُعَادلٍ إليغوري (أُمْثُولي) للذَّات الشَّاعِرَة، ومثلما اصطدمت الذَّات الشَّاعِرَة في محاولتها تلك بالمُحَالِ إذْ لم تمتلك القُدْرة على أنْ تُعِيدَ صَوغَ كَائنٍ بَشَريٍّ حجَّرته شهوة الموت، فَسَقَطتْ لِعَجْزِهَا عن فعل ذلك في العدمِيَّة المُطْلَقَةِ، واكتسبت خصائص نقيضها “لِعَازَر”- القناع النَّقِيض، كذلك يكون شأنُ الزَّوجة مع زوجها فقد “كانت تنزعُ إلى كمالٍ وجوديٍّ يشبع النفس والجسد، فخذلتَها أنتَ زوجها الحاقدُ المَيْت“، و”ظلَّت تتهاوى إلى أنْ بلغت قرار جحيمك وحفرتك، نزفتَ في دَمِهَا الكبريت فارتدتْ عليك بالنَّاب والمخلب“. في سياق تأسيس التَّناقض بين لِعَازَر العام 29 ميلادي، و”لِعَازَر عام 1962″ تتكشَّفُ ملامح التَّجربة التي خاضها كلاهما، وتنكشفُ الأسبابُ الكامنةُ وراءَ انبعاثِ الأول انْبِعَاثاً أَصِيْلاً، وتَمَخُّض تجربة الثَّاني عن انْبِعَاث مُشَوَّهٍ؛ فتتوازى التَّجربة الواقعيَّة مع نقيضِ التَّجربة الدِّينيَّة – الأُسطوريَّة التي تُومئ إلى التَّجربة الواقعيَّة، أو تقولها عَبْرَ دلالاتٍ رمزيَّةٍ مَعْكُوسَة! ومِثْلَمَا اسْتَنْكَفَتِ الذَّاتُ الشَّاعِرةُ عن رغبتها في إِعَادة بناءِ ذاتِهَا عبر هدم وإعادة بناء “لِعَازَر”، كذلك تستنكف الزَّوجة (قناع الذَّات الشَّاعِرَة أو مُعادلها “الإليغوري” الأُمْثُوليِّ) عن رفع الصَّلوات “لإلهٍ لم يعرف الجوعَ ولا الأفاعي المتولِّدة من شهوةٍ مُتَدَافِعَةٍ“، فَتَكْبُتَ شهواتها في أعماقها، لِيُحَوِّلهَا الكَبْتُ من جِهَةٍ وعجز لِعَازَر مِنْ جِهَة ثَانيةٍ، إلى نقيضٍ جَذْريٍّ لِجَوهَرِهَا الأَصْلِيِّ الْعَميق أو لِجَوهَرِ فِطْرتِهَا، فَتَصيرُ إِلَاهَةَ موتْ، بل إلاهةَ عَدَمٍ مطلق؛ تصير أَفْعَى تُعَانِقُ أُفْعُواناً في قَراراتِ جَحِيمٍ. تقع الذَّات الشَّاعِرةُ، مُبَاشَرةً، أو مِنْ خِلالِ الْقِنَاعِ الإيجابِيِّ الَّذي هُوَ هُنَا “زوجةُ لِعَازَر”، مَا بينَ مِطْرقَة الْقِنَاع النَّقِيضِ “لِعَازَر”، الَّذي يَعْمَلُ، بإصْرارٍ عَنيْدٍ، عَلَى صوغ تلكَ الذَّات على صُورتِهِ ومِثَالِهِ، وسِنْدَانِ “النَّاصِرِيِّ” المُتَرَفِّعِ عَنِ التَّجْرُبَةِ الْحِسِّيَةِ، والْغَارِقِ فِي مِثَالِيَّاتِ الْعَقِيدةِ الْقَومِيَّةِ الَّتي تَقُولُهَا النَّظَرِيَّةُ النَّاصِرِيِّةُ الشُّمُولِيَّةُ، أَوْ الْمَأخُوذِ برُوحَانِيَّات التَّرفع الملائِكِيِّ الَّتِي تَقُولُهَا تجربةُ السَّيد الْمَسِيْح مع مَريمِ الْمَجْدَلِيَّةْ. وفِي ظِلِّ فاعِلِيَّة “لِعَازَر” في نشر الموت في الحَيَاة، واستنكاف “النَّاصِرِيِّ”، مسيحاً ومناضلاً نَاصِرِيَّاً، عن التَّجْرُبَةِ الواقِعِيَّة الْمَلْمُوسَةِ، الْحَيَاتِيَّةِ الْحَيَّةِ، ونزوعه إلى إدْراكِ كمالٍ ملائكي، لَا وُجُودِيٍّ، تَنْشَطرُ الذَّات الإنْسَانِيَّةُ، مُجَسَّدةً في الذَّات الشَّاعِرَة، ما بين “مِثَالِيَّةٍ غَيْبِيَّةٍ” و”مَادِّيَةٍ مُتَسَفِّلَةٍ”، فتتعَطَّلُ الحَيَاةُ، وتتغوَّرُ الْحَيَوِيَّةُ، ويخلعُ “الوهمُ ظِلَّهُ المُخّدِّر على فَجَائعِ الواقِعْ”، وتتجسَّدُ الفجعية في اكتشافِ الذَّاتِ الشَّاعِرَة قِنَاعَهَا الْمُهَيْمنِ الْمُرْعِبِ، قِنَاعَهَا النَّقِيضِ: “لِعَازَر عام 1962″، وليس ذلك باعْتِبَار هَذَا الْقِنَاعِ قِنَاعَاً لهَا فَحَسْبُ، أو قِنَاعَاً لجَمَاعَةٍ، أو فِئَةٍ، أَوْ لحقبة زمنيةٍ، أَوْ جيلٍ، أَوْ عَصْرٍ، أَوْ حَتَّى لِعُصُورِ وأَجْيَالٍ، بَلْ بِوصْفِهِ قِنَاعَاً لِلْحَيَاةِ بِأَسْرِهَا، ولِلْعَالَمِ بِأكْمَلِه: “وبَعْدُ فأنتَ لا تختصُّ بجماعةٍ دونَ جماعةٍ. كنتُ شاهداً ورأيتك في صُفُوفِهِمْ جَمِيْعَاً”. وإضافةً إلى كَوْنِهِ تكثيفاً لشبكة دلالاتِ الْقَصِيْدَة، وإيْمَاءً مُسْتَرْسِلاً إِلَى مُكَوِّنَاتِ الْقَاعِ النَّصِّيِّ الذي تنهض عليه، وإفْصَاحَاً رَمْزيَّاً عَنِ الرؤيةِ الْفَلْسَفِيَّةِ التي تبثها التَّجربةُ المرويَّةُ فيها، وإشْعاراً مُتَراسِلاً بالاتِّجاه السَّلْبي الْعَدَمِيِّ الَّذي تَتَّخِذُهُ تلكَ التَّجْرُبةُ، وفَضَّاً لِشَفْرَاتِ الرَّمزين المركزيين الكبيرين فيها: “لِعَازَر” و”زوجة لِعَازَر”، وهِيَ الأُمورُ الَّتي نَحْسَبُ أَنَّ تَحْمِيلَهَا للتَّقْدِيْم النَّثْرِي قَدْ يُفَرِّغُ شُحْنَةَ التَّلَقِّي فَيُطْفئُ تَوهُّجَه لَدَى القَارئِ، إذْ يفقدهُ مُتْعَةَ الاكتشاف والكشف التي تتأتَّى من الرَّحيل في سراديب النَّصِّ، والَّتي تَنْجُمُ عن القِراءةِ التَّأمُّلِيَّة الإنتاجية التي تجعلُ القارئ كَاتِباً مُبْدِعَاً، فَإِنَّنَا نَلْحَظُ أَنَّ هَذَا التَّقْدِيمَ النَّثْرِيَّ قَدْ تَوخَّى النُّهوضَ بوظيفةٍ أساسِيَّةٍ تَتَحَرَّكُ عَلَى مُسْتَوى “ديَالِكْتِيكِ التَّمَاهِي” بين الَّذَّاتِ الشَّاعِرة وأناهَا المُغَايرِ أكانَ مُفرداً أم مُتَعَدِّداً، فَتُسَاعِدُ القَارئَ، إِذَا مَا واصَلَ السَّعْيَ للتَّخَلُّص مِنْ إسْقَاطَات قِراءةِ الشَّاعِر لِلْقَصِيْدَة عَلَى قِرَائَتِهِ هُوَ لَهَا، على تحقيق تلك الْقِرَاءةِ التَّفَاعُلِيَّةِ التَّأمُّلِيَّة المُنْتِجَةِ. لَقَدْ بَيَّنَ التَّقْدِيمُ انْشِطَارَ الذَّاتِ الشَّاعِرَة على نَفْسِهَا، وأَفْصَحَ عَنْ أَهَمِيَّةِ، ورُبَّما ضَرورةِ، أنْ تُتَلَقَّى الْقَصِيْدَةُ في ضوء إدراكٍ مُؤَدَّاهُ أنَّ هذه الذَّاتُ تُوَزِّعُ مُكَوِّنَاتِ هُوِيِّتِهَا المُتَحَقِّقَةِ عَلَى نَقِيضَين هُمَا: لِعَازَر، وزوجة لِعَازَر، وأَنَّ هذا التَّوزِيع يَتِمُّ وفق آلِيَّتَينِ مُتَنَاقِضَتَينِ تَنَاقُضَاً مُطْلَقَاً مِنْ حيثُ اشْتِغَالِ دبالكتيك التَّماهي، فإذْ تخْتَارُ الذَّات الشَّاعِرَةُ التَّمَاهِي بِزَوْجَةِ لِعَازَر، أَوْ بالرُّمُوز الْجُزٍئِيَّة الأُخْرى المُنْطَويَّة على دلالاتِ الزَّوجة: “رمز الحَيَاة”، فإنَّها تَرْفُضُ رَفْضَاً مُطْلَقاً أَنْ تَرى ذَاتَهَا الْعَمِيْقَة فِي لِعَازَر: “رمز الموت في الحَيَاة”. غَيْرَ أَنَّ لِعَازَرَ الطَّاغِيَةَ الْمُسْتَبِدَّ يَنْتَصِرُ، قَهْرِيَّاً، عَلَى الذَّاتِ الشَّاعِرَةِ، فيَصُبُّ مَلامح ذَاتِهِ، وخَصَائِصَ هُويَّتهِ وشَتَّى مُكوِّنَاتِها في كِيَانِهَا، فَيُكَوِّنُهَا لِتَكُونَ إيَّاهُ، ولِيَجْعَلَهَا تَتَحقَّقُ، وُجُودِيَّاً، عَلَى صُورتِهِ ومِثَالِه. قِنَاعٌ وقِنَاعٌ نَقِيضْ هَكَذَا نَكُونُ إِزَاءَ قِنَاعٍ وقِنَاعٍ نَقِيْضٍ يُشَكِّلانِ، عبر اصْطِراعِهِمَا الْمأسَاوِيِّ الْفَادحِ والْمُهْلكِ، هُويَّةَ الذَّاتِ الشَّاعِرة عَلَى مَدى لَحْظَات كِتَابَتِهَا الْقَصِيْدَة. وَنَظَراً لأَنَّ الْقِنَاعَ النَّقِيض هُوَ الْقِنَاعُ المُكْتَسَبُ بِالْفِعْلِ عَبْرَ صَيرورة القصيدةِ: تَماهِياً وتَنَاصَّاً، فِيْمَا القِنَاعُ الأَصِيْلُ هُوَ الذَّاتُ المُتَطَلَّعُ إلى بُلُوغِهَا وامْتِلَاكِهَا، فِإنَّ الْقِنَاعَ الأَخِيرَ لِذَاتِ الشَّاعِرِ الْمُتَحَقِّقَةِ في القصِيدةِ، أَوْ الْقِنَاعَ الَّذي يَعْكسُ صُورةَ هذه الذَّاتِ ويَبُثُّ مُكوِّناتِ هُوِيَّتَها، ويَقُولُ الْمَغْزى العميق للقَصِيْدَة – التَّجربة، مُفْصِحاً عَنْ رؤية الشَّاعر لِذَاتِهِ المُكْتَسَبَة عبر صيرورة هذه التَّجربَة وفي مجرى تَحَقُّق الْقَصِيْدَة، لَنْ يتشكَّلَ، أوْ يتكوَّنَ، إلَّا في مَجْرى صيرورةِ تَجْرُبةِ تَمَاهٍ قَهْريٍّ تفْتَحُ القِنَاعَ والْقِنَاعَ النَّقِيض على جَدلٍ صِراعيٍّ تَتَكَشَّفُ خِلالهُ خَصَائِصُ كلٍّ منهما، وتَتَجَلِّي طَبِيْعةُ العَلاقةِ الضِّدْيَّةِ الصِّراعِيَّة القَائِمَةِ بينهما، وتَتَّضِحُ صِلَةُ كُلٍّ منهما بأقطابٍ ورموز أخرى تَتَفَاعَلُ فِي صوغ الْقِنَاعِ ونَقيضِهِ، وفي المُقَدِّمَةِ مِنْهَا (الْمَسِيْحُ النَّاصِرِيّ الْعَاجِز، ولِعَازر الْعَصيِّ عَلى الانْبِعاثِ والنُّهوض)، بحيث تتشكل في سياق ذلك التَّفاعل شبكاتٌ دلاليَّةٌ تنسج، بتعالقها وتفاعلها، الدَّلالةَ الكلية للقَصِيْدَة، فيما هي تصوغ الهوية العميقة للقناع النَّاتج عن جدلِ النَّقِيضَينِ الصِّرَاعيِّ، والَّذِي تُجَسِّدُ نِهَايةُ هذا الجَدَلِ طبيعتهُ الأخيرة، ومَغْزَاهُ الْعَميق. المنابع الثَّلاثة: التَّجربة الواقعيَّة؛ أساطير الموت والانبعاث؛ وقصة “لِعَازَر” المروِيَّة في “إنجيل يُوحَنَّا”، تَتَفاعلُ في قاع النَّصِّ، وتَتَصَارع مفرداتها، أَو تتراسَلُ، في نسيجه، لتبني رُؤْيةَ الأنا النَّاطقة، أي الذَّات الشَّاعِرَة، لِنَقِيضِهَا: “لِعَازَر”، ولِتَنْهَضَ بتعميم حُضُورهِ في الزَّمان والمكان، وفي كثرةٍ لامُتَنَاهِيَةٍ من الذَّوات المسكونَة بالْعَتَمِ الظَّلامي، والتَّكلُّسِ المُهْلكِ، والموت! وبَدَهيٌّ أنْ يُفْضي تَكَفُّلُ التَّقْديم النَّثريِّ بِتَوضيحِ انْشِطارِ الذَّاتِ الشَّاعِرِة عَلَى نَفْسِهَا مَا بين نقيضينِ إلى تولِيدِ فَرْضِيَّةِ ذهابِ هَذِهِ الذَّاتِ إلى توزيع نفسها، في الْقَصِيْدَة، على قِنَاعٍ مَرْجُوٍّ وقِنَاعِ نِقِيضٍ يَفرِضُ هَيْمَنَتهِ بِعُنْفٍ وضَراوةٍ، فَنَكُونُ، علَى الأقَلِّ، إزاءَ صَوتينِ وذَاَتينِ يَنْطُقَانِ الْقَصِيْدَة ويَخُوضَانِ تَجْرُبَتَهَا: زوجةُ لِعَازَر، ولِعَازَر عَام 1962، وذلك دونَ إِلْغَاءِ إِمْكَانِيَّةِ أنْ نُصْغي إلى أصواتِ الذَّواتِ – الرموز الأخرى الحاضرة في شبكة العلاقات التي تَكَشَّفَتْ لَنَا حتَّى الآنَ: لِعَازَرُ 29 مِيلادِي، مَرْيَمُ (أُخت لِعَازَر أو عازر)، النَّاصِريُّ (الْمَسِيْحُ الْقَدِيمُ والمُنَاضِل النَّاصِريُّ)، يُوحَنَّا (راوي قِصَّةَ لِعَازَر الإنْجِيلِيَّ أَوْ كَاتِبَهَا)، أو ربما إمكانية الإصغاء إلى أصوات ليستْ حَاضِرةً في تلك الشَّبكة، حيثُ يظلُّ إِمْكان تَوسِيعَهَا، أو تعميقها، باستدعاءِ أَنْماطٍ أَصْلِيَّةٍ، ورُموزٍ، يَتَواصَلُ مَعْهَا، أو يُنَاقِضُهَا، أيٌّ منَ الأنْماطِ الأصْلِيَّةِ والرموز الحاضرةُ في تِلكَ الشَّبَكة، إِمْكَانَاً مُجَرَّداً مَفْتُوحَاً عَلى إمكانيَّة التَّحقُّق الْفِعْليِّ وفي مجرى صيرورة القَصِيْدة وحتَّى اللَّحْظَةِ الأَخيرةِ مِنْ هَذِهِ الصَّيرورةِ الْمَحْمُولَةِ على أَخْيِلَةٍ، وصُوَرٍ، ورُموزٍ، وكَلَمَاتٍ، وكأئناتٍ جَماليَّةٍ أُخْرى تتعالَقُ، وتتلاحَمُ، في صَوْغِها! ونَظَراً لِتَكَفُّلِ التَّقْدِيمِ النَّثْرِي، وعَلَى نَحوٍ اسْتباقيٍّ، بإعْطَاءِ الدَّلالةِ الكُلِّيَّة لِكُلٍّ من القِنَاعِ والْقِنَاعِ النَّقِيضِ، ولِرُمُوزِ جُزْئِيَّةٍ أُخْرى، كالْخِضِرِ والتِّنِّينِ والنَّاصِرِيِّ، فَإنَّ لِذَلكَ أَنْ يُسَرِّعَ مِسألَة تَعَرُّفِ الذَّواتِ – الرُّموز الَّتي تَذْهَبُ حَركةُ إحَالات الضَّمَائِرِ إِلَيْهَا، وذَلِكَ فِي حَالةِ غِياب أَيِّ إِشَارةٍ نَصِّيةٍ تُعَوِّضُ غِيَابَ الْمَقَامِ فِي النَّصِّ الْمَكْتُوبِ. كَمَا أنَّ لِذلِكَ أَنْ يُمَكِّنَنَا مِنْ تَعَرُّفِ هُوِيَّة صَاحِب الصَّوتِ الَّذِي يَنْطِقُ هَذَا المَقْطَعَ او ذَاكَ، أو هَذِهِ المُتَتَالِيَة الشِّعْريَّة أو تِلْك، عَبْرَ مُقَاربة شبكاتِهِما الدَّلالِيَّة بِما تَكتنزهُ، أو تبثُّهُ، الأنمَاطُ الأصليَّة والذَّوات – الرُّموز الهاجِعَةُ في اللاوعيِّ الْجمعيٍّ من مَعَانٍ ودلالات. وسيكونَ لِهذا الأمرِ دَورٌ بالغُ الأهميَّة في فَضِ غُلالاتِ هُوِيَّةِ قَائِلِ الْقَولِ، وذلك عَلَى نَحْوٍ يُؤَسِّسُ لاكْتِشَافِ مستويات الدلالة، ولإدراكِ أبعادها، وتحديد النُّصُوص الْمَصْدَرِيَّة الكامنة في قاعِ النَّصِ، والمتداخلة، بِخَفَاءٍ أَو بِجَلاءٍ، في نسيجه. وعلى الرَّغم من أنَّ الشَّاعر قد أعطى في التقديم النَّثْرِي، قراءته الخاصة لقصيدته، وكشف عن دلالتها الكلِّية، وعن هوية القناع المتحقق فيها، فإنَّه ليس لأي قراءة للقَصِيْدَة تريد أن تكون قراءةً تتسمُ بالحيوية والثَّراء إلا أنْ تتعامل مع قراءة الشَّاعر، أي التقديم النَّثْرِي، بوصفها جزءاً من النَّص يحمل قراءةً مُقْترحَةً لَهُ على مستوياتٍ بعينها، ويندرجُ ضمن قراءات كثيرة محتملة ليس آخرها أيُّ قراءة قادمةٍ قد تتأسَّس على المقدِّمات والملامح والأسس المنهجية التي بيناها، والتي نقترحُ اعتمادها لإنجاز قراءة تتوخَّى تعرُّف طريقة بناء النَّص وتكوين كُلٍّ من القناع، والقناع النَّقِيض، والقناع المًتشكِّل عبر صراعهما المفتوح، وذلك إلى جانب تعرُّف كيفية تكوين غيرهما من الأنماط الأصلية والرُّموز المتدافعة في صيرورة الْقَصِيْدَة – التَّجربة المتَجَلّيَةِ في قصيدة قِناعٍ، والنَّاهضَةِ عَلَى جَدلٍ صِراعِيٍّ مَفْتُوحٍ بينَ قِناعٍ، وقِناعٍ نَقِيْضٍ. مُلاحظَة زَمَنيَّة: أُنجزتْ هَذه القراءة النَّقدية، في الْقَاهِرةِ، قبل نَحْو رُبْع قَرنٍ مِن الآنَ، ولم تُنشَرْ في حِيْنِه (ع ب)! تقع الذَّات الشَّاعِرةُ، مُبَاشَرةً، أو مِنْ خِلالِ الْقِنَاعِ الإيجابِيِّ الَّذي هُوَ هُنَا “زوجةُ لِعَازَر”، مَا بينَ مِطْرقَة الْقِنَاع النَّقِيضِ “لِعَازَر”، وسِنْدَانِ “النَّاصِرِيِّ” المُتَرَفِّعِ عَنِ التَّجْرُبَةِ الْحِسِّيَةِ، والْغَارِقِ فِي مِثَالِيَّاتِ الْعَقِيدةِ الْقَومِيَّةِ الَّتي تَقُولُهَا النَّظَرِيَّةُ النَّاصِرِيِّةُ الشُّمُولِيَّةُ، أَوْ الْمَأخُوذِ برُوحَانِيَّات التَّرفع الملائِكِيِّ الَّتِي تَقُولُهَا تجربةُ السَّيد الْمَسِيْح مع مَريمِ الْمَجْدَلِيَّةْ. يُفْضي تَكَفُّلُ التَّقْديم النَّثريِّ بِتَوضيحِ انْشِطارِ الذَّاتِ الشَّاعِرِة عَلَى نَفْسِهَا مَا بين نقيضينِ إلى تولِيدِ فَرْضِيَّةِ ذهابِ هَذِهِ الذَّاتِ إلى توزيع نفسها، في الْقَصِيْدَة، على قِنَاعٍ مَرْجُوٍّ وقِنَاعِ نِقِيضٍ يَفرِضُ هَيْمَنَتهِ بِعُنْفٍ وضَراوةٍ. 47 comments 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post “سقراط” لروبرتو روسليني: الفلسفة على الشاشة الصغيرة next post الفن في زمن القلق… دور الصورة في عصر الإنترنت You may also like أساف أوريون يكتب عن: تقارب “محورين” في إيران 27 ديسمبر، 2024 Washington institute : هل تستطيع إيران استعادة قوتها... 27 ديسمبر، 2024 عبد الرحمن الراشد يكتب عن: حافظ وليس بشار 26 ديسمبر، 2024 بيل ترو تكتب عن: تفاصيل أسبوع استثنائي في... 26 ديسمبر، 2024 ندى أندراوس تكتب عن: هوكشتاين وإنجاز الرئاسة بعد... 25 ديسمبر، 2024 يوسف بزي يكتب عن: العودة إلى دمشق.. المدينة... 25 ديسمبر، 2024 بناء سوريا ما بعد الأسد: كيفية التأكد من... 25 ديسمبر، 2024 طارق الشامي يكتب عن: هل تضبط واشنطن إيقاع... 24 ديسمبر، 2024 سام هيلير يكتب عن: كيف يمكن الحفاظ على... 24 ديسمبر، 2024 مايكل ماكفول يكتب عن: كيف يمكن لترمب إنهاء... 24 ديسمبر، 2024 47 comments зарубежные сериалы смотреть онлайн 22 مارس، 2024 - 10:33 م Thank you for another informative website. Where else may I am getting that kind of info written in such a perfect means? I have a undertaking that I am simply now operating on, and I have been at the glance out for such information. Reply глаз бога тг 9 أبريل، 2024 - 11:53 م Hi! I’m at work browsing your blog from my new iphone 4! Just wanted to say I love reading your blog and look forward to all your posts! Keep up the excellent work! Reply глаз бога тг 10 أبريل، 2024 - 1:07 م It’s remarkable to pay a visit this website and reading the views of all friends concerning this article, while I am also eager of getting knowledge. Reply Деревянные бусины купить 17 أبريل، 2024 - 8:18 م This is very interesting, You are a very skilled blogger. I have joined your feed and look forward to seeking more of your fantastic post. Also, I have shared your site in my social networks! Reply Наборы с бисером и бусами купить 17 أبريل، 2024 - 8:27 م If you are going for most excellent contents like me, simply visit this website daily because it offers quality contents, thanks Reply Пластиковые бусины купить 17 أبريل، 2024 - 8:37 م Hi there mates, its enormous piece of writing concerning educationand completely explained, keep it up all the time. Reply cs gambling website 7 مايو، 2024 - 4:03 م It’s really very difficult in this busy life to listen news on TV, so I simply use world wide web for that purpose, and take the most recent news. Reply Francisk Skorina Gomel state University 15 مايو، 2024 - 4:58 م Крупный учебный и научно-исследовательский центр Республики Беларусь. Высшее образование в сфере гуманитарных и естественных наук на 12 факультетах по 35 специальностям первой ступени образования и 22 специальностям второй, 69 специализациям. Reply гостиничные чеки Санкт Петербург 24 مايو، 2024 - 8:37 ص Hi there, i read your blog occasionally and i own a similar one and i was just wondering if you get a lot of spam comments? If so how do you reduce it, any plugin or anything you can advise? I get so much lately it’s driving me insane so any assistance is very much appreciated. Reply удостоверение тракториста машиниста купить в москве 30 مايو، 2024 - 11:06 ص Great info. Lucky me I found your site by accident (stumbleupon). I have book-marked it for later! Reply 乱伦色情 3 يونيو، 2024 - 9:22 ص Very quickly this website will be famous among all blogging and site-building viewers, due to it’s good articles Reply Гостиничные Чеки СПБ купить 10 يونيو، 2024 - 12:44 م Hey there! This is kind of off topic but I need some help from an established blog. Is it very difficult to set up your own blog? I’m not very techincal but I can figure things out pretty fast. I’m thinking about setting up my own but I’m not sure where to start. Do you have any tips or suggestions? Cheers Reply хот фиеста casino 12 يونيو، 2024 - 4:08 م Hi, I think your website might be having browser compatibility issues. When I look at your blog in Chrome, it looks fine but when opening in Internet Explorer, it has some overlapping. I just wanted to give you a quick heads up! Other then that, superb blog! Reply хот фиеста казино 13 يونيو، 2024 - 12:34 م Heya i’m for the primary time here. I came across this board and I in finding It truly useful & it helped me out a lot. I am hoping to give something back and help others like you helped me. Reply hot fiesta игровой автомат 14 يونيو، 2024 - 12:15 ص This text is invaluable. How can I find out more? Reply хот фиеста casino 14 يونيو، 2024 - 11:09 م Actually no matter if someone doesn’t know after that its up to other users that they will help, so here it happens. Reply Теннис онлайн 27 يونيو، 2024 - 4:47 م These are really impressive ideas in regarding blogging. You have touched some pleasant points here. Any way keep up wrinting. Reply Теннис онлайн 28 يونيو، 2024 - 1:23 م What’s up to all, as I am actually keen of reading this website’s post to be updated daily. It includes good stuff. Reply Теннис онлайн 29 يونيو، 2024 - 3:31 ص I am in fact happy to read this blog posts which consists of plenty of helpful data, thanks for providing such data. Reply Теннис онлайн 29 يونيو، 2024 - 4:36 م Interesting blog! Is your theme custom made or did you download it from somewhere? A design like yours with a few simple adjustements would really make my blog jump out. Please let me know where you got your design. Kudos Reply Теннис онлайн 30 يونيو، 2024 - 5:30 ص I’m not sure where you are getting your info, but good topic. I needs to spend some time learning more or understanding more. Thanks for fantastic information I was looking for this information for my mission. Reply Теннис онлайн 30 يونيو، 2024 - 6:26 م I loved as much as you will receive carried out right here. The sketch is tasteful, your authored subject matter stylish. nonetheless, you command get bought an impatience over that you wish be delivering the following. unwell unquestionably come further formerly again since exactly the same nearly a lot often inside case you shield this increase. Reply Теннис онлайн 1 يوليو، 2024 - 7:10 ص What’s up everyone, it’s my first visit at this site, and post is actually fruitful in favor of me, keep up posting these articles. Reply Прогнозы на футбол 1 يوليو، 2024 - 1:16 م This is the right site for anybody who really wants to find out about this topic. You realize so much its almost hard to argue with you (not that I actually would want toHaHa). You definitely put a brand new spin on a topic that has been written about for a long time. Excellent stuff, just great! Reply Прогнозы на футбол 2 يوليو، 2024 - 10:01 ص For latest news you have to pay a visit world-wide-web and on world-wide-web I found this site as a best web site for newest updates. Reply Прогнозы на футбол 3 يوليو، 2024 - 12:24 ص This is the right site for anybody who wants to find out about this topic. You realize so much its almost hard to argue with you (not that I personally would want toHaHa). You definitely put a new spin on a topic that’s been written about for many years. Excellent stuff, just excellent! Reply Прогнозы на футбол 3 يوليو، 2024 - 2:01 م Thanks for finally writing about > %blog_title% < Liked it! Reply Прогнозы на футбол 4 يوليو، 2024 - 3:03 ص Hi there, all the time i used to check weblog posts here early in the morning, since i love to learn more and more. Reply Прогнозы на футбол 4 يوليو، 2024 - 3:51 م This design is spectacular! You most certainly know how to keep a reader entertained. Between your wit and your videos, I was almost moved to start my own blog (well, almost…HaHa!) Great job. I really enjoyed what you had to say, and more than that, how you presented it. Too cool! Reply Прогнозы на футбол 5 يوليو، 2024 - 4:24 ص Terrific article! This is the type of information that are meant to be shared around the web. Disgrace on the seek engines for now not positioning this post upper! Come on over and talk over with my web site . Thank you =) Reply автомойка под ключ 5 يوليو، 2024 - 2:24 م 1Строительство автомоек под ключ – наша специализация. Мы предлагаем полный пакет услуг и качество по доступным ценам. Reply строительство автомойки 6 يوليو، 2024 - 12:48 م Автомойка самообслуживания под ключ – это современное решение для максимально выгодного бизнеса. Без перерывов и выходных, 24/7 для клиентов. Reply автомойка под ключ 7 يوليو، 2024 - 3:38 ص Строительство автомойки под ключ – неутомимая забота и полный контроль на каждом этапе, от проекта до открытия. Ваш бизнес в надежных руках! Reply автомойка самообслуживания под ключ 8 يوليو، 2024 - 4:10 ص Строительство автомойки – это ответственный процесс, требующий знаний и опыта. Наша команда гарантирует качество и соблюдение всех норм. Reply автомойка под ключ 8 يوليو، 2024 - 3:42 م Reply автомойка самообслуживания под ключ 9 يوليو، 2024 - 3:28 ص При строительстве автомоек под ключ особое внимание уделяется экологичности и экономии ресурсов. Все работы выполняются в соответствии с последними трендами в области моечного бизнеса. Reply Прогнозы на футбол 9 يوليو، 2024 - 10:43 ص Have you ever considered about including a little bit more than just your articles? I mean, what you say is valuable and all. Nevertheless just imagine if you added some great photos or video clips to give your posts more, “pop”! Your content is excellent but with images and clips, this website could certainly be one of the very best in its niche. Amazing blog! Reply Прогнозы на футбол 10 يوليو، 2024 - 7:01 ص Hi! I could have sworn I’ve been to this web site before but after browsing through some of the posts I realized it’s new to me. Anyways, I’m definitely pleased I discovered it and I’ll be bookmarking it and checking back regularly! Reply Прогнозы на футбол 10 يوليو، 2024 - 9:10 م Hi, i think that i saw you visited my blog so i came to return the favor.I am trying to find things to improve my site!I suppose its ok to use some of your ideas!! Reply Прогнозы на футбол 11 يوليو، 2024 - 10:01 ص I am actually happy to read this blog posts which contains lots of helpful data, thanks for providing such information. Reply Прогнозы на футбол 11 يوليو، 2024 - 10:55 م I am extremely inspired together with your writing talents and alsosmartly as with the layout in your blog. Is this a paid subject matter or did you customize it yourself? Either way stay up the nice quality writing, it’s rare to see a nice blog like this one these days.. Reply автомойка под ключ 14 يوليو، 2024 - 11:30 م Строительство автомойки под ключ – это наш профиль! Обещаем качество, соблюдение сроков и построение устойчивого бизнеса от идеи до открытия. Reply Джак 15 أغسطس، 2024 - 11:17 ص I couldn’t resist commenting. Perfectly written! Reply Jac Амур 18 أغسطس، 2024 - 11:40 م I like the valuable information you provide in your articles. I will bookmark your weblog and check again here frequently. I am quite certain I will learn a lot of new stuff right here! Good luck for the next! Reply theguardian.com 22 أغسطس، 2024 - 6:23 م I like what you guys are usually up too. This type of clever work and exposure! Keep up the awesome works guys I’ve you guys to blogroll. Reply theguardian.com 25 أغسطس، 2024 - 3:30 م Now I am going away to do my breakfast, later than having my breakfast coming yet again to read more news. Reply theguardian 28 أغسطس، 2024 - 5:59 م This blog was… how do I say it? Relevant!! Finally I have found something that helped me. Thanks a lot! Reply Leave a Comment Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment.